الالتباس الدمشقي

في شعر أدونيس وحياته

 

محمد علي الأتاسي

 

قبل نحو من خمسين عامًا أشاح أدونيس، الشاعر الشاب، وجهه عن دمشق ومضى بعيدًا إلى المجهول. لم يتواعدا إلا على الشعر. شاخت السنوات وذبلت الأيام وهما ينتظران موعدًا مع الوجد. مع الذاكرة. مع الدمع. ينتظران موعدًا مع الشعر. عادت دمشق إلى أدونيس، وعاد الشاعر إلى المدينة ليقرأ عليها من دون إذن.

 

أدونيس يقرأ من شعره في قصر العظم بدمشق (حزيران 2003)

نصف قرن وأدونيس ينتظر أن تدعوه المؤسَّسات الثقافية في بلده إلى بلده. وقد تلقى الدعوة أخيرًا، لكن من بعثة المفوضية الأوروبية في سوريا التي كتب سفيرُها في كتيِّب برنامج الزيارة الآتي: "سيتنقَّل هذا اللقاء، الأول مع أدونيس في سوريا، بين محطات من الشعر والموسيقى والنقاش، وسيسمح لأصدقائنا السوريين أن يتعرفوا بشكل أفضل وأن يثمِّنوا عمل أحد أبنائهم الأكثر شهرة اليوم."

الدعوة كانت أوروبية، في غياب الدعوة الرسمية. لكن أسبوع الأمسيات الشعرية في دمشق وحلب، واللقاءات بين الشاعر وجمهوره، كان سوري الهوى والهوية بفضل جهود منسِّقه العام حسان عباس. غاب عنه الرسميون، وصنعه الناس العاديون – ببهاء الشعر ومحبة الشاعر. في قصر العظم بكى أدونيس وأبكى وهو يلقي قصيدة "تحولات الصقر". ولدى انتهاء الأمسية التي حضرها الألوف، انزوى الشاعر، المنهك حتى الثمالة بزفرات الشعر وصدق الإلقاء، في إحدى الغرف الضيقة وراح يبكي وحيدًا ويشهق كالطفل. خمسون عامًا وهو ينتظر. خمسون عامًا وهو يردِّد:

لا تحرقُ النارُ موضعًا مسَّه/ الدمعُ/ لذلك أبكي/ ينبتُ القرنفلُ في الدمعِ/ لذلك أبكي.

في اليوم التالي صحبتُ الشاعر في جولة قصيرة في أرجاء دمشق القديمة. وفي حيِّ مئذنة الشحم (حي الشاعر نزار قباني) استوقفه أحدُ المارة وقال له: "أستاذ أدونيس، الحقيقة أني لا أفهم شعرك. ولطالما سألت أستاذ اللغة العربية ليشرح لي معانيه. أستاذ أدونيس، أهلاً وسهلاً بك في حارتنا."

النص الذي يلي لا يعدو أن يكون، هو الآخر، تحية إلى الشاعر الكبير، قدَّمتُه في حضوره حول الندوة التي أقيمت بتاريخ 25/6/2003 في مكتبة الأسد بدمشق وشارك فيها فيصل درَّاج ومحمد جمال باروت.

***

المدينةُ – ابتداءً – كلمةٌ في اللغة. نقطة على الخريطة. طوبوغرافيا داخل الجغرافيا. ذاكرة في التاريخ، وتاريخ يأكل الذاكرة. هويات تجمع البشر، وانتماءات تفرِّق بينهم.

وكما للمدن أسوارُها في الواقع لها أيضًا أسوارُها في العقل والمشاعر واللغة. قد تفقد الأسوار في أرض الواقع وظيفتَها، وتحلُّ محلَّها التقسيمات الإدارية؛ لكن أسوار العقل في مجتمعاتنا تظل تعلو، مدماكًا فوق مدماك.

يولد أحدهم في دمشق ويحيا ويموت، ويظل يُنظَر إليه كغريب. ابن مدينة أخرى. أو ابن ريف. ويظل ينظر هو إلى نفسه كغريب! تسأله: "من أين أنت؟" يجيب: "من المدينة أو من القرية الفلانية" – رغم أن حياته كلَّها كانت هنا في دمشق، ولا تزال.

مشروع أدونيس الشعري – بما هو انتهاكٌ خلاق لأسوار اللغة والعقل والهويات الضيقة – هو بالضرورة تحرُّرٌ من المدينة المغلقة، وتحرير لها في الآن نفسه. يقارب أدونيس بنصِّه الشعري واقع المدن العربية، ويرتقي بنفسه وبها إلى مستوى الرمز القادر على فتح حاضر هذه المدن على أزمنة متعددة ومركَّبة، تُحرِّرها شعريًّا من سلاسل التاريخ المؤدلَج الذي لا ينفك يشدها إلى أثقال الماضي المحنَّط وهوياته الجامدة وحقائقه المطلقة، ويمنعها من العبور إلى مستقبل الممكن والمفتوح والمتعدد. المدينة، إبداعيًّا أو حضاريًّا، هي بالنسبة إلى أدونيس زمن أكثر منه مكانًا. بمعنى أن "مكان المدينة ليس هو ما يعطيها هويتها، إنما يعطيها هويتها زمنُ هذا المكان: كيف يتحرك، بماذا يمتلئ، وكيف؟"[1]

سؤال المكان عن زمانه داخل النصِّ الأدونيسي يسمح له بتصعيد المدينة إلى مستوى الرمز والمجاز والصورة، ويحوِّلها لغة داخل اللغة. يقول أدونيس مخاطبًا المدن العربية (مفرد بصيغة الجمع):

أيتها المدنُ العربيةُ التي تتدحرجُ في غسقِ/ اللغةِ/ أتدحرجُ/ معكِ/ لا لأتذكرَ لأرى كيف تتمزقُ على الجسدِ القديمِ ثيابُه/ الأخيرة.

ضمن هذا المنظور، تكاد دمشق، من بين كلِّ المدن العربية، أن تكون المدينة الأكثر حضورًا في شعر أدونيس والأكثر التباسًا، سواء ذُكِرَتْ بالاسم أو وردت تورية ومجازًا.

دمشق في شعر أدونيس هي، في الآن نفسه، المدينة الممكنة والمستحيلة، المفتوحة والمغلقة، المباحة والمحرمة، القبيحة والمغرقة في الجمال. وهي مدينة التماهي مع الهوية ومدينة الخروج عليها، مدينة الطاعة والرفض.

مقاربة حضور دمشق الملتبس والإشكالي في شعر أدونيس تستدعي، بحسب رأينا، مقاربة حضور دمشق السياسة والاجتماع والثقافة في مسيرة أدونيس الإنسان.

نقترح محاولة قراءة مزدوجة للمدينة المعيشة في حياة أدونيس الإنسان، وللمدينة الرمز في شعره. وسنتجنب منهجيًّا أن نقيم أية علاقة تَقابُل انعكاسي أو ميكانيكي بين مستويي القراءة هذه. فعملية الخلق الشعرية، في شكل خاص، والأدبية، في شكل عام، هي في جوهرها تجاوز وتحرر وانعتاق من امتثالية الواقع وإكراهاته. لكنها، في الآن نفسه، لا تكون بمعزل عن هذا الواقع، ولا تقوم باستقلال تام عنه. إنها تؤسِّس، من داخل هذا الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لاستقبال حقلها الثقافي ولامتلاك آلياتها الخاصة التي تدفع بها في اتجاه جماليات جديدة ولغة متفرِّدة وحرية أوسع.

تخترق المدينة المعيشة والمدينة الرمز أزمنة متعددة ومتداخلة. وسنحاول أن ننطلق من زمنين اثنين: الأول يخص المدينة المعيشة – وهو زمن إقامة أدونيس في دمشق، كما يستعيده هو في سيرته الشخصية؛ والثاني زمن تشكُّل دمشق–الرمز في شعر أدونيس، كيف بدأت وأين، وما هي حالها اليوم.

المدينة المعيشة

يعود احتكاك أدونيس الأول بالمدينة إلى العام 1944 عندما ترك قريته الجبلية قصابين قاصدًا بالقنباز الريفي مدرسة اللاييك في مدينة طرطوس. وفي أعقاب الاستقلال، أُغلِقَت المدرسة، فانتقل أدونيس إلى اللاذقية لمتابعة دراسته الثانوية، وانضم هناك في العام 1948 إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ونال في العام 1949 شهادته الثانوية، ثم سافر إلى دمشق لإكمال تعليمه الجامعي.

جاء أدونيس إلى دمشق – العاصمة والتقاليد والتاريخ والجامعة والأحزاب السياسية والانقلابات العسكرية والمدِّ القومي – باحثًا عن مصير آخر. أتى إلى دمشق الخمسينات مسكونًا بهاجس تغيير مصيره، ومسكونًا بالأفق الذي يتيح له أن يقيس نفسه فيه وأن يغيِّر.

لكن دمشق لم تكن أفقًا سهلاً للتغير والتغيير، بل قيدٌ لأدونيس الشاب الهارب من الانتماءات الأولية والخطابات المقفلة والابتذال السياسي. فأدونيس القَلَق الخلاق والهوية الدائمة التشكُّل والأسئلة المنفتحة على المجهول لم يكن ليختصر نفسَه، لا في حياته ولا في شعره، بابن الريف أو بابن الطائفة العلوية أو حتى بابن الحزب السوري القومي. لكن المدينة – السلطة المتيقنة من هويتها الأبدية، والمنتشية بعروبتها السياسية – أبتْ إلا أن تحيله على واحد من هذه الانتماءات الضيقة.

سكن أدونيس الشاب وحيدًا وفقيرًا في غرفة صغيرة من قبو في حي القصاع، ولم يسكن البيوت الفخمة في أحياء دمشق الراقية، كما أنه لم يعش طفولته في بيوتها ذات الباحات الواسعة والبحرات المتدفقة. كان متحررًا حيال دمشق من ذاكرة الطفولة، باحثًا في حاضرها عن مستقبل مختلف، لا عن ماضٍ لم يعشْه.

تسجَّل أدونيس في قسم الفلسفة في جامعة دمشق. وهناك، على ما يقول، بدأت الهوة تنحفر بينه وبين الواقع المحيط به، حيث لم يكن يرى في الحاضر إلا الماضي الذي تُقدِّمه الجامعة. كان يتخيل نفسه يصرخ في أروقة الجامعة: "ما أكثر الكتب–الخرائب!" أما خارج الجامعة فلم يكن هناك مجلة أدبية أو نتاج فكري أو تيار ثقافي يسمح له بأن يجد نفسه فيه. كان السياسي العابر يبتلع الثقافة والمثقفين. حتى أدونيس الشاعر لم يَسْلَمْ منه في ذلك الوقت، إلى حدِّ أنه كاد يقع في عثراته عندما نشر في العام 1954 قصيدته الشهيرة "قالت لي الأرض". لكنه عاد وحذف منها بعض المقاطع المثيرة للجدل.

تبدو دمشق لأدونيس في ذلك الوقت كمثل صندوق هائل ومقفل من الألفاظ واليقينيات والتاريخ المُفرَغ من بُعده الإنساني. ولم يكن الشاعر الشاب قادرًا بعدُ على سكب مفاتيحه وفتح أقفاله على أدراج الرياح. ولم يجد إلى جانبه أناسًا يشاركونه قلقه وهمومه كمثل الذين عايشهم في مجلة شعر. ولم يكن هناك مناخُ تسامُح وتنوع ثقافي يسمح لموهبته أن تنمو مع الآخر وبالتضادِّ معه – مناخ يسمح للمدينة بأن تغادر، ولو قليلاً، مسلَّماتها وتُلاعِبَ جنونَ الاختلاف والتنوع. يقول أدونيس في كتابه ها أنت أيها الوقت مسترجعًا تلك الفترة:[2]

لم يكن في دمشق غير النصر، وغير أضوائه، وغير التحويم في فضاء من التيه القومي تعذَّر ولا يزال يتعذر عليَّ فهمه.

قد يبدو هذا الكلام قاسيًا في حقِّ دمشق الخمسينات بالنسبة إلى الكثيرين منا اليوم، لأننا بتنا – بفعل حاضر المدينة الراهن – نسترجع بحنين فترة الخمسينات، ببرلماناتها وتعدُّد أحزابها وصحافتها الحرة وإنجازاتها السياسية. لكننا، في أحيان كثيرة، ننسى أو نتناسى أن المدَّ القومي لم يترك في نشوة انتصاره أية فسحة للاختلاف وأيَّ مكان للمختلف. ننسى أو نتناسى أننا لا نزال ندفع إلى اليوم ثمن الوحدة المتعجلة والاندماجية التي قامت على إلغاء المجتمع والبرلمان والأحزاب والصحافة لصالح القائد الفرد، ومن خلفه المؤسَّسة العسكرية. ننسى أو نتناسى أن القليل من الحرية الذي أوصَلَنا إلى الوحدة كان من أول ضحاياها. فبدل أن تكون الهوية القومية وعاءً للتعدد والاختلاف والنقد، جعلنا منها بوتقة للحقائق المُنزَلة ولصهر المختلف ولقهر الآخر. جعلنا منها – ببساطة الفاجعة ومرارتها – تربة خصبة للاستبداد في أشكاله كافة، من استبداد الأكثرية بالأقلية، وصولاً إلى استبداد الأقلية بالأكثرية.

يقول أدونيس على لسان مهيار الدمشقي رفضَه التماهي القسري مع الجماعة (أغاني مهيار الدمشقي):

تريدون أن أكونَ مثلكم. تطبخونني في قدرِ صلواتِكم، تمزجونني بحساءِ العساكرِ وفلفلِ الطاغية، ثم تنصبونني خيمةً/ للوالي وترفعون جمجمتي بيرقًا.

تحيلنا هذه الأبيات على مرحلة من أصعب مراحل حياة أدونيس: فترة الخدمة العسكرية التي نادرًا ما يتحدث عنها. فبعد تخرُّج أدونيس من الجامعة في العام 1954 بدأ خدمته العسكرية وأمضى خلالها ما يقارب السنة في سجن المزة العسكري بسبب انتماءاته السياسية.

ولكن بما أن الحياة هي الوجه الآخر للموت، والأمل هو توأم اليأس وغريمه، فإن حبَّ أدونيس الأكبر ولد هنا في دمشق. ففي بداية الخمسينات التقى أدونيس برفيقة دربه الفكري والعائلي خالدة سعيد، وتزوجا في العام 1956 بعد خروجهما من السجن وقبل مغادرتهما النهائية دمشق في اتجاه بيروت. عن هذه المغادرة يقول أدونيس:[3]

بعد تسريحي من الخدمة العسكرية كان من المحال أن أبقى في سوريا في ذلك الجوِّ المضطرب. كانت سوريا، في ذلك الوقت، لا سجنًا ماديًّا فقط بل كانت سجنًا فكريًّا وروحيًّا. وكنت أشعر أنني إذا بقيت في دمشق ولم أخرج فكأنني أحيا في قبر. هذا هو العامل الذي دفعني إلى الخروج من دمشق مهما كانت النتائج. وساعدني الحظ وخرجت من مكان كان مقبرة بكل معنى الكلمة وعلى جميع المستويات.

نعم، دمشق كانت مقبرة بالنسبة إلى أدونيس عندما تركها نهائيًّا في تشرين الأول من العام1956؛ وهو، منذ ذلك الزمن، لم يرجع للعيش فيها إلا لفترات متقطعة وقصيرة جدًّا. خرج أدونيس من دمشق حاملاً جرحه الشخصي والشعري ليبدأ رحلة المجهول في المدن والثقافات. من بيروت مجلة شعر، إلى بيروت الحرب الأهلية ومجلة مواقف، إلى باريس الصحافة المهاجرة والأدباء المنفيين، إلى نيويورك، برنستون، جنيف، برلين، وغيرها الكثير من المدن، حيث غدا أدونيس، فيها ولها، شاعرًا عالميًّا لا تحدُّه هويةٌ ولا يعتريه تصنيف.

وإلى اليوم، لا يزال أدونيس – الإنسان المتخفف من شعره والعابر السبيل في دمشق – يصنف المدينة وينظر إليها كمدينة النهايات أو المدينة المكتملة والمنتهية التي تبقى في جوهرها هي هي: مدينة تسوية ومساومات؛ مدينة تعيش داخل سور يتسع قليلاً لكنه لا يزول؛ مدينة ما هي إلا تنويع على أساسين راسخين: هما السياسة والتجارب.

نعم، كلام أدونيس التجربة المعيشة، أدونيس الذاكرة والجرح المفتوح، يضج ألمًا ويأسًا، إلى درجة تجعله يعلن موت دمشق–المدينة باكتمالها وانتهائها وتقوقعها على نفسها في هوية مطمئنة لا خروج عنها، وفي زمن دائري لا خلاص منه. كأنه هنا يعلن موتها في الحياة لا في الشعر، مُسقِطًا عنها تنوع ناسها، بحيواتهم وآمالهم ويأسهم، رافضًا أن يراها مجتمعًا مركَّبًا، لا تحدُّه رموز ولا تختصره تصورات.

وإذا كانت هذه حال دمشق في خطاب أدونيس الإنسان، فما حالها في شعره؟ وماذا لو كان أدونيس الشاعر أول من يفكِّك حكم القيمة الذي يصدره أدونيس الإنسان في حقِّ دمشق؟

دمشق الشعر

حتى تاريخ رحيل أدونيس عن دمشق الشام في العام 1956، لم تُكتَب دمشق في شعره. ويجب انتظار العام 1960، تاريخ ظهور ديوانه أغاني مهيار الدمشقي، حتى تبدأ دمشق الاسم والمعنى في التشكُّل داخل مشروعه الشعري. كان لا بدَّ للشاعر من الابتعاد قليلاً عن حافة المكان ليطلَّ من خلاله شعرُه برؤية أعمق وبجنون أعلى على حافة اللغة وحافة المعنى وحافة الهوية وحافة البحر (أغاني مهيار الدمشقي):

لا أستطيعُ أن أحيا معكم، لا أستطيعُ أن أحيا إلا/ معكم. أنتم تموُّجُ في حواسي ولا مهربَ لي منكم. لكن/ اصرخوا – البحرَ، البحر! لكن علِّقوا فوقَ عتباتِكم خرزَ الشمس.

ليس غريبًا أن يَرِدَ هذا المقطع الشعري من ديوان أغاني مهيار الدمشقي داخل الفصل المعنون بـ"إرم ذات العماد" – هذه المدينة القرآنية التي يعتقد الكثير من الدمشقيين أن الله خصَّ بها مدينتهم والتي يستخدمها أدونيس في شعره كمجاز لتلمُّس معالم مدينته. وما هي إلا صفحات قليلة في الفصل نفسه حتى يظهر اسم دمشق للمرة الأولى، ليس فقط في هذا الديوان ولكن في مجمل شعر أدونيس. وتَرِدُ دمشق كهوية مضادة، بمعنى النبذ والرفض، ولكن هذه المرة بكلمات شاعر يحاول أن يعيد تشكيل المكان–الوطن على معانٍ ذاتية طالما تناستْها خطاباتُنا الوطنية. يقول أدونيس على لسان مهيار الدمشقي:

للوجوهِ التي تتيبَّسُ تحت قناعِ الكآبة/ أنحني، لدروبٍ نسيتُ عليها دموعي/ لأبٍ ماتَ أخضرَ كالسحابةِ/ وعلى وجهِه شراعٌ/ أنحني. ولطفلٍ يُباع/ كي يصلِّي وكي يمسحَ الأحذيةَ/ ولصخرٍ نقشتُ عليه بجوعي/ أنه مطرٌ يتدحرجُ تحت جفوني وبرقٌ/ ولبيتٍ نقلتُ معي في ضياعي ترابَه/ أنحني – هذه كلُّها وطني، لا دمشق.

إن إخراج أدونيس الشاعرَ العباسي البغدادي مهيار الدليمي[4] من سياقه المكاني والزماني، وإدخاله في سياق رؤيته الشعرية الخاصة، سمح لهذه الرؤية بأن تتحرك بين فضاءات الأمكنة والأزمنة والشخوص التاريخية أو الأسطورية، ومكَّنها من خلق فضائها الشعري الخاص، حيث تتداخل هذه الفضاءات كلُّها في فعل الكتابة وتنصهر في حركية النص اللاهث أبدًا وراء نبض العالم الهارب إلى المجهول.

لكن مهيار، "الهوية المتحركة المسافرة"[5]، هو، مع ذلك، مهيار "الدمشقي" في شعر أدونيس. كأن الشاعر – بالتضاد مع ما يمكن أن يكون هوية دمشقية ثابتة، مغلقة، أنانية، مكتفية بذاتها – يحاول، عبر مهيار، أن يُخرِج هذه الهوية من قوقعتها إلى عوالم الصيرورة والنمو والانفتاح على "الآخر".

ولا غرابة بعد ذلك أن يختار أدونيس في ديوانه التالي كتاب التحولات والهجرة (1965) شخصية الأمير الأموي، الدمشقي المولد والمنشأ، عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) لتكون لسان حاله. فهذا الأمير المخلوع والمطارَد من العباسيين هو الآخر مزيج غني من الهويات والأمكنة وقد هجر الشام كما فعل أدونيس لـ

أندلسَ الأعماقِ/ أندلسَ الطالعِ من دمشقَ/ يحملُ للغربِ حصادَ الشَّرق.

في كتابه ها أنت أيها الوقت يشبِّه أدونيس عبوره الحدود بين سوريا ولبنان في العام 1956 بالذي يعبر النهر. يقول مخاطبًا نفسه:[6]

ضفَّتان، وأنتَ على الجسرِ الذي يصلُ بينهما: ضفةُ ما ينبغي أن ينتهي، ولكنه لا ينتهي. وضفةُ ما ينبغي أن يبدأ، لكنه لا يبدأ... إنها لحظة يتعذر عليَّ تقديرها، تلك التي كانت الجسر الذي حملني، ناقلاً حياتي من ضفة إلى ضفة. إذ بهذه اللحظة أيضًا يمكن أن تؤرَّخ حياتي.

وإذا كانت الروايات التاريخية تخبرنا كيف أن هرب صقر قريش من الشام إلى الأندلس بدأ على ضفاف الفرات، عندما أفلت من قبضة جنود العباسيين وعبر سباحة إلى الجهة الأخرى من النهر ليبدأ مصيره الجديد، فإن هذه الواقعة ستأخذ بُعدًا جديدُا في شعر أدونيس عندما يخرج من زمانها التاريخي إلى زمان الشاعر في شقَّيه الإبداعي والذاتي. ولا عجب بعدها أن يهدج صوت أدونيس ويدمع كلما قرأ المقطع الآتي من "تحولات الصقر":

(وا فراتاه، كُنْ لي جسرًا، وكُنْ لي قناع)

وترسَّبت،

غيِّرْ رنينكَ يا صوتُ

اسمعْ صوتَ الفرات:

"قريش...

لؤلؤةٌ تشعُّ من دمشقْ

يخبِّئها الصندلْ واللبانْ

أرقَّ ما رقَّ له لبنان

أجمل ما حدَّث عنه الشرق..."

يعيش أدونيس الآتي من خارج دمشق مع صقر قريش الآتي من داخلها: حالة من التداخل والتماهي تتجاوز الأزمنة والأمكنة ضمن فضاء القصيدة، وتُسقِط عن المدينة أسوارَها، وتستبيحها بنار الشعر الهيراقليطية وبجنون الأحلام–الكوابيس. فإذا بالشاعر يقول جرح المدينة، الذي يرفض أبدًا أن يغادره، في حالة تشبه الهذيان. يقوله بصور مشهدية، حارة، صارخة، جنسية، متفجرة، هي بالتأكيد من قمم الشعر عند أدونيس. هنا بعض المقاطع:

هدأتْ صيحةُ الرجوع: أحلمُ يا دمشق/ بالرعبِ في ظلالِ قاسيون/ بالزمنِ الماضي بلا عيون/ بالجسدِ اليابس. بالمقابرِ الخرساء/ تصيح: يا دمشق/ مُوتي هنا واحترقي وعودي/ تصيح: لا، موتي ولا تعودي/ أيتها الطريدةُ المليئةُ الفخذين يا دمشق/ ... وأمس في نومي يا دمشق/ سوَّيتُ تمثالاً من الصلصال/ حفرتُ في خطوطِه البيضاء/ تاريخَك الأسودَ يا دمشق/ ورحتُ في رعبٍ وفي ابتهال/ أسقطُ كالزلزال/ على روابي جلَّقَ الجميلةِ/ أحضنُها أضربُها أغني – ها ها هلا هلال/ وقلتُ: لا فلتبقَ في حنيني/ وفي دمي دمشقُ/ وقلت: لا، فلتحترقْ دمشقُ/ واستيقظتْ أعماقي القتيلة/ مذعورةً تصيح: وا دمشق.

وأدونيس، إذ يقسو على دمشق بلسان صقر قريش، يعرف أيضًا كيف يعتذر منها ويقرُّ بفضلها. فمن رَحِمِ تجربتها المرة صنع صقر قريش مجده، وتوهجت نار الشعر في قصيدة أدونيس:

يا حبُّ، لا... عفوكِ يا دمشق/ لولاك، لم أهبطْ إلى الأغوار/ لم أهدم الأسوار/ لم أعرفِ النارَ التي تنادي/ تضجُّ في تاريخِنا، تضيءُ/ سفينةَ الكونِ الذي يجيءُ/ عفوكِ يا دمشقُ/ أيتها الخاطئةُ القديسةُ الخطايا.

لا ندري إذا ارتجفتْ يدا أدونيس وسال العرق من جبينه وهو يعطي دمشق جسد القصيدة وألَقَها في ديوان صقر قريش. لكن هذا الديوان هو أحد التجارب الوجودية الأعمق في مسار أدونيس الشعري التي ستترك تأثيرها ليس فقط على شعره ولكن على علاقته المستقبلية بدمشق.

بعد ديوان صقر قريش ستتحرر دمشق من الرموز الأسطورية التي "تلتقي عندها جميع الحركات وتصدر عنها أغلب الأفعال"[7]، وسيصبح في إمكان الشاعر، المجرد من كلِّ قناع والعاري إلا من الشعر، أن يبسط سرير قصيدته لدمشق من دون ذوات وسيطة – إلا ذات الشاعر... وتدخل المدينة سريره حينًا، وتمتنع عنه أحيانًا أخرى، فيستيقظ الشعر:

لو أنها تجيءُ/ لو أنها تجيءُ/ دمشق/ يا ثمرَ الليلِ ويا سريرَه.

ستعاود مدينة النهايات المكتملة والمنتهية في خطاب أدونيس، ستعاود الحياة من جديد في شعره وتحبل بجنين البدايات (المسرح والمرايا):

دمشق/ سُرَّةُ ياسمين/ حُبلى/ تمدُّ أريجَها/ سقفًا/ وتنتظرُ الجنين.

دمشق المعنى والرمز، الهاربة أبدًا من الواقع إلى الحلم، المستعصية على الوصف، لم تعد تسكن فقط جسد القصيدة وأحلام الشاعر. دمشق في ديوان هذا هو اسمي (1971) تتماهى مع الشاعر، تحلُّ فيه ويحلُّ فيها، في كينونة لا يحتويها إلا الشعر:

دمشقُ تدخلُ في ثوبي خوفًا حبًّا تخالطُ أحشائي تلغو...

لكن علاقة التماهي تبحث داخل المدينة عن مدينة أخرى. تقبض عليها كما تقبض على الريح وتنثرها معاني داخل اللغة. يكتب أدونيس من دمشق وعن دمشق في العام 1975 (المطابقات والأوائل):

ولهذا/ لا يتركُني رفضي/ ودمشقُ الأخرى، لا تتركني./ أخذتْها الرغبةُ في شفتيَّ، وفي فخذيَّ، وفي حنجرتي/ أخذتْها لغتي.

وفي ترحُّل أدونيس المستمر بين المدن الأمكنة والأزمنة، وفي رحيله صعودًا داخل مشروعه الشعري، تظل دمشق حاضرة اسمًا أو مجازًا. تطلُّ كمَعانٍ يولِّدها تشابكُ الكلمات والدلالات. تحضر دمشق مع بيروت أو الكوفة أو حلب، تنبعث داخل "قبر من أجل نيويورك"، وتتحول حروفًا داخل اللغة، أو لغة داخل الحروف. ومن باريس في العام 1991 يكتب أدونيس قصيدة "البرزخ" ويعترف لدمشق بالآتي:

ينتمي عهدي مع التيهِ إلى فجرِ دمشقَ/ وإليها تنتمي ناري، أحشائي قوسٌ/ هائمٌ فوقَ دمشق.

كأن أدونيس يهيِّئ لفتحه الأكبر مع دمشق – وأعني قصيدته "أبجدية ثانية" (1993). ففي هذه القصيدة يعيد أدونيس للمادة الشامية روحَها العاصية ويجلِّل المدينة ببخور الشعر وبهاء الكلمة. يسافر أدونيس في جغرافيا المدينة وتاريخها، بين أسواقها وأبوابها وأزقتها وخلواتها وحماماتها، ليقطف زهر الكلمات وينثره في غابات المعاني والأزمنة... ويتحدى هذا الذي اعتبره بعضهم خارج المدينة. يتحدى المدينة في أغنى ما تملك ويملك: أعني لغة المدينة. فإذا نحن أمام أسطر لا تحدُّها حدودٌ ومعانٍ، عن أسماء الألوان وتماوجها، من الزبيبي إلى النارنجي إلى الزعفراني إلى الأدبس والأفضح والأصبح والأحم والأكهب والأشهب إلى... وإلى... من دون أن ينتهي موجُ الألوان. يستنفدُ الأبجديةَ ولا تستنفده، فتولد "أبجدية ثانية" في رحاب "دمشق [التي] لا تحيا إلا إذا أعادت بناء السماء"؛ فإذا بالسماء تلوح هنا على مشارف القصيدة، فتحيا دمشق.

 

نعم، "يتعذر وصف شهوة الكلام عند جدران دمشق" ("أبجدية ثانية"). لكن هذه الدمشق تنبسط كالجنة تحت قدمي قاسيون؛ وطُرُق أدونيس فيها وعرة، وحافيًا يمشي هذا الذي

قالوا مرة في وصف قدميه: لم أمشِ بهما إلى باب السلطان.

أدونيس، اسمع الريح المشروعة على الآفاق. اسمع الشوارع التي لا أسماء لها ولا ألقاب. اسمع الأسماء التي تتزوج المعاني. كلُّها اليوم يدعوك ويرحِّب بك في دمشق.

أدونيس، هذه دمشق. فقُلْ فيها ما تشاء ("أبجدية ثانية"):

قُلْ الشام وجِلَّق، العذراء وجيرون، قُلْ عين الشرق، إرم ذات العماد، باب الكعبة.

قُلْ "أيتها الخطيئة القديسة الخطايا". قُلْ وسلِّمْ جسدك – جسدك إليها. وادخلها. ادخلها وتَصالحْ معها وفيها، شعرًا وحرية ودموعًا.

*** *** ***


[1] مقابلة مع أدونيس أجراها الشاعر عباس بيضون، جريدة السفير، بيروت، 5/6/1998.

[2] أدونيس، ها أنت أيها الوقت، دار الآداب، ط 1، بيروت، 1993، ص 31.

[3] صقر أبو فخر، حوار مع أدونيس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، بيروت، 2000، ص 35.

[4] عدنان حيدر ومايكل بيرد، "تغير الدلالات في أغاني مهيار الدمشقي"، ترجمة ميشال جحا، "الملحق" الثقافي لجريدة النهار، بيروت، 19/10/1996.

[5] أنظر: خالدة سعيد، حركية الإبداع، دار العودة، ط 2، بيروت 1982. تقول خالدة سعيد في الهوية المتحركة لمهيار (ص 121): "هكذا سيدخل سيزيف وفينيق ونوح وأدونيس وإيكار والخضر وبشار والحلاج في نسيج شخصية مهيار... مهيار هوية متحركة مسافرة، خصيصة لأنها البحث الدائم، لأنها هوية تتكامل، تصير."

[6] أدونيس، مرجع سابق، ص 34.

[7] انظر: محمد لطفي اليوسفي، في بنية الشعر العربي المعاصر، دار سراس، تونس العاصمة، ط 2، 1992.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود