|
القراءة
بين الاكتشاف والتأويل
عزيز
التميمي
كثيرة هي
المحاولات التي تشتغل على إعادة فلسفة مفهوم
القراءة، من حيث هي عملية اكتشاف قبل أن تكون
تأويلاً للنصِّ المكتوب. ويبدو، للوهلة
الأولى، أن مفهوم الاكتشاف أقرب إلى تأكيد
صحة الادِّعاءات التي تدعِّم مفهوم القراءة
على أساس أنها عملية اكتشاف كخطوة أولى في
لحظة أولى – وهي
هكذا تبدو بمفهومها التقليدي. وإذا حاولنا
تدوين مفهوم "القراءة" كمصطلح فهذا يعني
أننا نميل إلى تضمين معنى الاكتشاف.
فالقراءة، كفعل ذهني ومنجز عقلاني، تعرِّف
مجموعة لحظات لحالة استكشافية أولى؛ وهي،
كفعل آلي، تعمل على تدوين مجموعة انطباعات
ذهنية تمثل الحالة الآنية لأثر النصِّ أو
المنجز الذهني المكتوب – هذا إذا ما سلَّمنا
جدلاً أن فعل القراءة يقع على المنجز الذهني
المدوَّن؛ إذ لا يمكن للقراءة أن تؤكد
مفهومها بعيدًا عن أرضية النصِّ المكتوب. هذا يدفع إلى الاستنتاج، أو
بالأحرى، التركيز على اللحظات الأولى
للقراءة، وعلى كيفية تشكيل المفهوم العام
للتسمية التي تكون أكثر ملائمة لوصف عملية
القراءة في تلك اللحظات. فقراءة النصِّ
تستلزم الخوض في عدَّة مستويات، أو لنقل، عدة
مراحل؛ وهذه تتم بشكل تدريجي يتوقف على ماهية
القارئ الذي يمثل أحد أهم آليات القراءة –
وهو يقع خارج حدود هذا المقال الذي يعمل على
تشخيص كينونات القراءة ضمن العملية الكلِّية
التي تمثل محاولة قرائية معرفية متكاملة.
وأقصد بـ"المحاولة القرائية المتكاملة"
تلك المحاولة التي تبتدئ بلحظات انطباعية
أولى تشكل مبرِّرًا لتَواصُل القراءة، تليها
حالة استنطاق لمركِّبات النص ومفرداته،
تتبعهما حالة تأويل فلسفية وفق رؤية
معينة يحددها الفاعل أو القائم بفعل القراءة.
فإذا اقتصرت عملية القراءة على انطباعات
أولى، دون أن تؤدي إلى إنتاج نصٍّ آخر، هو
الأثر الملموس لفعل القراءة، لا يمكننا أن
ندَّعي أن هناك عملية قراءة منجزة. فلحظةُ تدجين النص تبدأ مع
الحراثة الأولى لمساحاته – الحراثة التي
تأتي مع تنامي الرغبة في التواصُل، اللحظة
المشحونة بالهمِّ الآني التي تلامس آهاب
المتشكل من البنيات الخارجية وتتحرَّى
الهيكلية المفصلية للنصِّ، فتأتي لحظة
استفزاز مقصودة، لحظة تثوير المعنى بشكله
المبسط؛ وربما هي محاولة اختبارية لعوالم
النصِّ وتأكيد لأدوات القراءة. ويمكن القول
إن المحاولة الأولى هي تدوين الانطباع الأول
لحالة لاحقة قد تكون ممكنة أو عسيرة. وترافق
حالةَ التنوير هذه حالةٌ تدوينية. فالاكتشاف
يمثل حالة تبديد الضباب وتمكين الرؤية من
النشوب في آهاب أفق متجدد، ويمثل أيضًا حالة
استقرائية لأدوات الكتابة. فالنصُّ المكتوب
هو منتج ذهني؛ وهذا المنتج مبني وفق شبكة من
الرؤى والعلاقات، ومحكوم بآليات كثيرة
نَزَعَ الكاتبُ لاستخدامها بتصور معين.
فالقراءة هنا، كحالة أولى، تمثل محاولة لفكِّ
رموز هذا التشابك الذي يؤدي إلى إنتاج رؤية
محددة تجاه آليات الكتابة؛ وبالتالي تكون
القراءة، في سَفَرها الأول، قراءة تكوينية،
قراءة استنطاقية لأنساق كتابية، قد تكون
لغوية أو فلسفية وحتى نفسية. ولكن يمكن القول
إن المعنيَّ الأول بفعل الكتابة هو النسق
اللغوي الذي يمثل المنظور الأكثر وضوحًا في
حالة الاكتشاف؛ إذ إن النسق اللغوي يؤدي إلى
ربط التواصل ببقية الأنساق التي تتشكل من
خلاله. ومن خلال اكتشاف البنية السطحية
لِلُغة النص نستطيع أن نؤسِّس سلطة القراءة
كخطوة أولى؛ فاللغة تمثل مدخلاً حيويًّا
لبواطن النص المكتوب. التجسُّس الأول ضمن عملية
القراءة، إذن، هو تجسُّس لغوي لتحرِّي
البنية الشكلية الخارجية لِلُغة النص
المكتوب. وهذا التحري يؤدي إلى إنتاج رؤية
أولية عن المستويات اللغوية الأخرى
المستخدمة في بنائية النص. كذلك تؤسِّس فكرةُ
استنطاق البنى الرمزية والدلالية للنصِّ
لفهم حقيقي للبناء الكلِّي للمنتج الذهني.
ومن خلال عنصر اللغة، تستطيع القراءة أن
تجسِّم الأدوات الفنية الأخرى المعتمَدة في
التكوينات البنيوية والرمزية والبيئات
الزمانية والمكانية المساهمة في إنتاج
التصور البسيكولوجي للنصِّ المكتوب. إذن
يمكننا القول إن القراءة الاستنطاقية
لمجموعة العناصر والبنى التي يتضمَّنها
النصُّ تندرج تحت مسمى القراءة الاستكشافية،
القراءة التي تمهِّد إلى رغبة التواصل مع
الفعل المكتوب. والتواصلية مع الفعل المكتوب
يجب أن تكون مدعومة برؤية واضحة للنبش في
خبايا النص، رؤية مُمَنْهَجَة، لا عشوائية. وهذا يقودنا إلى تأكيد مصطلح القراءة
المنهجية، القراءة التي تؤدي إلى المعنى
بأقصر الطرق، القراءة التي تستطيع أن تشخص
مفاتيح النصِّ ضمن تدرُّجات مستويات المعنى.
فللوصول إلى المعنى الكامن في عمق النصِّ
علينا الخوض في عملية القراءة الاستنطاقية
بمستواها العمودي، المستوى الذي يتجاوز
المستوى السطحي الذي ساهم في فهم شبكة
العلاقات الخارجية للنص – ومنها العلاقات
اللغوية. ولكي يتم إنتاج تصور شامل عن
شبكة البُنى والعلاقات الداخلية والخارجية
للنصِّ المكتوب ينبغي أن تتجاوز عمليةُ
القراءة حالةَ الاكتشاف البدهي المعلن، أو
حالة القراءة البنيوية للنصِّ في حالة
الاكتشاف الأولى، إلى حالة القراءة التفكيكية
لمجموعة البنى والعلاقات المشار إليها ضمن
بنية النص. طبعًا هذا لا يحدث إلا بعد حدوث
القراءة الاستنطاقية البنيوية كشرط لممارسة
القراءة التفكيكية بمعناها الكلِّي. فحالة
الاكتشاف الأولى هي حالة تنويرية، حالة بناء
رؤية تخطيطية لممارسة الفعل التالي لعملية
القراءة؛ ومن خلال هذه المرحلة (الاكتشاف)
تستطيع القراءة أن تؤسِّس لآليات رصينة لولوج
بواطن النصِّ وإكمال عملية الاكتشاف التالي. يمكن تسمية القراءة
الاستنطاقية قراءة تجسُّسية بعدة مستويات،
تمثل القراءة البنيوية المستوى الأول في
سُلَّمها، تليها القراءة التفكيكية التي
تمثل المستوى التالي والتي تعمل على مزاوجة
المعاني والتصورات المستنبطة من القراءة في
المستوى الأول، لتؤدي في النهاية إلى التهيئة
للمستوى الثالث من القراءة، ألا وهو مستوى
القراءة التأويلية التي تؤدي إلى إنتاج
وجهة النظر الكلِّية إزاء النص المكتوب،
وتمثل الخطوة الأخيرة في صيرورة المنتج
الذهني لعملية القراءة، أو ما يسمى بنصِّ
القراءة، النص الجديد المبني على تداعيات
النصِّ المكتوب. القراءة التأويلية تمثل
القراءة المنتِجة، القراءة التي تستثمر ما
أنتجتْه القراءة الاستنطاقية، بمستوييها
البنيوي والتفكيكي. وعليه، يمكننا أن نصفها
بالقراءة الكلِّية، القراءة التي أنتجت نصًا
آخر متكئًا على النص المكتوب، أو القراءة الاستنباطية.
وفي هذه الحالة تكون القراءة قد تجسَّدت، عبر
مراحلها، في صيرورات أو استحالات متتالية
لتثوير المعنى المرجو من وراء عملية الكتابة،
أي تأكيد جدوى الكتابة كعملية بنائية ذات
بُعدٍ دلالي يسهم في المشاركة في تدوين الوعي.
إذن، يمكن تعريف القراءة، من حيث هي عملية
استكشافية تنويرية تأويلية ذات بعد دلالي
مقصود. وبهذا التحديد يمكننا أن نذهب مع
المحاولات التي ترمي إلى اعتبار القراءة
عملية مكمِّلة لعملية الكتابة؛ فلا قراءة
بدون نصٍّ مكتوب. وبالتالي فالقراءة هي فعل
ذهني منتِج يؤدي إلى استنباط نصٍّ جديد يعتمد
في تشكله على آليات القراءة كعملية ذهنية ذات
بُعدٍ مستقل، ربما يستمد بعض سمات تحفزه من
النصِّ المكتوب. وفي كثير من الأحيان تثار
مجموعة تساؤلات حول مصطلح تعريف القراءة: هل
يمكن تعريف القراءة الاستنطاقية في مرحلة
الاكتشاف على أساس أنها وحدة قرائية متكاملة،
بمعزل عن القراءة التأويلية التي تساهم، إلى
حدٍّ ما، في تشخيص الهوية النهائية لمفهوم
القراءة؟ لقد جرت محاولات في فلسفة المعنى،
مفادها أن القراءة يجب أن تكون مؤدية إلى منتج
ذهني، منتج متمثِّل بردِّ الفعل تجاه النصِّ
المكتوب – وإلا فالقراءة تصبح مجرد محاولة
عقيمة لا يمكن تأطيرها بمصطلح القراءة، لأن
القراءة الاستنطاقية، بمستوييها البنيوي
والتفكيكي، تعمل على تحرِّي شبكة العلاقات
والرموز والبنى على أساس مكوِّنات داخلية
للنصِّ تثير استفزازًا في ذهنية القارئ –
بدون القراءة التأويلية التي تستثمر ردَّ
الفعل الذهني لإعادة صياغة وتشكيل ردود
الأفعال تلك إلى وحدة معرفية مستقلة، تعطي
انطباعًا عن هوية النص المكتوب من حيث
النوايا والأهداف. تُعتبَر عملية القراءة كأداء
معرفي، إذن، عمليةً متكاملة تمرُّ بمجموعة
مستويات، تبدأ بالاكتشاف أو التحرِّي الأول،
الذي يسمَّى أحيانًا الانطباع الأول، ثم
مرحلة الاستنطاق التي تعمل على تحليل البنى
الداخلية وتفكيكها، لتمهِّد للقراءة
التأويلية في إعادة تشكيل الوحدات المعرفية
إلى مُنتَج نهائي يصف سلوكَ النصِّ المكتوب
ودوافعَه. وبهذا التعريف يمكننا القول إن
القراءة تتبع تسلسلاً منطقيًّا في التعامل مع
المنجز المكتوب – تعاملاً مثاليًّا لا
عشوائيًا – في استدراج النص إلى مناطق أكثر
إشراقًا. أو، بعبارة أخرى، تعمل القراءة على
النصِّ المكتوب عملاً تنقيبيًّا من حيث قصدية
واضحة؛ إذ لا نصَّ بدون غاية أو دافع معين،
بدون تحديد هذه القصدية في تشكيل الرؤية
الأولى لعملية القراءة التي تمثل عملية
تدوينية تتضمن الاكتشاف والتأويل معًا. ويجب الإشارة هنا إلى أن أنماط
القراءة التي تمثل وحدات قرائية متكاملة إنما
تميل إلى تخصيص الرؤية المنتَجة؛ وهذا
التخصيص يأتي من خلال تحديد البنى والعلاقات
التي تساهم في إنتاج نمط القراءة. وعلى سبيل
المثال، القراءة اللغوية للنصِّ هي منتَج
معرفي لكلِّ ما يتعلَّق بإحداثيات لغة النص
المكتوب؛ وهي تمثل التأثير الفني والسلوكي
لبنيات اللغة في الشكل الخارجي للنصِّ
وتأثيرها في معالجة وحدات البناء النفسي،
ووحدات النسق الرمزي والإشاري، أي إظهار حالة
التشكل اللغوي للنصِّ وعلاقتها التبادلية
بالوحدات البنائية الأخرى. وبنفس الإدراك
يمكن وصف القراءة النفسية والقراءة
السيميائية على أنهما نمطان قرائيَّان
يمثلان وحدتين متكاملتين، وكذلك القراءة
التي تتناول مفهوم الزمان أو المكان مضافًا
إلى ذلك؛ أي قراءة تعمل على تشخيص عنصر محدد
من عناصر الكتابة يمارَس عليه فعل القراءة
كوحدة شمولية ضمن مجموعة قراءات تساهم في
تشييد مفهوم القراءة العام، أي صيرورات
تتشكَّل من مستويات القراءة الاستكشافية أو
الاستنطاقية، بمستوييها البنيوي والتفكيكي،
مرورًا بمستوى القراءة التأويلية، لتطرح
رؤية شمولية لجانب محدَّد من جوانب النصِّ
المكتوب. وهنا علينا التمييز بين
القراءة النمطية التي تمثل صيرورة
متكاملة والقراءة غير الكاملة التي تقتصر على
مرحلة الاكتشاف فقط، والتي تسمى أحيانًا بـ"اللاقراءة"
لعدم طرحها مفهومًا محددًا عن هوية النصِّ
المكتوب. وبهذا الفهم لعملية القراءة نكتشف
القراءة من حيث هي أداء معرفي أو نشاط ذهني
مسلَّط بقصدية لتقصِّي مساحات نصٍّ مكتوب.
هذا التقصِّي محكوم بآليات وعي متوازنة
وبنوايا تخطيطية واضحة ترسم ملامح الغايات
المرجوة من وراء القراءة. هي عملية اكتشاف
واستنطاق، تحليل وتفكيك، تأويل وتدوين؛ أو،
بعبارة أخرى، هي دورة معرفية متكاملة تمثل
مجموعة صيرورات واستحالات تؤدي إلى إنتاج
نصٍّ جديد يمكن تسميته بنصِّ القراءة. *** *** ***
|
|
|