ما بعد القمر

للشيخ أحمد محمد حيدر*

 

ندره اليازجي

 

أعتقد أن الكتابة عن إنسان عظيم، استغرق تفكيرُه في الوعي الكوني، وأدرك بعقله الفوقي وبصيرته المتصلة بالحقيقة السامية معجزةَ الوجود والمغزى المبطون فيه، قضيةٌ تتطلب الجهد والسعي لمعرفة الأسرار التي تكتنف علمَه وعقلانيَّتَه وروحانيَّته، وصعوبةٌ كبرى تزداد سرَّانيتُها عمقًا كلما توغَّلنا إلى باطن عرفانه.

وإذا كان العقل الإنساني يرتقي مراتب الوعي ليبلغ المستوى الذي يُطلُّ منه على الحقيقة السامية أو يتَّحد معها فيمكنني أن أقول: إن الشيخ أحمد محمد حيدر قد تجاوز نطاق الفلسفة الكلاسيكية – محبة الحكمة – إلى نطاق صوفيا – الحكمة، وتسامى إلى نطاق ثيوصوفيا – الحكمة الإلهية. والحق أن هذا التدرُّج في مراتب العقل يبلغ أقصاه في رؤيا كونية وشمولية تبلِّغنا عن وحدة الثنائيات والأضداد في حقيقة سامية واحدة.

 

وإذا كانت الاتصالية الكونية قائمة في الوجود الكلِّي بحيث إن الحقيقة السامية لا تُرى أو لا تُعايَن في الانفصالية التي تجزِّئ الوجود إلى تناقضات ثنائية أو تعددية، يمكنني أن أخلص إلى نتيجة مفادها أن الشيخ أحمد عاين، ببصيرته، هذه الاتصالية التي تشير إلى وجود الوحدة من خلال الكثرة ووجود الكثرة في الوحدة. وهكذا أسمح لنفسي أن أقول: إن هذا الحكيم الملهَم، الشيخ أحمد، كونيٌّ في وعيه، وشموليٌّ في عقله، وفيلسوفٌ في منطقه، وثائرٌ في تقليده، ومصلحٌ في اجتماعيَّته، وصوفيٌّ–حكيمٌ في موقفه وسلوكه، وثيوصوفيٌّ في كلِّيته.

تتألق غبطتي، التي تمثل السعادة في أسمى درجاتها، وأنا أقرأ الكتب الثلاثة التي وضعها الشيخ أحمد، وهي: التكوين والتجلِّي، الحيرات، وما بعد القمر. وفي هذه الغبطة أرى نفسي مندفعًا لدراسة كتاب ما بعد القمر والبحث في مضمونه. ويعود اهتمامي بهذا الكتاب إلى سبب أصيل، هو أنني وجدت فيه حكمة "المبدأ الكلِّي" الذي أعتنقه، والشمول والكونية اللذين تمتلئ بهما ذاكرتي الكونية والبيولوجية المنطبعة في كياني عبر حيواتي السابقة، والطبيعة المادية المتسامية التي تتوهج بإشعاع الطاقة أو الروح، والإيمان الذي يتجاوز التقاليد المِلِّية والأعراف الوضعية والمذهبية الضيقة، والروحانية التي تتسامى على التفسير الحرفي القاتل، والعلم الذي يتوافق مع الدين في نطاق "فوق عقلي" من خلال تجربة روحية داخلية عميقة. ولا أبالغ، وأنا أعلن صراحة، بأني قرأت في صفحات الكتاب الآراء والنظريات العديدة الرائعة التي بها علماء لاهوتيون كبار، وصوفيون حقيقيون، وعلماء طبيعيون، وفيزيائيون لامعون، وفلاسفة مستنيرون. قرأت الإبداع الذي يؤلِّف بين هذه الآراء في وحدة متماسكة، وفي تكاملية متناسقة وانسجام متناغم.

والحق أنني أسمح لنفسي أن أعلن الحقيقة التالية: إن مجتمعًا يتبنى آراء الشيخ أحمد حيدر هو مجتمع فاضل يستحق العيش. ولو قُيِّضَ لهذا المجتمع عددٌ من المفكرين الفاعلين الذين يأخذون بمبادئه ويناصرون آراءه لسار هذا المجتمع في مقدمة ركب الحضارة، والثقافة، والعلم، والمعرفة، والتقدم. والحق أن روح هذا المجتمع، وتآلف أفراده في نطاق المحبة والتحمل والتسامح الديني والفكري، حريٌّ بأن يرفع أفراده إلى ذروة المجد والكرامة، ويهيِّئ لهم سبيل الخلاص الأرضي والكوني – وهذا لأن الشيخ احمد يوحِّد الأرض والسماء، ويقيم انسجامًا بين ما هو أعلى وما هو أدنى. ففي مبدئه نتعلم كيف تحيا الحقيقة السامية لحظات وجودها بإحياء كلِّ نقطة في الزمان والمكان في عملية تطورية متسامية. وفي هذا المنظور أرى كيف يؤمن الشيخ الجليل أحمد بالديناميَّة–الحركية للاتصالية الوجودية، ويقلِّص الميكانيكية التجزيئية.

وإذ شئتُ أن أفي هذا المفكر الثائر – والفيلسوف الصوفي–الحكيم، والإنساني المحبَّ – حقَّه، سعيتُ إلى إظهار المبادئ العامة المضمونة في فصول أو مقالات هذا الكتاب، والكشف عن العظمة المستترة في ثنايا سطوره.

1

في الفصل الأول، الذي يدعوه الشيخ أحمد "المقالة الأولى"، يتحدث المؤلِّف عن العلم والدين، ساعيًا إلى التوفيق بينهما. وفي رأيه أن الجاهل وحده يعتقد أن الدين يتنافى مع العلم – وهذا لأن العلم "عبادة لا تجاريها عبادة"، و"العلماء يكادون أن يكونوا ورثة الأنبياء". وإذا كان الشيخ أحمد يعتبر العلم فلأنه يرى أن "العالِم يرث النبي لأنه عالِم بما هو عليه الكون والتكوين بحسب الطاقة"، ويؤكد أن الدين "يفرض على ذويه الإيمان بالنواميس الكونية". ويستخلص من مقولته هذه النتيجةَ الفكريةَ التالية: "خير ما يعبدُه عابدٌ، أو يعرفُه عالِمٌ، أن يهتدي المرء إلى أن لله سرًّا في مكوِّناته؛ وبهذا السر يعرف الحقائق الوجودية في نفسه." لذا ينظر الشيخ أحمد إلى الدين والعلم على أنهما "كفتا ميزان لا يقوم أحدهما إلا بصاحبه". ويستنتج ما يلي: "الدين لا يُفهَم فهمًا صحيحًا إلا بالعلم الصحيح؛ فالعلم وحده هو الطريق القويم لمعرفة الدين." وعلى هذا الأساس، يقيم هذا المفكر المبدع الفرق بين عبادة الجاهل وعبادة العالِم، إذ يقول: "عبادة العلماء فكر وتأمل وبحث واستقراء أولاً، ثم ألفاظ ثانيًا." ويشيد الشيخ أحمد بالعلم، إذ يصرِّح قائلاً: "ليس علم القرآن علم شريعة فقط بل علم بالمطلق."

لا يقف الشيخ أحمد عند هذا الحدِّ من البحث، بل هو يسعى إلى التوفيق بين المعجزة والعلم، فيقول في هذا الصدد: "خلقة المسيح، من تكوينه إلى رفع الله إياه بجسمه إلى السماء، تحدٍّ لنُظُم الطبيعة." ومع ذلك، لا تتنافى هذه المعجزة مع مبادئ العلم؛ فالمرء القادر على معرفة أسرار الطبيعة والكون، على نحو أفضل وأكثر سرَّانية، يدرك المغزى العجائبي للحدث. ولا يتوانى الشيخ أحمد عن إقامة الدليل والبرهان على مبدئه هذا، فيقول: "إذا كان الإنسان مخلوقًا على الصورة الجامعة للصورة الكلِّية فحريٌّ به أن يكون السرَّ الذي كُوِّن الكونُ لأجله." ويضيف قائلاً: "العلم لم يكشف شيئًا ماديًّا أو معنويًّا إلا وكان هذا الكشف ذاته كشفًا عن ناحية من نواحي هذا الكشف، وبالتالي هو كشف عن ناحية من نواحي عظمة الله المحيطة." والحق أن من يدرك النواحي العديدة للعظمة الإلهية يدرك أيضًا أن العلم والمعجزة لا يتناقضان. وينهي الشيخ أحمد صياغة مقولته كما يلي: "كلما كان المرء عالمًا بأسرار هذا الكون، كان أشد إيقانًا بالله" وأكثر فهمًا للمعجزة."

وإذا ما بلغ الشيخ أحمد هذا الحدَّ من البحث أشار إلى أن حقيقة الإيمان القائم على العلم، والعلم المتوافق مع الدين، لا يتعزز إلا في حرية العقل، وإطلاق الفكر، والخلاص من سيطرة رجال الدين. وفي هذه الإطلاقية الفكرية، والحرية العقلية، والانعتاق من تسلُّط رجال الدين، يدرك المؤمن أن "كلَّ عمل يصل الإنسان بالله صلاة، كما وكلَّ مكان يعمل به ويحقق الله فيه فهو مسجد." ويتابع الشيخ أحمد كلامه ليقول: "القلب أكمل وأطهر مسجد لله." ومن جانبي، أعتقد أن الشيخ أحمد يقف مع سائر الصوفيين–الحكماء على مستوى واحد: إنه وإياهم حكماء ملهَمون. فهو لا يحدُّ عبادته أو إيمانه أو صلاته أو فكره بالزمان والمكان.

وإذا ما تساءلنا عن الإنسان القادر على الإحاطة بهذه الرؤية الفلسفية العميقة والتوفيقية أجبْنا، بلسان الشيخ أحمد، بأنه الإنسان – الصورة المصغرة للصورة الإلهية: "الصورة المصغرة عن جميع المكونات، محسوسها ومعقولها، وكثيفها ولطيفها... والمكونات هي الصورة المكبرة للإنسان"، و"كشف محتويات هذا الإنسان لا يكون إلا باكتشاف أسرار الكون بأجمعه، المادي والمعنوي".

2

في المقالة الثانية – وهي بعنوان "الشمس والقمر" – يتحدث الشيخ أحمد عن عبادة الأجرام السماوية "باعتبارها مظاهر حركة القوة الفعَّالة". فهو يذكر أن الأقدمين عزوها، من حيث الأفعال، إلى ثلاثة أقانيم: الجوهر والمادة والحياة. وفي رأيه أن العلماء الروحيين اعتبروا هذه "الأجرام واسطة بين الروحانيات وبينهم". وعلى هذا الأساس، تُشبَّه الشمس بالإبداع الأول "الذي عنه وُجِدَت الشمس، لأن هذا الإبداع هو سرُّ الله الساري في مكوناته". ويشير الشيخ أحمد إلى أفلاطون الذي يقول: "الشمس مولد الخير، ولدها الخير الأعظم على صورة الإبداع الأول." ويؤكد شيخنا الجليل أن "الأرض مرآة تعكس النور". ومن هذا المنظور يفسر الشيخ أحمد عبادة الأصنام فيقول: "كانت رمزًا لعبادة الأجرام السماوية لأنها وسائط للروحانيات." ويقتبس من الصابئة، الروم منهم والهندوس، قولهم: "لا بدَّ من متوسط وشفيع بين الناس والروحانيات." والناس يتقربون إليها "بهياكلها أي بصورها وهي الكواكب". ويذكر الشيخ أحمد التدمريين وحَضَرَ الحجاز الذين "أقاموا محارم للعزَّى – تمثال كوكب الصبح أو الزهرة – واللات، ومناة – إلهة القضاء والقدر، وصمنها حجر أسود".

تتوضح نظرية الشيخ في هذه المقالة؛ إذ يعترف ويُقرُّ – بل يؤكد – وجود شموس وأقمار عديدة "مأهولة بأحياء لا نعلم كيفية حياتهم، ولا تركيبهم". والحق أن هذه الكواكب مأهولة بكائنات قد تكون أكثر سموًّا من أهل الأرض، أكثر علمًا ومعرفةً، وأكثر أثيريةً وروحانية. لذا لا تخضع دراسة هذه الكائنات لمقاييس ومعايير الحياة على كوكب الأرض، لأن سلسلة الحياة الكونية الصاعدة لا تتوقف عند حدود الحياة على كوكب الأرض.

وفي سبيل توضيح أشمل لمبدئه في مقالة "ما بعد القمر" يشير الشيخ أحمد إلى وجود أقمار عديدة تدور حول كواكب أخرى. فإذا كان لأرضنا قمر، كان "للمريخ قمران، وللمشتري اثنا عشر قمرًا، ولزحل تسعة، ولأورانس خمسة، ولنبتون قمران". وفي هذه الصورة تتجلَّى جرأةُ الشيخ وعمق تفكيره: جرأته البائنة في تجاوز القمر المعهود الذي يدور حول الأرض إلى الأقمار الأخرى، وعمق تفكيره في إضفاء الحياة على الكواكب لكي تكون الحياةُ اللحمةَ التي، في كنفها، تتحقق الاتصالية الكونية والحقيقة السامية الشاملة. وفي هذه الصورة نعاين الحقيقة التالية، وهي أن الشمس وكواكبها وأقمارها كائنةٌ وقائمة وكامنة في الجوهر الفرد الذي "يمثل شمسًا لا تُرى، ولها من كهاربها حول النواة سيارات أيضًا". وهكذا، ألا يجدر بنا أن نتجاوز القمر إلى ما بعد القمر الأرضي في النظام الشمسي، ونعاين هذه الحقيقة في الإنسان ذاته وفي الكون؟

3

وفي المقالة الثالثة – وهي تحمل عنوان "النور والمادة" – نجد أن الطاقة والإشعاع يشكلان جوهر المادة. فالنور، في رأي العلماء الإلهيين، هو أصل الأشياء: "النور الذي تكثَّف بالقدرة وتستَّر بالحكمة." والحق أن العلماء المحدثين قد أثبتوا أن المادة طاقة، والطاقة هي حقل الروح، أو هي، كما يدعوها الشيخ أحمد، "النور الطبيعي" أو " النور المتشيِّئ". وفي هذا المجال يتحدث الشيخ أحمد عن

أ‌.       "نور متشيِّيء مُحس"؛ و

ب‌.  "نور غير متشيِّيء هو الطاقة الإشعاعية"؛ و

ت‌.  "نور نبصر به الأشياء وكيفياتها وصورها"؛ و

ث‌.  "نور فكري ندرك به الأشياء".

بالإضافة إلى ذلك، يرى أن النور يكوِّن الوجود بكامله و"يحوِّل الأشياء من صورة إلى أخرى". والحق أن هذا ما تراه الفيزياء الحديثة، إذ تعلن أن المادة إشعاع. أما الطبيعة فهي، في رأيه، "خفقات من النور تكوِّنها عوامل روحية معنوية". وعلى هذا الأساس، تنطلق الأشياء المحسوسة، عبر تدرُّجاتها، من السديم إلى الأجزاء الدقيقة، لتعود إلى النور، أو لتصبح حركة، أو لتتحول إلى شكل آخر من أشكال القدرة أو النور. ووفق هذا المنظور، تقرُّ الحكمةُ القديمة (التي يدعوها الشيخ أحمد "العلم الإلهي") والعلمُ الحديث بوحدة الكيانين، المادي والنوري.

في هذه المقالة يحدِّثنا الشيخ أحمد عن فناء المادة الذي يؤدي إلى "إنتاج الفوتونات الضوئية النورية". ويتم هذا الفناء في الوقت الذي تتواجه المادة والمادة المضادة. وفي رأيه أن بعض العلماء يظنون أن "المادة المضادة هو الروح بلغة العلم". وفي هذا الصدد، نقرأ ما يذكره عن المادة والكهرطيسية. فالمادة، كما يقول، "أثير في حالة خاصة؛ الأثير مادة، والمادة أثير. والمادة الفيزيائية أثير يهتز ضمن حدَّين ويشكل مادة معينة". والكهرطيسية "ليس لها كتلة مادية، ولا تحمل شحنة كهربائية لا سالبة ولا موجبة، وهي تخترق المادة بسرعة النور". وإذ يتحدث الشيخ أحمد عن الفيض الإلهي، يقول بأنه يفيض على الكلِّ الواحد. ويعود شيخنا الجليل إلى آراء الفلاسفة والعلماء الذين يؤكدون على "وحدانية الوجود والنور، وعلى الفعل الإلهي في المادة". ولما كان قد اعتمد في العديد من آرائه على أطروحات العلماء الكبار فإنه يقتبس من أينشتاين عبارتيه الشهيرتين للدلالة على أهمية الشعور الديني:

أ‌.       "ديني هو إعجابي بالروح السامية."

ب‌.  "الشعور الديني أقوى حافز على البحث العلمي."

كما يقتبس من هيغل الذي يعترف أن العقل ماثل في كلِّ شيء. وهكذا يعود، مرة ثانية، ليوفِّق بين العلم والدين.

4

في المقالة الرابعة – وهي "السكون والحركة" – نتعرف إلى الآراء الفلسفية العديدة التي تقول بتناوب في الكون بين حركته وسكونه. فإذا كانت الحركة هي اهتزاز السكون فلا بدَّ أن يشكلا حقيقة واحدة للكون. والحق أن قراءتي لهذه المقالة ذكَّرتْني بأنواع الحركة التي تحدث عنها الفيزيائي العظيم ديفد بوهم. يحدِّثنا بوهم عن أنواع ثلاثة للحركة:

أ‌.       الحركة الميكانيكية الظاهرة التي نشاهدها في العالم الخارجي؛ و

ب‌.  الحركة الطبيعية اللامرئية التي تقع في المستوى ما دون الذرِّي ولا تخضع لرؤيتنا، بل تأخذ مجراها داخل الطبيعة عبر التحولات المذهلة؛ و

ت‌.  الحركة الكونية الكلِّية التي هي فيض أو سيلان أو دفق يُمِدُّ كلاً من الحركة الطبيعية الداخلية والحركة الميكانيكية الخارجية؛ هي حركة لامرئية، لاموصوفة، لاشكلية، لازمنية، ولاسببية. ويعترف بوهم بأن تسميتها بالحركة الكلِّية مجرد اصطلاح.

في هذه المقالة، نرى الشيخ أحمد يعود من جديد ليتحدث عن الطاقة التي لا تُحَسُّ ولا تُلمَس، وعن المادة المحسوسة التي "تصير كمًّا من الطاقة". وفي رأيه أن المادة تنشأ عن "طاقة تنتجها قوة عامة"، هي، في مفهوم بوهم، حركة كلِّية أو سيلان أو دفق كلِّي دائم يفيض ليهب الحياة والحركة والتلقائية للمادة. وإن ما يجذبنا إلى فكر الشيخ أحمد هو هذا العمق الذي يتصف به. فهو يقف إلى جانب المبدأ الديناميِّ الذي يرى أن جميع الأشياء تتحرك. وإذا ما "تحركت الأشياء بسرعة تساوي أو تفوق سرعة الضوء صارت عدمًا"، أي وجودًا غير قابل للقياس بحسب معاييرنا.

وإذا ما تساءلنا عن السكون أجابنا الشيخ أحمد بأنه "الحق سبحانه". وفي سبيل توضيح فكرته هذه يقول: "مَن عَكَسَ نظرَه على ذاته رأى أن حركة عقله تتمثل بالسرعة التي لا تُتصوَّر مع السكون الذي لا حركة به مطلقًا." فما أعظم هذه العبارة وما أجملها! وعلى هذا الأساس، يرينا كيف يكون السكون والحركة في العقل والنفس. وإذا ما أردنا أن نتحدث عن السكون والحركة قلنا، كما قال بعض الفلاسفة القدامى، إن الشيء المتحرك ثابت في كلِّ نقطة من نقاط الوجود.

5

في المقالة الخامسة – وهي "الدثور والتجدد" – نطَّلع على الفكرة الرئيسية التي يعتمدها الشيخ أحمد ويعبِّر عنها بالطريقة التالية: " لكلِّ شيء فناءٌ في نفسه وبقاء من قبل موجِده." وتذكِّرني هذه العبارة بالحكمة المعلنة: "في كلِّ لحظة نموت ونتجدد"! وهذا يعني أن الحياة الإنسانية، والحياة على المستويات الوجودية الأخرى، تتابع مسيرتها الكيانية من خلال قانون البناء أو التشكُّل والتدمير أو التهديم. لذا يتوافق كلُّ ما هو حيٌّ مع قانون التبدل، والتطور، والتحول، والتجدد. وفي هذا المعتقد ينسجم تفكير الشيخ أحمد مع العلماء–الفلاسفة، الأقدمين منهم والمحدثين، الذين يرون في الكون تناوبًا بين الحياة والموت، بين النشوء والفناء، وبين النظام والعشوائية، في سيرورة وصيرورة دائمتين لا تنقطعان. والحق أن هذا المنظور يقع تحت مقولة ديناميَّة الحياة، واتصالية الكائنات وتدرُّجها من كياناتها الدنيا إلى كياناتها العليا. والأشياء، والوجودات بكاملها، تتجدد وفق إيقاع كوني يتلاءم مع درجة كلِّ كيان حيٍّ ومستواه. وإذا ما طرأ الفناء على كيان عاد إلى التكوُّن والتشكُّل من جديد؛ وإذا ما طرأ تبدُّل عليه تحوَّل إلى كيان آخر أو تشكَّل في بنية أخرى. فالمادة، في رأي الشيخ أحمد، "تنتهي من كثافتُها إلى طاقة؛ والطاقة مظهر للقوة التي هي أثر من آثار القدرة الإلهية". وعلى هذا الأساس، تتفق وجهة نظر الشيخ أحمد مع وجهة نظر الفيزياء الحديثة التي تعلن مبدأ تكافؤ الطاقة والكتلة. وفي هذا التكافؤ، تتجاوز الطاقة حدودها المادية المشكَّلة في كتلة إلى وجود مجرد من المادة أو الكتلة. لذا نستنتج أن الطاقة تبقى وتدوم دون كتلة؛ ولكن لا وجود للكتلة دون طاقة. إذن فالمادة طاقة كثيفة، روح كثيفة، اهتزاز ضمن حدَّين. وإضافة إلى ذلك، تتفق وجهة نظر الشيخ أحمد، وهو يعالج موضوع الوجود المتدرِّج للأشياء والكيانات، مع وجهة نظر العالِم إيليا بريغوجين، حامل جائزة نوبل في الكيمياء (1979)، التي تعترف بترتيب الكائنات والوجودات، بحيث إن الأعلى يشتمل على الأدنى ويُتضمَّن الأدنى في الأعلى. وفي هذا الصدد يقول الشيح أحمد: "العالم بأجمعه تدريجي الوجود." ويضيف قائلاً: "كان عنه، أي الله، التكوين بالتسلسل." وفي حديثه عن الفيض يقول: "الفيض الإلهي على الأشياء فيض واحد على ترتيب واحد؛ لكن الأشياء ليست على ترتيب واحد. فيكون قبولها للفيض على ترتيب واحد، ولكن يختلف باختلاف القوانين."

6

في المقالة الثامنة – وهي "النظرية النسبية والفلسفة الأولى" – يتحدث الشيخ أحمد عن المتَّصَل الزماني–المكاني، ويذكر ما رواه الفلاسفة الإلهيون في بحوثهم عن الآن–هنا. وعلى هذا الأساس، ليس ثمة ما ندعوه "ماضيًا، أو حاضرًا، أو مستقبلاً إلا في المنظور النسبي". وإذا كان الأمر كذلك فحري بنا أن نتحدث عن الأبعاد التي تشكِّل الزمان والمكان. والحق أن النظرية النسبية، التي أضافت إلى الأبعاد الثلاثة بُعدًا رابعًا معبَّرًا عنه بالضوء، أحدثتْ ثورةً في مفهومَي الزمان والمكان. فالمكان المطلق أو الزمان المطلق، من وجهة النظر النيوتنية، لم يعد قابلاً للتطبيق في الزمكان الرباعي الأبعاد. وإذ نحاول إدراك الزمان، بأبعاده الثلاثة – الماضي والحاضر والمستقبل، نعلم أن البعد الوحيد الذي يقبل الدراسة والبحث هو الماضي – وهذا لأن المستقبل يرتد، عبر الحاضر، إلى الماضي. والحقيقة الأزلية الوحيدة هي الحاضر. لذا نقول بأن الحقيقة السامية كلِّية الحضور – هي الحضور في كلِّ شيء، والصيرورة المعبَّر عنها بالزمان.

يعتقد الشيخ أحمد أن الزمان مؤلَّف من أكوار وأدوار وأحقاب. يقول: "الثانية ليست ثانية إلا بالنسبة لتقسيمنا الدقيقة ستين جزءًا؛ والدقيقة ليست دقيقة إلا بالنسبة لتقسيم الساعة ستين جزءًا؛ واليوم ليس يومًا إلا بالنسبة لتقسيمنا اليوم إلى اثنتي عشرة ساعة؛ وهكذا." ويعتمد الشيخ أحمد على قول أفلاطون إن "المكان والزمان صورة متحركة للأزل". على هذا الأساس، "يكون الزمان جزءًا من الأزل، وإنسانيًّا محضًا".

7

في المقالة التي تحمل عنوان "الأيام" يحدِّثنا الشيخ عن الزمان والمكان وعن أيام الله، وعن القانون الأبدي الذي يقوم على الأدوار. فالزمان، في رأيه، هو "حركة الفلك، والمكان هو ما أحاط به الفلك، أو ما مُلِئَ به الفلك". وعن الأيام، يتحدث المؤلف عن الأيام الستة فيقول عنها بأنها "عبارة عن عالم الأرواح المجردة، أو عبارة عن تكوين جميع المكونات، معقولها ومحسوسها". أما الأرض، في معتقده، فهي "عبارة عن عوالم الأشباح، مادية كانت أم مجردة".

تذكِّرني وجهة نظر الشيخ أحمد في الزمان والمكان، المطروحة في العبارة السابقة، بنظرية اثنين من علماء الرياضيات والفلك، هما كوزيروف وهويلر. يقول هذان العالمان ما مفاده إن الزمان بدأ بعد تجمُّع أو تكاثف الطاقة، وبعد دوران الكواكب والأجرام بعضها حول بعض. إذن فالزمان هو حركة الفلك، ولا وجود له إلا بهذه الحركة الدائرية؛ والمكان هو كثافة الطاقة.

وفي حديثه عن الأيام يبيِّن لنا الشيخ أحمد التأويل الشرقي القائم في يوم براهما، يوم الله. ويمتد زمان يوم براهما على 4320000000 عام. وهذا اليوم هو يقظة براهمان وهجوعه، وفق ما أتت به الفلسفة الهندوسية. وعمر الأرض، وفق الدراسات الباطنية، يتوافق مع رمزية العدد سبعة. والحق أن دراستي لعمر الأرض، وفق ما أتتْ به هذه الحكمة السرية القديمة، تشير إلى أنه يتألف من سبعة أدوار رئيسية، تنقسم بدورها إلى سبعة أدوار تحتية أو جزئية، بحيث يصل عمر الأرض إلى نهايته بعد انقضاء تسعة وأربعين دورًا تحتيًّا. والحق أن دراستي أبانت لي أن كلَّ دور تحتي أو رئيسي ينتهي بتحول فظيع للمادة، يظهر على شكل فاجعة أو كارثة تتمثل بطوفان نوح أو بغرق الأطلنطيس. لذا كان طوفان نوح، والطوفانات الأخرى التي دوَّنتْها سجلاتُ الأمم الأخرى، رمزًا أو إشارة إلى نهاية دور وبدء دور جديد. وفي نهاية الأدوار التسعة والأربعين ينتهي يوم براهما، فتكون "القيامة"، أي نهاية التشكل الكوكبي الأرضي المادي وعودة هذه المادة إلى ما كانت عليه من طاقة كونية. ومع ذلك، يبدأ يوم جديد لبراهما، إذ تتكاثف الطاقة من جديد، فيبدأ التشكُّل والتكوُّن، ويبدأ الزمان والمكان، وتعود السيرورة الكوكبية، ويدوم يوم براهما، والأدوار الرئيسية والتحتية، إلى ما لا نهاية في عَوْدٍ أبدي. ويتم هذا كلُّه وفق القانون الأبدي الذي، كما يقول الشيخ أحمد، " يقلب الأدوار فيبدؤها، ثم يعود فيطلع النهار [نهار براهما] مرة أخرى. وهكذا، دواليك إلى غير انتهاء لأنه لا انتهاء للزمان". فالأيام والشهور الزمانية، في رأيه، "صورة للدهر، والدهر صورة للسرمد". ولقد أُعجِبتُ بالعبارة التي يورِدُها الشيخ أحمد عن الفرق بين ساعات الناس – أي زمان الناس – وساعات الصخور – أي زمان الصخور –، فيقول: "ساعات الصخور أدق من ساعات الناس."

8

في المقالة العاشرة – وهي "الأديان ورجال الدين" – تتألق كونيةُ الشيخ أحمد وشموليتُه ومحبتُه – تلك الشمولية المجردة من التعصب المِلِّي والقومي أو الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة – هذا التعصب الذي يلقِّنه رجال الدين لتابعيهم، إذ "يصوِّرون لهم حسنات الأديان الأخرى سيئات شنيعة". وفي رأيه أن رجال الدين "ينقضُّون على العقل والعلم، ويلتجئون إلى الغيبية [والغيبية هي "غياب" العقل عن فهم الحقيقة!]، ويلوذون بالنميمة، ويتذرعون بالشتائم... إذا لم تتهيأ لهم فرصةٌ تمكِّنهم من اضطهاد العقل والعلم". وهكذا، تظهر تأليفية الشيخ أحمد المتمثلة في موقفه المتسامح من الأديان – هذا الموقف الذي يريه حسنات الأديان الأخرى. هكذا تمثلتُ الشيخ أحمد بآرائه التي نادى بها غاندي وغيره من كبار الموحِّدين للواقع الإنساني في أبعاده: الدينية، والثورية، والفكرية، والفلسفية، والعلمية. ولقد تألقت المحبةُ الإنسانية في صميم مبادئه.

9

وفي المقالة الحادية عشرة – وهي الهادفة إلى بحث "المعجزة" – أدركتُ أن شمولية الشيخ أحمد ترينا حقيقة المعجزة في إطارها الكوني والطبيعي. فإذا كان الكون خارقًا وعجائبيًّا أدركنا أن المعجزة الكونية هي الأساس والجوهر. فحيثما اتجهنا بأنظارنا رأينا الأعجوبة–السرَّ. ألا نقول عن الله بأنه سرٌّ، وعن الحياة بأنها سرٌّ، وعن الإنسان بأنه سرٌّ، وعن الذرة بأنها سرٌّ، وعن الخلية بأنها سرٌّ، إلخ؟ ألا نشاهد "السرِّية" في الخليقة كلِّها؟ وإذا كان السرُّ هو العمق الباطن والجوهري للوجود، الذي يزداد عمقًا كلما زاد تأملنا له، فإن السرَّ، الذي يتجاوز الرمز إلى الباطن الجوهري، هو الأعجوبة أو المعجزة ذاتها. وهذه المعجزة هي حاضرة الآن، وفي كلِّ لحظة. والحق أن الإنسان الذي يسعى إلى إدراكها ومعرفتها في أمور جزئية عادية يتغاضى عن السرِّ المكنون في باطن الحقيقة السامية والكونية والطبيعية. وهكذا نرى الشيخ أحمد يتحدث قائلاً: "لا استحالة في خوارق الطبيعة." وهذا يعني أن كلَّ ما في الطبيعة خارق لأنه عجيب، "سرِّي"، ومعجزة. والعلم في رأيه، "لا يجرؤ على القول بأن الإلهام مستحيل." وهذه المعجزة التي يتحدث عنها تحتاج، في رأيه، إلى رياضة وممارسة. وأخيرًا، يرى الشيخ أحمد أن المعجزة نوعان: مادية، يكون مفعولها ماديًّا، ومعنوية، هي "نطق الوجود وما كان من عجيب التكوين".

10

هكذا أدركت فلسفة الشيخ أحمد محمد حيدر – فلسفة ترينا العمق الذي يتوخَّاه العلم. وفي هذا العمق تتجلَّى عظمةُ الدين بمفهومه الكوني. أدركت في فلسفته ثورةَ الإنسان على التقاليد التي ترميه في أحضان التعصب والجهل والأنانية. والحق أن الشيخ أحمد رائدٌ من روَّاد الانعتاق والتحرر من حرفية الكلمة وآليتها، ومرشد حكيم، يُدخِلنا إلى ديناميَّة الروح وسرَّانية الإنسان والوجود. إنه يعلِّمنا كيف ننظر ببصر وبصيرة، وعقل وحدس، وعلم ودين، إلى "ما بعد القمر" – إلى ما بعد المحدودية الفكرية.

*** *** ***


* نص المقدمة التي وضعها الأستاذ ندره اليازجي لكتاب ما بعد القمر، الأعمال الكاملة 2، لجنة إحياء تراث العلامة الشيخ أحمد محمد حيدر، دار الشمال، طرابلس – لبنان. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود