|
خربشات في جسد الوقت 5 فؤاد
رفقة
في
زمن بحبوحة العطاء من القرن الفائت كان مقهى
الـ"هورس شو" ملتقى أهل الفنِّ والفكر
والثقافة في لبنان ومحيطه العربي. في زاوية من
هذا المقهى كان يجلس، أمامه فنجان قهوته، وفي
يده ورقة بيضاء يرسم عليها ما يلتمع في
أحاسيسه ومشاعره، كما لو أنه غائب عن الوجود،
عن مسارح "الهرج والمرج" حوله. ذات يوم جلس الحطَّاب
قريبًا منه. رآه يلتفت إليه باستمرار فيما هو
غارق في الرسم. وبعد مرور الوقت تقدَّم منه
وأهداه رسمًا لوجهه لا يزال الحطَّاب يحتفظ
به إلى هذه اللحظة. هكذا تمَّ التعارف
بينهما. كانا يلتقيان، يدردشان، وفي نهاية
الأمر يفترقان، كلٌّ في اتجاهات هذه الأرض. لكن الحياة امرأة
سريعة المدِّ والجزر. تحولت الرياح، تفجَّرت
الغرائز في الشوارع وفي الزواريب. من أوكارها
خرجت الأنياب تلتهم الجثث والجماجم. وهكذا
اختفى الواحد عن الآخر حتى أوائل التسعينات.
في تلك الفترة ظهر "سيتي كافيه" إلى
الوجود لصاحب الـ"هورس شو" قديمًا، فصار
ملجأً للهائمين على وجوههم – وبينهم صاحبُ
القبَّعة المكسيكية والحطَّاب. في "سيتي كافيه"
كان يجلس قريبًا من المدخل، في يده جريدة
يقرأها – كعادته – مستغرقًا في أجوائه، كما
لو أنه في مرسمه، إلى أن يطلَّ صديقٌ له يقطع
عليه استغراقَه. وتواترت الأيام حتى
الزلزال الكبير، عندما بدأ الحطَّاب يلاحظ
فراغ مقعده الدائم في "سيتي كافيه" بسبب
المرض الذي رافقه حتى النهاية. ومات. صحيح أن ألوف الأجساد
البشرية تنزلق كلَّ لحظة إلى عالم الرماد،
تاركة وراءها مساحات من الفراغ، غير أن
الفراغ الذي يُحدِثه الفنان برحيله إلى جزر
الطقوس الضبابية يلامس أوتار الفضاء الوسيع،
كما هي الحال في رحيل رفيق شرف. برحيله تكبر مساحة
الفراغ، لا لكونه مبدعًا فقط – والمبدع
الفنِّي هدية من الأقدار للوجود – وليس فقط
لكونه متجذِّرًا في تربته الحضارية حتى خيول
الجاهلية ونجومها، وليس فقط لكونه مرآةً
للسَّماء البقاعية وطيورها، بل لأنه، في صورة
ممتازة، صديق للطبيعة حتى الالتحام الكبير،
كما هو واضح في شفافية أعماله، في عفويَّتها
وبساطتها – على عكس اللاهثين خلف التقنيات
المفتعلة على حساب العالم الداخلي. في هذا العصر – عصر
الحسابات والبراغي، عصر اللهاث المحموم وراء
الجديد، بعيدًا عن صداقة الطبيعة – في عصرٍ
كهذا، أن يبقى المبدعُ صديقًا للطبيعة حقيقةٌ
تشبه المعجزة. رَحَلَ رفيق شرف.
خسره الباقون تحت الشمس، وربحتْه الطبيعة.
فهي دومًا تستردُّ رفاقها المخلصين، وبهم
تحتفل – كالبساتين – بالأمطار بعد الهجير. لعلها الآن في عرس.
ولعله الآن فارس الوليمة. *** قبل
بلوغه الجسرَ يتفرَّع نهر النَّكَرْ إلى
جديلتين هنديتين: واحدة تغسل أرجل الشِّعر،
واحدة تجفِّفها. بينهما، تحت جذوع الكستناء،
تمثال شاعر في يده كتاب، على النهر يقرأ قصائد
هُلْدِرْلِن، وفي غيومه يقرأها النَّهرُ على
البراعم المقبلة. *** الحبُّ
نافذة، اتجاه بلا تخوم. لذا لا يعرف الحبَّ
مَن يحاصرُه الجسدُ. *** من
خربته يقرأ النجومَ، تحوُّلاتِ
الشجر، فجواتِ
الأفق، وفي
البحر مصائرَ السُّفن. فلماذا
الكتب؟ لماذا
الهلوسات؟ *** بالفضاء حين
يلتحم القلب لماذا
يتعثَّر اللِّسان يسقط
القلم تموت
الورقة؟ *** كان
شاعرًا فأمضى حياته في الظلِّ، بعيدًا عن
العيون والآذان، مكتفيًا بالرَّغيف
والزَّيت، فَرِحًا بالوجود. كان شاعرًا فصادق
نفسه. وبعد خروجه إلى العالم أثقلتْه الأصباغ
والأقنعة، تحوَّل إلى مهرِّج، فصادق الجميع
– إلا نفسه. كان شاعرًا فهرب من
الشهرة. وحين سعى إليها هرب منه الشِّعر. كان شاعرًا فكان ساطع
الحضور – والحضور غير الشُّهرة. ففي الحضور
تحضر الحقيقة. أما في الشهرة فتحضر الشَّطارة
والحربقة. كان شاعرًا فصادق
الحقيقة. *** الوداع
أيتها الحربة، أيتها الشباك، يا أعماق البحار!
طويلاً كان الصراع مع الحيتان، وقليلة كانت
الغلة. خير له الآن أن يمدَّ
الحصير، وأن يغفو مع الآخرين، قريبًا من
الصخور الآمنة. *** على
مقعد تحت فروع الكستناء يتأمل ثمارها، خضراء
ليِّنة القشور. تحت قشورها اللينة غلاف قاسٍ
كوجه الحجر، وتحت غلافها الحجري ترقد الثمرة
في انتظار الموقد أوان الشتاء. خلف تخوم النظر،
أبدًا تحت القشور القاسية، غَبَشُ الأسرار. *** من
أيام بعيدة لم يعرف الهيكل، لم يركع، لم يُشعل
المبخرة، ولم يتناول القربانة والنبيذ. ومع
ذلك، تغمره برضاك فتهديه إلى هذا المكان، إلى
هذه الروعة الشفَّافة، حتى تخومكَ يا ألله! *** بالشجر
يتصبَّح الوجهُ، بالطيور المرقطة، وبالشمس
الندية فوق القمم. نعمة يعيشها الحطَّاب
ومضارب الهنود الحمر. لحظة واحدة، أيتها
اللحظة اليافعة! لو تجمدين كمرساة في مجاري
الرياح! *** بعد
ساعة يجرُّ الحقيبة في المحطة، ينتظر الباص،
عائدًا إلى عالم الجنون والهلوسة. وداعًا أيتها
الأحراج، أيتها الشمس البهية. جميلة كانت
الأيام وسريعة الزوال. *** يستحقُّ
العقاب الإلهي! فهو قاتلُ أبيه، وراجم أمِّه،
وذابح أسْرته. ولكن، يا ألله، هل كان ممكنًا
أن تجري الأمور في اتجاه آخر؟ وإذا كان هذا
ممكنًا لِمَ حَرَمْتَه رعايتَك؟ إن بِحارًا
من الحرية التي منحتَها إياه لا توازي لحظة من
صراخه في هاوية اللهيب: "قطرةً من الماء،
قطرة واحدة لا غير، يا أبتِ!" *** يتمشَّى تحت
دلبةٍ يتوقف يرفع
النظر في
بريق أوراقها ظلالُ
ضيعةٍ كانت
له الرغيف والسراج. بينهما
الآن على الدَّرجات لهاثُ
الزواحف عناكبُ
الظلمات. *** أوتار
كونية متناغمة، من أنغامها تلك الشجرة التي
في أوراقها يتنفس الخريف وسط المرج. كيف يسكت؟ كيف يقوى
على السكوت؟ كيف لا يقفز من النافذة، وفي
أعضائه يُشعِل النار عائدًا إلى عناصر الأرض،
إلى خلايا الرحم الأولي، إلى البيت؟ روعةٌ كونية! لو كانت
راعية النجوم معه! *** البارحة
ذكرى ولادته. بينها وبين هذه اللحظة أكداسٌ من
الأعوام المتأرجحة، هنيهات تحت بريق الشمس،
أيام في مغاور الظلمة – ومع ذلك يرغب في
البقاء كالأسوار، وفي الفضاء كالرياح. ماذا ينفع الإنسان لو
ربح مملكة الأموات وخسر زنابق الحقل؟ *** الحبُّ
نافذة مفتوحة، اتجاه بلا تخوم. لذا لا يعرفه
من يحاصره موقدُ الجسد. إنه العبور إلى الله. *** على
الأعمدة والجدران تُلصَق أوراقُ النعي. لا
أحد يتوقف، لا أحد يفتح عينيه ويقرأ. أبدًا
ودائمًا أقدامٌ مسرعة في أحذية الجنون. *** كلَّ
مغيب ترتجف ورقةٌ في شجرة العمر، تتأرجح،
تسقط. بلا صدى تسقط في رغوة النهر. ومع ذلك
تسحرُه حمرةُ المغيب كوردة، كامرأة لن تعود. *** ريحٌ، موجٌ
يرتعش، يغسل
الهواء، يمشِّط
الصخور، يُبَلْوِرُ
الجسد. لم
يعرف أنَّ
ملوحة البحر تشفي
الجروح. *** ما
أبعده عن الشعر مَن
يحصرُ الأفقَ الشعريَّ في تجربته الخاصة لا
غير! على المستوى الشعري هو في سنِّ المراهقة. *** ثلاثة
شهور قبل ولادته، نظر والدُه إلى صغاره
النيام. في هدوء أغلق الباب وراءه، ومن دون
حقيبة صعد إلى الباخرة. على سطحها أمضى أربعين
يومًا في الدوار بين المناخات والجزر. وفي
المرفأ الأخير خرج إلى البرِّ. كانت "الكَشَّة"
في انتظاره. من بيت إلى بيت، من
شارع إلى شارع، من ضيعة إلى ضيعة، يجتاز
الأنهار، يجانب اللصوص وقُطَّاع الطرق، و"الكَشَّة"
على ظهره، صغاره بين عينيه. يتصورهم كبارًا في
المدارس والجامعات، ويفرح. يفيض عزيمة وقدرة
على الصبر والاحتمال، رغم الشيخوخة والأوجاع. ومرة، في وحشة مغلقة،
نهضتْ من الضباب صورةُ البيت، صورةُ الأولاد
والحبيبة، صورةُ الرفاق القدامى والبساتين،
فقال في نفسه: "ها أوان الرجوع قد حان، ها
أوان القطاف! ولكن كيف؟ المهمة لم تكتمل.
فالصغير الذي ما رأيتُه وما رآني في حاجة إلى
الدراسة في الجامعة. سنوات قليلة مع "الكَشَّة"
والطرقات، أعود بعدها للقطافِ الداكِنِ
الثمر." لكن القطاف لم يختمر،
لأن القلب توقف عن الحركة في ليلة لم تكن من
ليالي العمر. وفي أحد الأيام
اليابسةِ الدماء كان الفتى الجامعي يخرج من
البوابة الرئيسية. رأى برقية إليه. بلهفة
فتحها. قرأ: "والدك مات." نحن نترك الفتى
الجامعي مع برقيَّته. نتركه لأن الله وحده كان
قادرًا على الإنقاذ. وفي تلك الأيام أغلق
والدُه الباب. في هدوء أغلقه وهاجر إلى كوبا.
هاجر ولم يعد. لا أحد يعرف أين
القبر. *** الجسد
رادار العقل ودليله إلى الاتجاه. العقل عكازة
الجسد في الطريق إلى الاتجاه. الجسد بوصلة
السفينة، والعقل مجاذيفها. *** إلى حقله يعبر
المسالك أوَّل الربيع، فأسُهُ على كتفه، منجلٌ في يده. تحت شمس واسعة
المحاجر في الصيف يحرس الغلَّة. على ظهره في الخريف إلى الخوابي يحمل
الأكياس. وفي الشتاء خلف أبواب مغلقة على حصير من جدائل
الوعر يضيء الرغيف، وفي نكهة النبيذ رائحة الشمس. *** خلفَ
طواحين النهار جدائل النجوم. خلفَ جدائل
النجوم طواحين النهار. بينهما الأسرار خُلسةً
تنزلق. تصير الأنسام التي توشوش النوافذ
منتصف الليل، وتوقظ الأرق. *** رغم التجاعيد لم يمدَّ الحصير لم يوقدِ الحطب وتحت العتبة على كرسي عتيق لم يقعد. يخاف أن يستريح فيسقط مثل طائرة الورق عند سكوت الريح. *** عند
المنابع في صنين جذورُه عطشٌ للغيوم في شواهق
الألب. في أعالي الألب غصونُه عطشٌ للسماء في
صنين. دائمًا هذا العطش،
عطش الجذور، عطش الغصون. بينهما مساميره،
غناؤه. *** في
غرفته، لا صدى خطوة في الشارع، لا همسة ريح،
لا خربشة على الباب. في يده كأسه، يتذكر.
بين عينيه تعبُر الوجوه، وجوهُ الرفاق
الراحلين. يعرف أن الوقت لن
يطول إليهم، لن يطول الوقت. *** في
الطريق إلى الشعر يكتب الشعر. على حافته يتحول
إلى إشارة، إلى إيماءة. وفي الشعر يشتعل، يضيء
الغابة ويصمت: يصير شاعرًا. هولْدِرْلِن، نيتشه،
ريلكه، شعراء العناصر قبل سقراط. *** الفكر
والشعر نجمتان في سماء الليل، بينهما
المسافات والأعماق – ومع هذا، عاشقتان،
خُلْسةً تتبادلان النظر، على خيوط رقيقة خطرة
تعبران، معًا تسهران حتى صياح الشفق. *** في
مثل هذا الوقت يستريح "نبع الشيخ حسن" من
الأقدام الغريبة، فيجري مسترخيًا في
بساتين ضيعته، حاملاً
في تجاعيده ورق الدلب والحور، وذكريات صيف
واسع لن يعود. في مثل هذا الوقت
يجلس إلى
النافذة مع فنجان قهوته، يتأمل المطر
المتراخي على الغابات والمروج وعلى المقاعد
المهجورة تحت الشجر. يتأمل، وبين عينيه صورة
دافئة، صورة ضيعة كانت له الغناء. ما
أغباه! يدرك متأخرًا أن المكان الدافئ
امتدادٌ للجسد والروح، وأن الحياةَ في البُعد
عنه ريشةٌ هائمة في ريح عمياء. *** في
مروج بلا رعاة أرامل
النخيل، زعيق
الغربان، خناجر
الأعناق. في
مجاري الأمطار إلى
الفرات، إلى
البحر، إلى
القاع الأخرس. على
جسر دجلة لن
تسهر امرأةٌ بعد الآن، لن
تعدَّ النُّجوم. في
بابل الرماد جدائلها
رماد. *** بالشجر
يتصبَّح الوجه، بالطيور المرقطة، والشمس
الندية فوق القمم، نعمة يعيشها الحطَّابُ هذه
الآونة، ومضاربُ الهنود الحمر. لحظة واحدة، أيتها
الغبطة اليافعة، لو تجمدين كمرساة في مجاري
الرياح. *** تحت
النافذة حديقة، عند سياجها شجرة تفَّاح.
طويلاً يتأمل ثمارها السَّاقطة ولا يرتوي،
ربما لأنها سترحل معه في المركب إلى القاطع
الآخر. إنها رفيقة السَّفر. *** لا
شيء، لا فرح، لا حزن.
متعَبٌ كأرجلٍ في نهاية سباق خاسر. *** غابة
بعد عاصفة هو الآن. يرمق أوراقه المتناثرة،
جذوعه المتكسِّرة، أغصانه المبعثرة بين
أشواك الوعر، ويصمت. يعرف أن الوجود مفاجآت،
تباغت النوافذ والأبواب. المهم هو القدرة على
الثبات بعيون واسعة الأحداق. *** في
أزمنة القحط الإبداعي تتوسع الحناجر، تنفجر
العروق من الصراخ، وفي الشوارع تزعق الأبواق،
تهدر الطواحين، تقتحم الأسوار صرعاتٌ عابرة،
جارفةً معها ما يستمر وما يبقى. في هذا القحط
تنتصر القشور على عتمة البذور، والرغوة على
ضبابية الأغوار. في أزمنة القحط
الإبداعي يتبخَّر العالم الداخلي. وها العمل
الفنِّي تقنية يابسة، لا روح فيها، لا حياة،
ولا دماء. في أزمنة القحط
الإبداعي نستعجل القطاف. وها الغلَّة خالية
من العصير المختمر تحت شموس الظهيرة في
النهارات الواسعة. وفي مواسم الخيرات؟
تتساقط الأصداء. إلى مغاور الصمت يلجأ
العرَّافون الكهنة، وفي الليل كأسرجة
يطوفون، يفتحون النوافذ في جسد العالم. في مواسم الخيرات
الكثيفة يصير الكهنةُ أندر من الآلهة. *** الكلمة
الشعرية اعتراف. إنها عجينةُ العالم الداخلي،
دمُه وشرايينُه. ومع هذا، هي شيء آخر عندنا،
بينها وبين "شاعرها" مسافات النجوم،
غربة لا تقوى عليها جسورُ الأرض ومعابرُها. *** غوته:
"من يطرد الشعر من العالم؟" الجواب: "الشعراء."
لماذا؟ لأنهم يتكاثرون، يثرثرون، عاليًا
يرتفع زعيقُهم، لهاثُهم، حتى الاختناق. *** على
تخوم الدمع أبدًا
عيناه ولا
تدمعان. *** جليد
في اللسان، في
الحنجرة، في
مفاتيح الأوتار. فأين
الغناء يدقُّ الأجراس، يدعو
العابرين إلى المائدة، إلى
الرغيف المقدَّس. في
قاعة باردة الأبواب بلا
سراج وحيدًا يسهر الشاعر حتى
مجيءٍ آخر. ***
|
|
|