|
ضد الموت العشق إلى
مرتبة الخلاص صباح
زوين
نقرأ
محمد سعيد حماده في مجموعته الشعرية الجديدة ضد
الموت*
كأننا بإزاء مجموعة مشرعة، صافية، تتلألأ
فيها نجوم الصور والأحاسيس المتدفقة مفرداتٍ
وأحرف براقة. يفيض كلامُه كشلال من الماء
النضر، حيث يتساوى نبضا الحياة والتعبير في
لعبة الكتابة التي يمارسها في مهارة وعمق
رؤية. ويشعر القارئ، عبر قصائد المجموعة، بأن
حماده يتنقَّل في عالم الشعر كالمتمرِّسين
ولا يتعثر في تركيب اللغة التي يصوغها.
تبدو
القصائد مكتملة الإيقاع، على نحو تلقائي.
فالقصيدة الجيدة هي تلك التي لا يعمل صاحبُها
على تشذيبها أو تنقيحها. نقرأها في سلاسة
وندرك طريقنا إليها عبر مفاصلها المطواعة حيث
يتلازم الشعور والقول طبيعيًّا. كأن
لغة حماده الشعرية بديل من المرأة التي يعشق
أو مرآة لها؛ فتغدو جغرافيته الوجودية
والتعبيرية: تتناثرين على
الجهات، وجهك بلاد، لا تعرفك الخرائط، لا
تحيط بتضاريسك أبحاث الجغرافيين، مداك حروف،
استحضارات العاشق والمجنون لا تخيط اللغة
بغيرك [...]. المرأة
لديه صفحة خصبة الخيال؛ وهي، في الوقت نفسه،
المداد، وخريطة الحروف، ومدى الكتابة،
والحركة التي تنبثق الكلمات على نسقها. يتابع
حماده حواره الداخلي إلى المرأة التي تشبه
جغرافيا المكان، حيث الأفق يبين أو يندثر، أو
حيث السراب والحقيقة – كالكتابة الخرافية،
تبين وتتوارى، تبعًا لموقع الشاعر ووجهته
واتجاه نظره: [...] لكنك يا امرأة
الحبر المتصدع في ذاتي، يا عبق الهلوسة الآتي
من مرآتي، لست بشيء، وأراك ولست أراك، وألمس
وجهك، لكن لا جسد، واللهفة مشكاتي، نورٌ
والنور بمصباح خيال وهواك اللغة: الشعلة
والتفسير. إنها
حبر الهلوسة الشعرية عندما تتحوَّل من شيء
ملموس إلى لاشيء؛ إذ يصفها الشاعر بأنها بلا
جسد ونور للخيال. والهوى الوحيد الذي يجمع
بينهما تلك اللغةُ التي يحاول حماده البوح
بواسطتها. لكنه يلجأ، بالأحرى، إلى عذوبة
الحلم. فالمرأة التي تتحوَّل إلى كتابة يسعها
أن تتحوَّل كذلك إلى ما يشتهيه الخيال: فاتحاً مرج الزهور
على قناة الحلم وهي تخضِّب الأعشاب والزغب
البهيَّ على التِّلاع. سأدوِّن الأبهى بفصل
الصيف، حيث يهرُّ مشمشُك الشهيُّ ولا جناة
مواسم [...]. وإنْ
لم ينأَ حماده عن الغزل الرقيق الذي غالبًا ما
يتبنَّاه الشعر التقليدي فهو، خلافًا
للأخير، ومن غير أية صلة به، يخرج إلى لغة
حالمة تبحث عن الخاص والحميم، لتتمكَّن من
فرض صوتها ولونها في القصيدة: هل كان صحيحًا ما
أنجبت من الدهشة، أم أنه العين تخمِّن حين
يحطُّ عليها الجفن؟! يتساءل
الشاعر، لكن ما لا يخمِّنه هو دهشة العاشق حين
ينظر إلى العالم بعينٍ تحلم بامرأة. وبديهي أن
يربط حماده بين العشق والموت؛ فالشوق، لدى
غياب المرأة–الحبيبة، يولِّد الشعور
بالنهاية، أي بموت الحب والعاشق. هذا الحدث
الأزلي وجهٌ آخر للافتتان: تعال شقيق الموت،
فهذا كوز الشوق يولِّد كونًا يعتاد مفاتنَه
طفلٌ يعبث بالقبر كعاصفة تعبث بالدلب [...]. يأتي
الحب بعاصفة المشاعر الجميلة والقاسية معًا،
ويستحيل العاشق طفلاً عاجزًا عن تحقيق الحلم،
قادرًا فقط على الجنون والعبث بالرموز التي
تربط بين الحياة والعدم وما يتخلَّلهما.
ويمضي العاشق إلى أقصى عشقه ليمجِّد الحبيب،
وليجعل من الحبيبين جسدين متداخلين وروحين
تنموان الواحدة داخل الأخرى: على وسادٍ لونُه خمر
تنام الروح ثانيتين، من رأسي يضوع ترابك
النبويُّ... أيضًا، أنت نافلتي وقافلتي،
نزيلتي التي تنهار فيَّ وتكتوي في ذكريات
بابلية [...]. مجموعة
تنبض بالحيوية التعبيرية والمفردات النضرة
والصور الجميلة: قمر لضحكتها تطلُّ
على مفاتيح الغروب وتغلق الأبواب خلف شموس
بسمتها الندية وهي تندي في جبيني الموت
بالفصحى، وبالفصحى الهجينة حين تكتبين على
أوراق متعتها أموت. *** *** *** عن النهار، الخميس 9
كانون الثاني 2003 *
صدرت في منشورات "دار الأنوار"،
2003.
|
|
|