|
إنسَ بغداد...* للمخرج
العراقي سمير
أكرم
أنطاكي
1
يا
إلهي! كيف نخرج من هذه المأساة؟ كيف ننهي (و/أو
ننتهي من) هذه الحماقة المدمرة؟ كانت
هذه هي طبيعة التساؤلات التي راودتْني حين
شاهدت الفيلم لأول مرة في منزل صديقي د. سمير
التقي... وقد أعدتُ بعدئذٍ مشاهدة الفيلم مرات
عدة، ثانية وثالثة ورابعة (لا أعتقد أنها
ستكون الأخيرة). وفي كلِّ مرة، كانت تؤرِّقني
بشكل أساسي نفس التساؤلات وغيرها. وجميعها
كانت تدور حول نفس المحور الذي يتساءل عن
مقدار ما حصل لنا بسببهم (طبعًا) – وإلى
حد كبير أيضًا (ربما) بسببنا – من تشويه ودمار. لكن،
معذرة أخي – قارئ معابر الحبيب – لأني لم
أضعك في الصورة بعد. فالفيلم الذي أحدثك عنه
هذه المرة (بدلاً من أن أحدثك عن كتاب)، والذي
يحمل عنوان "إنسَ بغداد..."، هو فيلم
وثائقي أخرجه أحد أبناء عمومتنا (أحد
أعدائنا؟!) الذي يدعى "سمير"، ويروي مسار
وحياة أبناء عمٍّ لنا آخرين هاجروا و/أو
هُجِّروا إلى إسرائيل، في حينه، من العراق
الحزين.
سمير،
مخرج فيلم "انسَ بغداد" 2
لكن،
من هو سمير هذا يا ترى؟ إنه،
كما يعرف نفسه بنفسه، ابن شيوعي عراقي
هُجِّرَ في نهايات الأربعينات من القرن
الماضي من العراق إلى ما أضحى يُعرَف اليوم
بدولة إسرائيل، ويعيش حاليًّا مع عائلته في
سويسرا. ومن هناك، بوحي من والده، الذي لم
ينسَ بغداد، تتبَّعَ مسار آخرين كأبيه،
عاشوا، بهذا الشكل أو ذاك، نفس المأساة... وكان
مَن قابلهم لهذا الغرض في منازلهم، في حيفا أو
في ضواحي تل أبيب، أربعة رجال في خريف العمر (لم
يتعرفوا إلى والده) هم السادة شمعون بلاص،
موسى حوري، سمير نقاش، وسامي
ميخائيل، بالإضافة إلى امرأة في منتصف
العمر، هي أيضًا ابنة يهوديين عراقيين
مهاجرين، السيدة إيلا حبيبة شوحت التي
قابلها في منزلها في نيويورك. شمعون
بلاص،
الذي عرف بنفسه كأستاذ وكاتب باللغة العبرية،
متزوج، يعيش في حيفا، ويملك أيضًا شقة صغيرة
في باريس قرب الـCanal du Nord،
أصرَّ من بداية حديثه على الكلام باللغة
العربية التي مازالت تشكل بالنسبة له حقيبته
وزاده الثقافي. كذلك
بالعربية تحدث إليه موسى حوري، التاجر
الذي يسكن حاليًّا في رامات جان، والوحيد من
بين هؤلاء الذي مازال، إلى اليوم، عضوًا في
الحزب الشيوعي. وكذلك
أيضًا بالعربية تحدث سمير نقاش الذي يعيش
حاليًّا في بتاح تكفا، والذي عرفنا إلى نفسه
ككاتب باللغة العربية، والذي لاحظ – بحزن –
كيف لم يستطع، مع الأسف، تعليم العربية، لغته
التي أحبها – ولم يزل – إلى ابنه. وكذلك،
أيضًا وأيضًا، تحدث بالعربية الأديب (الذي
يكتب حاليًّا بالعبرية) سامي ميخائيل
الذي يعيش في حيفا، لكنه ولد في الحي اليهودي
في بغداد عام 1926 – سامي الذي ادعى، بكلِّ فخر،
أنه استطاع أن يفرض نفسه وأن ينتصر (كدولة
مجازًا) كإنسان، بحدِّ ذاته، على دولة
إسرائيل. وأخيرًا
بالإنكليزية، التي غالبًا ما كانت تتخلَّلها
كلماتٌ عربية، حدثتْنا إيلا حبيبة شوحت،
ابنة الأسرة اليهودية العراقية التي كان
والدها، في حينه، موظفًا في مؤسسة السكك
الحديدية في العراق والتي تعيش حاليًّا في
نيويورك بعد أن تركتْ وعائلتَها إسرائيل بسبب
ما تعرضتْ له من مضايقات نتيجةً لمواقفها
الفكرية والسياسية. 3
وجميع
هؤلاء حدثونا عن حياتهم في عراق كان، مع
بدايات وعيهم وفي ظلِّ الانتداب البريطاني،
يعيش بدايات حداثته؛ وكيف كانوا، كيهود،
منسجمين مع باقي السكان، وخاصة مع الأكثرية
المسلمة، إلى حدِّ أن بعضهم أصبح يترك الحي
اليهودي ليعيش في تلك الأحياء الجديدة
المختلطة، حيث كانت تنتفي التفرقة الدينية، "...
لأن شعب العراق لم يكن يومًا متدينًا (كما
يلاحظ بطرافة سامي ميخائيل)، والنكات التي
كانت تطال الحاخامات اليهود كانت نفسها تطال
الكهنة المسيحيين ومشايخ الإسلام...".
وأيضًا... حدَّثنا
هؤلاء جميعًا عن بقائهم على هذه الحال
منسجمين، يعيشون – كالجميع – حياةً طبيعية...
حتى وقعت المأساة الهتلرية والحرب العالمية
الثانية، وما رافقها من انعكاسات سلبية على
العراق، حين قام ضابط قومي هو رشيد عالي
الكيلاني بانقلاب تسلَّم بموجبه، في حينه (1941)،
الحكم لبعض الوقت، وأقام علاقات مع دول
المحور. فاندلعت حربٌ محلية شنَّتْها إنكلترا
على هذا الأخير، واستعادت بموجبها سيطرتها
على العراق. وكان ما حدث هناك، في حينه (أيام
رشيد عالي)، من حملات اضطهاد طالتْ اليهود
العراقيين الذين كانوا معادين لهتلر،
وبالتالي لرشيد عالي – تلك الحملات التي
عُرِفَتْ، في حينه، بـ"الفرهود"، إذ
اجتاحت البداوةُ بغداد وارتكبتْ مجازرها ضد
اليهود، وكيف حمى العرب والمسلمون، في
كثير من الأحيان، أشقاءهم اليهود من التنكيل،
وتعرضوا، بسبب ذلك، لتنكيل "القوميين"
من أبناء إثنيَّتهم أو دينهم. وأيضًا... حدَّثَنا
هؤلاء، وتحديدًا منهم بلاص والحوري وميخائيل،
عن كيفية تعرُّفهم إلى الحزب الشيوعي
العراقي، ولماذا اختاروا، في حينه، ذلك الخط
الذي رأوا فيه خطًّا وطنيًّا وإنسانيًّا
يحارب النازية والاستعمار البريطاني، من
جهة، ولا يميِّز بين أبناء البلد الواحد بسبب
انتمائهم العرقي أو الإثني أو الديني، من جهة
أخرى؛ كيف انتسبوا إلى ذلك الحزب؛ كيف
اصطدموا مع سلطات الاحتلال في هبة 1946 وقدموا
بعض الشهداء من أجل قضيتهم التي كانت، في
حينه، قضية الشيوعية وقضية استقلال العراق؛
وكيف تعرضوا للاضطهاد بسبب قناعاتهم
ومواقفهم؛ وخاصةً، كيف ساهموا، في حينه، في
تعبئة أغلبية اليهود العراقيين ضد الصهيونية
والهجرة إلى إسرائيل بقيادة الحزب الشيوعي
الذي كان على رأسه آنذاك قائده (الأسطوري) فهد
– هذا القائد الذي مازالوا يذكرونه، إلى
الآن، وقد انقضى نصف قرن على مغادرتهم العراق.
موسى
حوري أمام صورة فهد ...
لأنهم، وإن مروا مرور الكرام على "عصبة
مكافحة الصهيونية" التي أنشأها الحزب، في
حينه، لمحاربة الصهيونية في صفوف اليهود
العراقيين – وهذا أمر ملفت للنظر – فقد
حدثونا بإسهاب عن كيفية إفشال جهودهم هذه، في
حينه، بسبب تواطؤ الحكومة العراقية – التي
أصدرت يومذاك قانون إسقاط الجنسية الذي
طُبِّق على اليهود العراقيين – مع الحركة
الصهيونية التي لجأت آنذاك إلى الإرهاب
والتفجيرات لدفع اليهود العراقيين إلى
الهجرة إلى فلسطين، وربما (من وجهة نظري) بسبب
تواطؤ آخرين.**
وأيضًا... حدثونا
كيف هاجر (أو هُجِّر) اليهود العراقيون (الذين
كان تعدادهم آنذاك في العراق يقارب الـ140000) في
النهاية إلى إسرائيل خلال أقل من عام. وأيضًا
وخاصةً... حدَّثَنا
هؤلاء عن معاناتهم الأولى هناك... كيف
رشَّتْهم السلطات الصحية الإسرائيلية لدى
وصولهم بالد.د.ت؛ كيف ناموا على الصخر، وكيف
أُسْكِنوا في خيام، وعن رداءة ما كان يُقدَّم
لهم من طعام؛ وكيف أضربوا، في حينه، بسبب هذه
المعاملة السيئة. كما حدَّثونا خاصة عن
معاناتهم بسبب انقطاعهم عن جذورهم وتقاليدهم
التي كانوا يعيشونها بسبب وضعهم في أجواء
غريبة عنهم. وأيضًا... وبمنتهى
الإنسانية، حدثنا هؤلاء أيضًا عن كيف بدأوا
يتفاعلون بواقعية مع وسطهم الجديد، من خلال
اتصالهم بالحزب الشيوعي الإسرائيلي، أولاً،
والكتابة في صحافته وأدبياته بالعربية
ثانياً، بالنسبة لهم جميعًا (لأنهم لم يكونوا
يعرفون العبرية في حينه)، ثم بالعبرية
بالنسبة لاثنين منهم، هما السيدان بلاص وميخائيل.
وحده النقاش، من بين هؤلاء الأربعة،
مازال إلى اليوم يكتب بالعربية. لأنه، إن كان
يبدو جليًّا من حديثهم المرير أن الحوري (الوحيد
من بينهم الذي مازال شيوعيًّا إلى اليوم)، قد
تفاعل بواقعية أكثر من سواه مع وسطه الجديد،
فإن النقاش مازال، إلى اليوم، متمردًا
ورافضًا لهذا البلد الذي لا يعتبره بلده
ولهذه اللغة التي مازال لا يعتبرها لغته.
بينما خفَّتْ حدة كلٍّ من بلاص وميخائيل
اللذين تقبَّلا، نسبيًّا أيضًا وإلى حدٍّ ما،
واقعهما الجديد. وأيضًا... حدَّثتْنا
إيلا شوحت عن معاناتها العميقة، بحكم
عراقيتها، بدءًا من طفولتها وحتى كبرت وبدأت
تفهم وتصطدم مع الواقع القائم الذي لا يميِّز
فقط بين العرب واليهود، إنما بين اليهود
واليهود، بسبب من أصولهم الإثنية – مما دفعها
في النهاية إلى الهجرة إلى نيويورك. لكن... جميعهم
– نعم جميع هؤلاء الذين تحدَّثْنا عنهم – لم
ينسَ، إلى الآن، أصوله العراقية التي مازال
يتذكرها بكلِّ حنين. جميعهم لم ينسَ بغداد
التي كانت، خلال آلاف السنين وحتى الأمس
القريب، موطنًا لهم. جميعهم لم ينسَ تلك الأرض
التي على رُقُمها كتب أجدادُهم، في حينه، "التوراة"... 4
وأتأمل
اليوم في الواقع الذي نعيشه في منطقتنا منذ
نشوء دولة إسرائيل... حيث هُجِّرَ و/أو دُفِعَ
إلى الهجرة مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين
يعيشون بين ظهرانينا، وكذلك الآلاف من اليهود
الذين دُفِعوا إلى ترك بلادهم (بلادنا)
للتوجُّه إلى تلك "الدولة" الدينية–القومية
المفترَضة؛ تلك التي أرادت لها الصهيونية
والمصالح الدولية، في حينه، مستغلةً مأساة ما
تعرض له اليهود من اضطهاد في أوروبا، أن تقوم
على أرضنا... وأتأمل
كيف انقطعت لهذا السبب سلسلة التطور الطبيعي
لجميع دول المنطقة وقامت فيها، بالتالي،
أوضاعٌ شاذة كالتي نعيشها اليوم، أضحت –
لسخرية الأقدار – تبدو وكأنها هي الطبيعية! أتأمل
فيما تسبَّبَ فيه نشوءُ هذه الدولة –
وحماقتُهم (قطعًا)، و(ربما) حماقتنا – في
المنطقة، ومازال يتسبَّب فيه من دمار وحقد
وقتل... هذه
المنطقة التي ولد فيها وعاش على أرضها السيد
المسيح عليه السلام... يا
إلهي! إنهم يقيمون اليوم – على أرضه تحديدًا،
وفي أوائل الألفية الثالثة لميلاده – حين
تتهاوى الأسوار في عالمنا الذي يتسع للجميع،
أسوارًا جديدة من الحقد للفصل بين البشر. وأعود،
أخيرًا، لأتساءل فيما تساءلت فيه في البداية
– مما قد يبدو إلى اليوم، بالنسبة لبعضنا،
كفرًا... ألم
يكن بالإمكان، يا ترى، بالنسبة للجميع ومنذ
البداية، سلوك طريق آخر؟! ألم
يكن بالإمكان، عن طريق الحكمة والمحبة، إقناع
يهودنا المحليين بالبقاء، في حينه، في بلادهم
– كما كان يجب، في حينه، إقناع فلسطينيينا
أيضًا بالبقاء في بلدهم؟! أليس
بالإمكان اليوم سلوك طريق آخر؟! وأخيرًا... أحلم،
كما حلم، طوال حياته، إدوارد سعيد – الذي
بقي، حتى رمقه الأخير، معارضًا لكلِّ
التقسيمات على أرض وطنه – بتحطيم جميع
الأسوار... وأفكر كيف تجاوز إدوارد، في أيامه
الأخيرة – وإنْ رمزيًّا – جدران الحقد
التافهة المقامة هذه، وعزف مع صديقه اليهودي
دانييل بارانبويم – للجميع – سمفونية المحبة
الإنسانية الخالدة. ***
*** *** *
جدير بالذكر أن فيلم "انسَ بغداد..."
للمخرج العراقي الأصل سمير (نقاش؟) فاز
بالجائزة الكبرى لمهرجان الإسماعيلية
الدولي السابع للأفلام التسجيلية (تشرين
الأول 2003). (المحرِّر) **
وأقصد هنا الحركة الشيوعية الدولية بقيادة
الاتحاد السوفييتي الذي كان مؤيدًا
بحرارة، في حينه، لقيام دولة يهودية على
أرض فلسطين؛ وأيضًا بعض أتباعه من القادة
الشيوعيين المحليين الذين عملوا ما في
وسعهم لعرقلة جهود فهد وحتى إلى شقِّ حزبه.
|
|
|