|
الإنسان في سعيه الأزلي والأبدي إلى
الحكمة لا
سبيل إلا التخلص من الأنا ومن حلم السعادة
النرجسي*
ندى
الحاج
إذا
كانت الفلسفة تعني باليونانية "محبة
الحكمة"، فما هي الحكمة؟ هل هي المثال
الأبدي لسقراط وأبيقور؟ أم هي، على مثال
الفلاسفة المعاصرين، مزيج من التوق إلى
السعادة والقبول بالواقع، مع محاولة تغييره؟ الفيلسوف
والوزير الفرنسي لوك فيري، الذي أصدر الجزء
الأول من ثلاثيَّته فلسفة سياسية في
العام 1984، كان مقتنعًا آنذاك بأن قمة الفلسفة
تكمن في الفحص عن العلاقات بين السياسة
والحقوق والتاريخ. واليوم أصدر فيري كتابه
الجديد ما هي الحياة الناجحة؟ لدى "غراسِّيه"،
طارحًا السؤال الجوهري عن الحياة الجيدة، ذات
المعنى، التي تعاش في فرح. ولطالما اعتقد أنه
يمكن للإنسان الملحد تأسيس أخلاقية علمانية
قائلاً: "أخطأتُ طوال عشرين عامًا. حتى لو
كنتَ ملحدًا فأنت في حاجة إلى روحانية وحكمة
لتواجه مسائل متعلقة بتربية أولادك أو بالفن
والثقافة والحب والحداد." وحين
أصدر فيلسوف فرنسي آخر، هو أندريه كونت
سبونفيل، كتابه الأول في العام 1984 مقالة في
اليأس والغبطة (أُعيد إصدارُه في العام 2002
لدى "بوف")، بدا كأنه غريب هابط من كوكب
بعيد عن هموم السياسة وشجون التاريخ، وقيل
عنه: "أخيرًا، هذا مفكر يعيش فلسفته ولا
يتظاهر بالتأمل، بل يبحث عن السعادة عبر
الحكمة، على غرار الأقدمين." البحث
عن السعادة شَغَلَ بال الإنسان في كلِّ
العصور، ولا سيما في بدايات القرن الحادي
والعشرين. وقد بيع في الفترة الأخيرة أكثر من
مئة ألف نسخة من كتاب حكمة المعاصرين،
الصادر لدى دار "لافون"، الذي شارك في
تأليفه فيري وكونت سبونفيل. والمعروف عن هذا
الأخير أن كتبه تُرجِمَتْ إلى خمس وعشرين
لغة، وبيع منها أكثر من مليون نسخة؛ نذكر منها
بخاصة مقالة صغيرة في الفضائل الكبرى. في
هذا الكتاب يشرح سبونفيل هذا العطش إلى
الحكمة الذي يسعى الإنسان المعاصر إلى
إروائه، فضلاً عن سعيه وراء السعادة
والحقيقة؛ فتأتي الحكمة عند مفترق هاتين
الرغبتين ضمن حالة تضمهما معًا. الحكمة سعادة
حقيقية، خلافًا للسعادات التي نحصِّلها من
الأوهام والأكاذيب. ويؤكد سبونفيل أننا، كلما
تقدَّمنا في البحث عن الحكمة، اكتشفنا أن هذا
البحث ليس إلا حلمًا نرجسيًّا، وأن اهتمامنا
الشديد بسعادتنا الشخصية يُبقينا سجناء
الأنا والخوف والرجاء. تكمن
الفلسفة في التحرر من الذات وتخطِّي الأنا.
عندئذ يفتح العالمُ لنا أبوابَه، فنكتشفه
ونحبه. الحكيم الحقيقي هو الذي لم يعد مهتمًا
بالحكمة؛ إذ لم يبقَ مؤمنًا بها. ينقل بوذيو
زِنْ عن البوذا قوله: "إذا التقيتَ بالبوذا
اقتله!" لدينا
نوعان من الحكمة: الحكمة العملية – وهي فن
القيام بخيارات ذكية للعيش في أكثر سعادة
ممكنة؛ والحكمة النظرية، أو التأملية،
المحتوية على خبرة حقيقية، غير ذاتية، متحررة
من الأنا. جميعنا اختبر – ولو مرة – تجربة
الحكمة التأملية التي تضعنا في حالة من
الصفاء والامتلاء والصمت، كأننا نختزن
الخلود أو تجربة الغبطة. لا تعني الحكمة قبول
كلِّ شيء في الحياة إلى حدِّ الاستسلام، بل
تقبُّلُها في تمرُّدها وثورتها. يتحرَّر
الحكيم من أنانيته وجبنه، محاولاً تغيير
العالم بعد رؤيته كما هو. يقول "نعم"
للألم وللفظاعة، ليمنح نفسه وسائل مواجهتهما.
تتعدد الوسائل والهدف واحد. الفلسفة الغربية،
الصوفية المسيحية، البوذية، التقنيات
الجسمانية، التطور الذاتي، إلخ – كلٌّ يختار
الطريق الذي يلائمه؛ فالدروب كلُّها تلتقي
عند الإنسان التائق إلى السلام الداخلي. لم
تَبْنِ الفلسفات القديمة نظرياتٍ تجريدية،
بل هدفت جليًّا إلى تغيير الذات والوجود.
وتتمحور الفلسفات المعاصرة حول حكمة
متواضعة، ملموسة، مبنية على تطبيق جسدي
وذهني، يتمركز حول الأقدار الذاتية، مثل
الرياضات الروحية الوافدة من آسيا، التي تغري
ملايين البشر في كل أنحاء العالم: اليوغا،
زازِنْ، تايتشي، تشيكونغ، وسواها. يرمز الشرق
للباحثين عن الخلاص إلى الحكمة والتسامح –
وهذه فكرة أوروبية قديمة مفادها أن مصدر
الحكمة ينبع من الصين أو إيران وسواهما من
البلدان البعيدة. بعدما
حافظت الحكمة على قيمتها الثابتة في الفلسفة،
تراجعت بين العامين 1930 و1970 إبان محاربة
الفاشية وصعود الشيوعية. عهد ذاك ظنَّ الناس
أنهم في غنى عن تغيير الذات. لكن بعد الخيبة
العارمة التي حلَّتْ إثر تبدُّد أوهام ثورة
أيار 1968، أعاد الناس نظرتهم التأملية إلى
العالم كما هو على حقيقته، محاولين تغييره؛
فازدهرت الفلسفة مجددًا عبر الإصدارات
والمقاهي الفلسفية المنتشرة في فرنسا منذ
بداية التسعينات، حيث تداول المجتمعون أمور
الفلسفة والحياة؛ كما انتقلت العدوى إلى
البلدان الأوروبية الأخرى وأمريكا واليابان.
وظهرت مهنة جديدة هي الفيلسوف المعالِج،
كطبيب النفس المعالِج، مع فارق أن الفيلسوف
لا يتعامل مع الأمراض النفسية الجدية. في
فرنسا وحدها اختار خمسة عشر ألف فرنسي
الانضواء تحت راية البوذية، واختاروها
إيمانًا جديدًا. أما الخمسة ملايين الذين
يجدون أنفسهم قريبين منها فتمنحهم وحيًا
وتأملاً، وربما جزءًا من الحقيقة. يُقدَّر
عدد أساتذة اليوغا في فرنسا بثمانية آلاف،
يعملون مع تلامذتهم على اتخاذ مسافة من
العالم أو الانفتاح على الآخرين من خلال
تقوية حيويتهم. وأحيانًا يفضي الانطواء على
الذات إلى الانفتاح على العالم. أما
الابتسامة الصادقة، مرآة اللطافة التي لا
تعرف حدودًا، فهي وصفة سحرية يقدِّمها روَّاد
اليوغا العاملون على محو التشنجات من أجسامهم
ونفوسهم، معتبرين أن الإنسان حقل مفتوح
يستطيع أن يجعل من حياته تحفة فنية، أن يأكل
وينام جيدًا، أن يصغي إلى حاجات جسده ورغباته
الداخلية الأكثر أثيرية. كلُّ شيء جيد للذي
يبحث عن التحول. كان نيتشه يقول: "الحكمة هي
أن نعرف كيف نشرب كوب الشاي." حركة
"التطور الذاتي" تجمع بين علم النفس
الغربي والروحانيات الشرقية؛ وهي موضة تكتسح
السوق الأمريكية النفسية، وتنبع من الطاقة
الكامنة في الإنسان التي تساعده على تحقيق
ذاته، وتجاوز العادات الثقافية، والتواصل مع
الآخرين والطبيعة. يعتبر أبراهام ماسلو، أبو
علم النفس الإنساني، أننا لا نحتاج إلى الحب
والتقدير فحسب، بل إلى التطور وتحقيق قدرنا
الشخصي والخلق أيضًا. لو
جمعنا دعوة سقراط "اعرفْ نفسك"، إلى "صِرْ
ما أنت عليه" لنيتشه، والسعي إلى الغبطة
لسبينوزا، مع السيطرة على الذات للساموراي
الآتي من الشرق، يسعنا أن نتوصل إلى فلسفة
حياتية ذكية وناجحة، تُوازِنُ بين الفكر
والقلب والجسم – وقد يستغرق تطبيقُها العمرَ
كلَّه.
والمطلوب
عدم الاستعجال، إنما الاستمرار في السفر،
زيارة البلدان الأخرى والأزمنة البعيدة،
الأفكار القديمة والمختلفة، الأساطير
الغريبة، كما في كتاب الحِكَم: المغامرة
الروحية للإنسانية (الصادر حديثًا في
منشورات "فايار" في ألفي صفحة)، الذي
يقدِّم للقارئ مجموعة كبيرة من النصوص والقصص
المختارة عبر خمسة آلاف سنة من تاريخ
الإنسانية الباحثة عن المطلق والمعبِّرة عنه
شعرًا، وفلسفة، وحكمة، وتصوفًا. يتلاقى في
الكتاب الرهبان والمحاربون والتائهون
والمعذبون والأمراء والمتمرِّدون والأطباء
ورجال العدل والأنبياء والفنانون والمتصوفون
والقديسات؛ ويتحاذى حكماء الصين والتيبت
وإيران مع المتصوفين المسيحيين والنساك؛
ويتجاور النبي محمد مع الفيلسوف سبينوزا؛ كما
نقرأ أقوال أغسطينوس مع أناشيد الفيدا
الهندية التي تعود إلى ألف وخمسمئة سنة ق م؛
وكان إغناطيوس دولويولا (القرن الخامس عشر
والسادس عشر) يدعو تلاميذه إلى إشعال العالم
– منطلقين بالطبع من ذواتهم. ألم يقل سقراط:
"اعرف نفسك فتعرف الكون والآلهة"؟ أليس
إله الدين المسيحي ساكنًا في قلب الإنسان؟ أما
السعادة فهي الضوء الذي يجذبنا ويحفزنا،
فنسير نحوه مشدوهين، مبهورين، تائقين، واعين
تارة، لاواعين طورًا. هذا الضوء قد يُعمي
بصرنا، فنتيه، أو يطير بنا، فنحلِّق...
وتنقذنا البصيرة، ونلتقي بذواتنا الحقيقة...
فنبصر. *** *** *** عن
النهار، الأحد 29 كانون الأول 2002 *
استنادًا إلى ملف في Le
Nouvel Observateur.
|
|
|