إذن ما هو الإنسان الأعلى؟

 

نادر أبازيد

 

مفهوم "الإنسان الأعلى" في الفلسفة كان على الدوام مفهومًا مجازيًّا، استُخدِمَ للدلالة على إنسان يمتلك قدرات روحية وبدنية خارقة تفوق ما لباقي البشر. وبهذا اتخذ مفهوم "الإنسان الأعلى" صورًا مختلفة: فهو إما زعيم سياسي مطلق السلطة، متحرِّر من القيود الأخلاقية (من نمط "أمير" ماكيافيلِّي)؛ وإما فنان عبقري، بل وساحر مشعوذ، كما هي حال فاوست عند فلاسفة المرحلة الألمانية الكلاسيكية (غوته)؛ وإما هو المسيح ذاته أو القديسون في المسيحية؛ أو هو البطل الأسطوري في ميثولوجيا الحضارات المختلفة.

غير أن مفهوم "الإنسان الأعلى" بلغ أوج شهرته عند فريدريك نيتشه، حيث يشكِّل هذا المفهوم أحد الركائز الأساسية لفلسفته. فمفهوم "الإنسان الأعلى" عنده يرتبط بالتحرر الكامل للإنسان من الأخلاق والأديان، وحتى من كافة الأفكار الفلسفية السابقة – الأمر الذي يؤدي، بحسب نيتشه، إلى تحرير القوى اللاعقلانية في الإنسان؛ الأمر الذي يستوجب، بدوره، ما سمَّاه نيتشه بـ"قتل الإله" أو قتل الرب. لذا دعا نيتشه إلى القيام بأفعال خارجة عن نطاق الأخلاق للحصول على" التحرر الكامل". وهذا ما يفسر قيام أتباعه من بعده باجتراح ما سُمِّيَ بـ"الجريمة الكاملة".

إلا أن ما نلاحظه من كتابات نيتشه هو أن صورة "الإنسان الأعلى" لم تكتمل عنده إلى النهاية – الأمر الذي دفع العديد من الفلاسفة، مثل فوكو وهايدغر، إلى وضع تصورات عن هذا "الإنسان الأعلى". وهذا بالضبط ما سأحاول طرحه؛ أي سأحاول، من خلال نيتشه، أن أبرهن أن "الإنسان الأعلى" سوف يتصف بصفة محددة واضحة، لا مجال للإنسان أن يكون إنسانًا أعلى من دون أن يكتسبها. وليتحلَّ القارئ بالصبر.

إن الإنسان، من بين كلِّ الكائنات الحية الموجودة على سطح الأرض، يستطيع أن ينظر إلى نفسه نظرة نقدية؛ ليس بمعنى أن ينظر إلى نفسه نظرة عدم رضى تجاه فعل أو حالة معينة تعتريه (إذ إن الحيوانات هي الأخرى تتمتع بذلك)، وليس بمعنى شعور الاكتئاب (الذي يشعر به الحيوان أيضًا)، بل بمعنى أن ينظر نظرة سلبية إلى كيانه، بل إلى طريقة وجوده كلِّها, فيرى أنها ليست الواقع الذي يجب أن تكون عليه. فالإنسان يحاكم نفسه دائمًا؛ وعندما يحاكم نفسه محاكمة عقلانية عادلة يدين نفسه ويستنكر ذاته، فيتوصل إلى حقيقة عدم كماله، بل ويستنتج أن عدم الكمال هذا ليس ضرورة خارجية، بل هو يتعلق بالإنسان نفسه: فهو قادر على تغيير واقعه.

هناك، إذن، دافع طبيعي داخلي لدى الإنسان يجعله يرغب في الكمال اللامتناهي؛ إذ إن عنده رغبة طبيعية في أن يصير أفضل وأكبر مما هو عليه في الواقع، وأن يسعى نحو الغاية الأسمى: "الإنسان الأعلى".

فإذا كان الإنسان يرغب حقًّا في بلوغ الإنسان الأعلى فهو يستطيع ذلك؛ وإذا كان يستطيع تحقيق ذلك فهو، إذن، واجب عليه. ولكن لنتساءل الآن: أليست فكرة أن يصبح الإنسان أفضل مما هو عليه هو مجرد هذيان وهاجس مرضي ليست له علاقة بالواقع؟ نعم، إنها مجرد هذيان بالنسبة للحيوان؛ إذ إن الواقع، بالنسبة للحيوانات، هو ما يتحكَّم بالحيوان وما يُكوِّن الحيوان. أما الإنسان فحالة مختلفة. فعلى الرغم من أنه هو نفسه نتاج الواقع، إلا أنه يستطيع أن يؤثر في هذا الواقع من الداخل؛ وبالتالي، بطريقة أو بأخرى، واقعُ الإنسان هو ما يفعله هو نفسه.

إن النمو الفسيولوجي للكائنات الحية تمَّ على الدوام عن طريق التطور التدريجي والانتقال من الشكل الفسيولوجي البسيط إلى المعقد، حتى بلغ درجة من التعقيد لا يمكن معها، للوهلة الأولى، معرفة أي رابط هناك بين الشكل الفسيولوجي لجسم ذي شكل فسيولوجي معقد والأجسام ذات الشكل الفسيولوجي الأبسط. فمثلاً، أي رابط يمكن أن نلحظ بين السمكة والحصان أو بين النخلة والفطر؟ وبالمقابل فإن النمو البسيكولوجي للكائنات الحية، على الأقل عند الحيوانات، تمَّ بنفس الطريقة السابقة. فلو افترضنا توقف النمو الفسيولوجي عند السمكة، مثلاً، فإنه لا يمكن الحديث عن أيِّ تطور أو نمو بسيكولوجي؛ إذ إنه من البديهي أن الشكل الفسيولوجي البسيط للسمكة لا يمكن أن يتسع لنمو بسيكولوجي لكائن ليس كالإنسان فحسب، وبل لكائن أقل تعقيدًا، كالكلب مثلاً. إذن فالنمو الفسيولوجي عند الحيوان هو شرط أساسي لنمو بسيكولوجي.

غير أنه مع ظهور الإنسان، توصَّلنا إلى نوع من الكائنات الحية التي، من جراء تطورها النوعي عن غيرها من الكائنات، لا تحتاج لأيِّ تغيير كبير في بنيتها الفسيولوجية والبسيكولوجية. فهذا الكائن، مع احتفاظه بنفسه من دون أي تغيير، يستطيع أن يحقق مستويات لانهائية من التطور البسيكولوجي، تتراوح بين الإنسان البدائي الأشبه بالحيوان وبين أرقى عباقرة الفن والفكر. إن هذا التطور البسيكولوجي يؤثر طبعًا على المظهر الخارجي للإنسان؛ لكن هذا التغيُّر تافه، غير ذي أهمية من الناحية البيولوجية.

قد يبدو الآن أن كمال الإنسان من الناحية العضوية يتعارض مع ما طرحتُه من حقيقة سعي الإنسان لأن يكون أكبر وأفضل من واقعه، أو – اختصارًا – لسعيه للوصول إلى "الإنسان الأعلى". الحقيقة أنه ليس هناك أيُّ تعارض؛ فهذا السعي يتعلق فقط بـالناحية الوظيفية للشكل الفسيولوجي والبسيكولوجي. أي أنه يمكننا، مثلاً، أن نكون غير راضين عن واقع ضعف حاسة البصر لدى الإنسان، ولكن ليس عن أن لدينا عينين اثنتين فقط؛ إذ إنه لكي نرى أفضل لا توجد حاجة للإنسان أن يغيِّر شكله الفسيولوجي، أو يغيِّر شكل العضو المسؤول عن البصر. فبالنسبة له ليس من الضروري أن تكون له عدة عيون، مثلاً، لأنه عن طريق العينين التي يملكهما يمكن لضعف البصر أن يُلغى عن طريق اختراع التليسكوب والميكروسكوب. فبنفس العينين اللتين يملكهما أمكن للإنسان رؤية أصغر الأشياء وأبعدها؛ وبنفس هاتين العينين التي يملكهما يمكنه بلا شك أن يصبح "الإنسان الأعلى" – في حين أن تزويد الذبابة بمائة عين لن يغيِّر من واقع أنها ذبابة ليس إلا. وهذا الوصف ينطبق على جسم الإنسان كلِّه؛ إذ إن الشكل الفسيولوجي والبسيكولوجي للإنسان لا يعيق، بأيِّ حال من الأحوال، تغلُّبه على نواقص واقعه كشكل فسيولوجي وبسيكولوجي، وارتقائه بهذا الواقع إلى واقع آخر يصبح فيه إنسانًا أعلى بالنسبة للشكل السابق.

والعقبات التي يجب على الإنسان أن يتخطاها ليست فقط الناحية الوظيفية لأدائه، بل والظواهر التي تسيطر على الإنسان والتي غالبًا ما يعتبرها البشر ظواهر عادية وطبيعية أيضًا. وفي مقدمة هذه الظواهر "الموت".

ففي واقع الإنسان ليس هناك شيء يجعله ينظر إلى نفسه نظرة نقدية أكثر من الموت. فالموت، كنهاية حتمية لوجود الإنسان، هو نفي له ككائن وقضاء عليه؛ بل إن الموت يجعل من حياته عبثًا لا معنى له. فالإنسان لا يمكنه، في أيِّ حال من الأحوال، أن يتعايش مع فكرة الموت كنهاية حتمية لوجوده. لذا فإن ما يجب أن يختلف به الإنسان الأعلى عن الإنسان العادي (الحالي القابل للموت) هو أنه سيهزم الموت كظاهرة تنفي وجوده. (للمناسبة فإن هذه الصفة بالذات هي الصفة التي كانت تميِّز البشر عن الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية: فالآلهة خالدون والبشر ليسوا كذلك.)

لذلك فإن الإنسان الأعلى هو حتمًا الإنسان الذي سيهزم الموت. بل إن هزيمة الموت كظاهرة تؤدي إلى القضاء على الأخلاق، وتحرر الإنسان منها إلى الأبد. وهذا هو الشيء الذي أفنى فريدريك نيتشه حياته في الدعوة إليه. إذ إن القضاء على الموت سوف يؤدي، بالضرورة، إلى زوال الأديان التي تشكل المنبر (الأهم) للأخلاق؛ إذ إنها عند ذاك تفقد مصداقيتها ولا تعود سوى ميثولوجيا مملة.

وعلى الرغم من أن كلَّ الأنواع الحيوانية تخضع لظاهرة الموت، إلا أنها لا تصارع الموت كظاهرة؛ لذلك لا يمكنها أن تهزمه. وحده الإنسان هو الحيوان الذي لا يتعايش مع قابليته للموت؛ لذا فهو وحده المؤهل لهزيمته. الآن – منطقيًّا: إذا كان الموت يشكل ضرورة حتمية في الظروف الراهنة فمن قال إن هذه الظروف غير قابلة للتغيير؟

المهمة صعبة، بلا شك، لكنها غير مستحيلة. فالظروف التي يخضع الإنسانُ ضمنها للموت معروفة علميًّا؛ لذا فإن تغيير هذه الظروف هو الحلُّ المنطقي للمعضلة.

إن الإنجازات العلمية الأجدَّ في فكِّ الشيفرة الوراثية والاستنساخ تفتح آفاقًا واسعة، وعملية بالفعل، للقضاء على الموت – وإن مازالت في طور النظرية، وستظل باعتقادي كذلك حوالى خمسين سنة أخرى. إلا أن ما يبدو اليوم ضربًا من الخيال لا بدَّ أن يتحقق. فقبل مائة عام فقط كان الوصول إلى القمر يُعتبَر ضربًا من الجنون؛ أما اليوم فهو ليس إلا حقيقة عادية. (وما أكثر الأمثلة في التاريخ على مثل هذه التنبؤات التي تحققت!)

المهم اليوم أن الإنسان قام بالخطوة الأولى نحو وصوله إلى "الإنسان الأعلى" والوصول إلى أعلى وأرقى تجلِّيات إرادة القوة. وأخيرًا لا يمكنني سوى التذكير بما قاله فريدريك نيتشه: "الإنسان ليس سوى مرحلة وسيطة، لا هدف لها سوى الوصول إلى الإنسان الأعلى."

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود