|
القلم يظلُّ
يفلُّ الحديد تسامٍ يسائل الوجود
حنان
عاد
تكتب
ثريا ملحس مثل ناسك اعتلى قمة جبل فتسنَّى له
أن يرى، من علوٍّ شاهق، الهوةَ السحيقةَ بين
ما يعيشه البشر على هذه الأرض وما ينبغي أن
يحيوه سعيًا إلى ارتقاء وتسامٍ. وبعض
الترفُّع عن الأرضي كفيل بالكشف عن فضاءات
عالية جدًّا يمكن للروح أن تعثر فيها على بعض
المطلق، مما يُبَلْوِر لها أفقًا رحبًا من
الحرية والامتلاء والفرح، ما كانت لتفوز بها
في منأى عن انعتاق وتأمل. قضايا وجودية وفيرة
تعبق بها قصيدة ثريا ملحس: جدلية الحياة
والموت، الكتابة كأداة فاعلة لمواجهة العدم،
اليقين بالحضور الإلهي. وللموضوع الأول شكلُ
الهاجس العنيف لدى الشاعرة: إنها مسكونة
بأسئلة الولادة والرحيل، بل شديدة القلق حيال
الغموض الهائل المكتنف وجودنا. تسائل ذاتها
ولا تتعب؛ تسائلها عن السرِّ واللغز
المستحِكمَيْن في الكون، حتى تبدو حياتها
برمتها مسوَّرة بعلامات استفهام كثيفة. وإن
طرحت الأسئلة الغزيرة فليس في نبرة اليافع
الحديث المعارف والأفكار، بل في نبرة مَنْ
لامس تخوم النضج العالي، فاتسعت في ذهنه
دائرةُ السؤال. قد يتوهم الإنسان – بدءًا –
أن اكتمال مساره يحمله إلى المعرفة الكاملة،
إلى الردود الحاسمة على أسئلته. إلا أن
المفارقة محيِّرة هنا، وشائكة جدًّا: كلَّما
ظننَّا أننا اقتربنا من جلاء الحقيقة،
اصطدمنا بجدار آخر من الغموض. هاجس البحث عن
الحقيقة ينير الدرب إليها، لكنه يلبث عاجزًا
عن بلوغ مطلقيَّتها، كأن الحقيقة سلسلة
دهاليز لا تخلو من جمال. وكلما عبرنا دهليزًا
نعتقد أننا قبضنا عليها؛ لكن سرعان ما نجد
أنفسنا أمام دهليز آخر. هكذا تبقى الحقيقة
عصية على الالتقاط كاملة، ويلبث الإنسان يلهث
وراءها باستمرار، منذ ولادته إلى رحيله. ويبدو أن تلك الجدلية
الرهيبة تواجهُها ملحس باثنين: الكتابة
والإيمان. تفلح، عبر الكتابة، في شقِّ طريقٍ
إلى جوهر الوجود، مهما تكن تلك الطريق
متواضعة. ينضح نصُّها بمعادلة تجعل الكتابة
قادرة على تخطِّي بعض اللبس الوجودي وترويض
صلابات تكتنفه. وعنوان المجموعة القلم
يظلُّ يفلُّ الحديد*
يمكن اعتباره دليلاً هنا. تقول: وأظلُّ مثل القلم/
يفلُّ كلَّ الحديد/ يقرأ كلَّ الطلاسم/ ويبحث
عن التمائم [...]. اليقين بالحضور
الإلهي سقفٌ أمين تحتمي به في خضمِّ معركتها
مع الوجود – لعلَّه سقفها الأعلى. وإن واجهتْ
بالكلمة، فَتَحْتَ خيمة صوفية متينة. ثمة صدى
عالٍ لعلاقة عميقة مع الإلهي، مع الله
خالقًا، وأبًا حنونًا، رحيمًا، ودودًا. جليٌّ
أن الشاعرة تقيم له المكان الأرحب في روحها
وضميرها وتوقن بتجلِّياته، الكبرى
والمنمنمة، في هذا الكون، وتؤمن به ملاذًا
أكيدًا للبشر في انكساراتهم وخيباتهم
وأوجاعهم. ها هي ذي تناجيه: بنورك الأسمى/ أهتدي/
لأعرف السر/ [...] لأبحث في الذرة عنك/ وفي
الناطحات. القلم يظلُّ يفلُّ الحديد مجموعة قصائد تحمل ثريا ملحس إلى القارئ امرأةً متسلقةً بيدرَ عمرها الناضج. لكلماتها وأناشيدها رائحة زمن الحصاد والجني. تُفصِح في جرأة وبعض التمرد أحيانًا؛ تنتقد وتعاتب، وإنْ في قسوة ذات حين؛ وتبدو، في عدد من نصوصها، كمن يستعجل القول كي لا يضيع منه، كأن الجوهري لديها أن تُخرِجَ مكنوناتها إلى الملأ، وإنْ في السرعة التي تسلب النص، أحيانًا، بعضًا من النضج المفترَض.
يبقى أن الشاعرة،
التي تولد قصيدتُها من مخزون ثقافي وفلسفي
وفكري ثريٍّ، شاءت إلحاق مجموعتها بمعجم خاص
بالرموز والمقتبسات الواردة في شعرها؛ وفيه
حضور كبير لمناخات الديانات والفلسفات
والأساطير القديمة. وليست تلك بالمناخات
الطارئة على كتابات ثريا ملحس الشعرية، ومنها
هذه العناوين: "النشيد التائه"، "قربان
بيروت"، "ملحمة الإنسان". *** *** *** عن
النهار، الجمعة 19 تموز 2002 *
صدر في منشورات "دار البشير"،
2001.
|
|
|