مختارات من كتاب "نضال عنفي أو لاعنفي"
كوستي بندلي
الفصل الأول
أولاً: طبيعة [اللاعنف] النضالية
1-إنه موقف مقاومة على نقيض السلبية
اللاعنف البحت موقف سلبي وجده غاندي في التراث الهندوسي، ولكنه تجاوزه
بتبنِّيه موقف المحبة المسيحي الذي هو أبعد ما يكون عن السلبية لأنه
تحديدًا موقف ناشط ومجاهد. وقد تأثر غاندي في حداثته بهذه العبارة:
"ولكن النبيل الحقيقي يعتبر الناس كلاً واحدًا، ويردُّ على الإساءة في
سرور بالإحسان". "لقد راقني جدًا القول بأن التضحية هي أسمى أشكال
الدين" هكذا، وبتأثير اكتشافه لحركة العطاء هذه التي تقتحم العداوة
نفسها وتتجاوزها بالحبِّ تحولت الـ "أهيمسا" (اللاعنف) الهندوسية عند
غاندي إلى ما أسماه بالـ "ساتياغراها" وهو ما يمكن ترجمته بـ "قوة
الحقيقة" أي الحقيقة التي كانت أسمى ما يدين به غاندي، وكانت بنظره
تتوحد مع الله نفسه، من حيث أنها تتصدى للشرِّ وتقاومه بالقوة الفائقة
الكامنة فيها.
يقول مارتن لوثر كينغ بهذا الصدد:
ساتيا هي الحقيقة التي تتطابق مع المحبة وغراها هي القوة، "ساتياغراها"
تعني إذًا "الحقيقة – القوة" أو "المحبة – القوة" وقد عرَّفَ عنها
اوليفيه لاكومب بقوله إنها "تحوِّل الشجاعة والقوة المستندتين إلى
العدوانية، إلى قوة وشجاعة نابعتين من الروح وحدها، تتجاوزان كلَّ
عدوان وكلَّ أذى يلحقان بالخصم"، وبأنها "تجمع بين الحقيقة والمحبة
وقوة الروح.
اللاعنف بالنسبة لغاندي هو إذًا مقاومة وبالتالي فهو نضال. فالمرء
برأيه لابد وأن يقف في وجه المعتدي، وإلا فإنه يكون قد دخل في لعبته،
وساهم في تحقيق مآربه الشريرة، وخضع لعنفه عن بلادة أو جبن، وبالتالي
يكون قد فقد إنسانيته وسمح للمعتدي بالتمادي في موقف اللاإنساني. ناهيك
عن أن الخنوع للظلم ليس نقيض الحقد، كما قد يُظَن بل إنه بالعكس كثيرًا
ما يثير لدى الخانع قدرًا كبيرًا من الحقد الدفين، كون النقمة تتراكم
لديه دون أن تتاح لها فرصة التصريف عبر عمل يسمح لها بالتنفيس عن
ذاتها. "إن الضعف والخضوع كثيرًا ما يرافقهما قدر من الحقد أكبر من
الذي يرافق هجومًا معاكسًا سافرًا".
أما غاندي فقد حذر من الموقف الذي يقتصر فيه اللاعنف على الظاهر الجسدي
في حين أن العنف يتأكل داخل المرء. قال:
... إن اللاعنف الذي لا يقتضي سوى مساهمة الجسد إنما هو شيمة الضعفاء
والجبناء. وهو في هذه الحال عاجز تمامًا. إذا احتفظنا بسمِّ الحقد في
أنفسنا مع الادعاء بأننا لا نريد أن ننتقم، فإن سمَّنا يرتدُّ علينا
ويقودنا إلى الهلاك...
وشدد غاندي على أن اللاعنف كما يفهمه إنما هو على نقيض الجبن وعلى أنه
لو لم يكن من خيار إلا بين العنف والجبن، فالعنف أولى بالاختيار، وقال
إن الجبان لا يسعه أن يفهم اللاعنف ويمارسه على حقيقته، بل إنه يشوِّهه
محولاً إياه إلى هرب واستسلام، في حين أن الذي يمارس العنف قابل لأن
يتجاوزه إلى اللاعنف. ذلك أن اللاعنف الأصيل يفترض عند المرء القدرة
على مقاتلة الخصم، ولكنه يتجاوز هذه القدرة إلى مستوى أرقى من البطولة.
بعبارة أخرى فإن اللاعنف الحقيقي حسب رأي غاندي وخبرته لا يوجد عند
الذي هو عاجز عن استعمال العنف للدفاع عن حقوقه المشروعة ومقدساته، بل
إنما يوجد عند الذي هو قادر على هذا الاستعمال، ولكنه يتخلى طوعًا عن
قدرته هذه ليبلغ أعلى مرتبة من السمو الإنساني.
فاللاعنف بنظره شيمة الأقوياء وليس شيمة الضعفاء المغلوبين على أمرهم.
ومن أقواله بهذا الصدد:
...في حين أنه لا يوجد أي أمل بأن يرى المرء جبانًا يصبح لاعنفيًا، فإن
هذا الأمل غير محرَّم بالنسبة لرجل عنيف. من هنا، وهذا ما ينبغي تكراره
دون انقطاع، أنه إن لم نكن نعرف كيف ندافع عن أنفسنا وزوجاتنا وهياكلنا
بالاستناد إلى القوة النابعة من نكران الذات، وبعبارة أخرى، إذا كنا
عاجزين عن اللاعنف، فعلينا على الأقل، إن كنا رجالاً أن نكون قادرين
على الدفاع عن أنفسنا بالقتال.
وأيضًا:
لا يمكن تعليم اللاعنف لذاك الذي يخاف الموت، ولا يملك طاقة المقاومة
قبل أن يصبح المرء قادرًا على الدخول في اللاعنف عليه أولاً أن يتعلم
بأن يقاوم، حتى الموت إذا اقتضى الأمر، في كل مرة يحاول فيها أحد
المعتدين أن يسيطر عليه بالقوة...
وأيضًا:
لا أتردد بأن أقول إنه حيثما لا يوجد خيار إلا بين الجبن والعنف، ينبغي
حسم الأمر لصالح العنف... إنه أحب عليّ أن تدافع الهند عن شرفها بقوة
السلاح من أن أراها تشاهد هزيمتها بجبن ودون أن تدافع عن نفسها. هذا لا
يمنعني من الاعتقاد بأن اللاعنف أرقى بما لا يقاس من العنف وأن التسامح
أنبل بكثير من العقاب. إن الصفح زينة المحارب. ولكن غياب العنف لا يعني
التسامح إلا إذا كان العنف ممكنًا. وهو يفقد بالعكس كل معنى إذا لم يكن
لدى المرء وسيلة للرد. لا يخطر على البال أن الفأر متسامح لأنه يترك
القط يفترسه...
لقد صرَّح غاندي قائلاً:
... يبقى على كلِّ حال أن الانتقام تعلو قيمته على قيمة خضوع سلبي بحت،
عادم الجدوى تمامًا ومخنَّث بالكلية.
ذلك أنه خلافًا لأنصار مبدأ المسالمة مهما كلف الأمر، الذين يجاهرون
بأنهم يفضلون العبودية على الموت، كان غاندي يضع الكرامة الإنسانية فوق
الحياة نفسها. قال:
... إنه ينبغي لكل مدافع عن الأهيمسا (أي اللاعنف) أن يجثو أمام عدوه
متوسلاً إليه أن يقتله بدل أن يذلَّه أو أن يلحق به معاملة تناقض
الكرامة البشرية. فكما قال أحد الشعراء: "إن طريق الربِّ مفتوحة
للأبطال، ومغلقة في وجه الجبناء".
وهكذا يتَّضح أن النضال اللاعنفي لا يستبعِد النزعة العدوانية، ولا
يكبتها جاعلاً إياها تتحول إلى جمود أو ترتدُّ على الذات لتتخذ شكل
نزعة مازوخية ترتضي الألم وترتاح إليه، بل يستفيد من طاقتها النضالية
موجهًا هذه الطاقة في طريق إيجابية بنَّاءة، ومحوّلاً إياها عن كل
انحراف نحو شهوة التدمير.
إنه بالتالي على نقيض الخنوع والركود.
إن الخنوع والسلبية لهما إذًا أكثر تناقضًا مع اللاعنف من العنف نفسه.
يقول غاندي:
مستحيل أن يكون المرء بآن معًا جبانًا ولاعنفيًا.. اللاعنف والجبن
يتنافيان.
وأيضًا:
لا يمكن للمرء أن يكون لاعنفيًا حقًا وأن يبقى سلبيًا أمام المظالم
الاجتماعية.
وبالمعنى نفسه قال مارتن لوثر كينغ:
ينبغي أن نتعلم أن القبول السلبي لنظام ظالِم، إنما هو تعاون مع هذا
النظام، وبالتالي تواطؤ مع شرِّه.
وقد حذَّر كينغ من اتخاذ "المشيئة الإلهية" ذريعة للرضوخ للظلم والتهرب
من مقاومته:
هل ينبغي لنا أن نخلص إلى الاعتقاد بأن التمييز العنصري إنما هو من
إرادة الله، فيقودنا ذلك إلى الرضوخ للقهر؟ كلا، بالتأكيد! لأن ذلك
إنما يكون تجديفًا يُنسَب به إلى الله ما يأتي من الشيطان. إن التعاون
السلبي مع نظام ظالِم يجعل المظلوم مساويًا للظالِم من حيث الشرِّ.
هكذا فإن موقف النضال اللاعنفي موقف يتطلَّب تجاوزًا لمختلف الاستجابات
الغريزية التي ينقاد إليها المرء تلقائيًا إذا ما ووجه بممارسة العنف
عليه سواء أكانت هذه الاستجابة رضوخًا للأمر الواقع وسلبية وخوفًا، أو
كانت مقابلة للعنف بالحقد والانتقام. النضال اللاعنفي جواب ينبع مما هو
أعمق من الغرائز والأهواء، يصدر عن أصالة الإنسان، عن قدرته على
التحرُّر من سلطان الغرائز ليحقق ذاته بالمحبة، بعيدًا عن الضعف
والعجز. كما وبعيدًا عن الضغينة والتشفِّي. إنه موقف به يتحرر الإنسان
مما يعطل إنسانيته. وبه يتيح للخصم، عبر نداء المحبة الموجه إليه فرصة
التحرر بدوره مما يعطِّل فيه تلك الإنسانية عينها، من ظلم وعدوان.
2- إن سعيه إلى المصالحة يمر عبر الكفاح من أجل العدل
المصالحة ليست مرادفًا لتسوية رخيصة تنمُّ عن الضعف والجبن، وتتنكَّر
بالتالي لمتطلبات المحبة، تلك المحبة التي تتصدى للشرِّ بشجاعة تتجاوز
كل خوف. فالمصالحة الحقة لا يمكن أن تبنى إلا على العدل، وهي بالتالي
تمرُّ لا محالة بالنضال من أجل إحقاقه.
ورد في نبوءة أشعيا:
العدل ينشئ السلام
والإنصاف طمأنينة دائمة
أما في كتاب يشوع بن سيراخ فقد ورد:
أيُّ سلام يمكن أن يقوم بين الضبع والكلب؟
وأيُّ سلام ممكن بين الغني والفقير؟
إن حمير الوحش إنما هي طرائد الأسود في البرية،
هكذا الفقراء هم فريسة الأغنياء
السلام المبني على الظلم هو إذًا سلام زائف يُتَّخَذ تغطية لعلاقة هي
افتراسية بطبيعتها. وقد كتب روجيه غارودي:
ليس السلم غياب الحرب، إنه غياب الظلم وتسلُّط الإنسان على الإنسان
ويوضِّح جان ماري مولر أهمية هذا النضال الذي يفترِضه الموقف اللاعنفي
إذا شاء أن يكون أصيلاً:
... العنف وليد الظلم، وإذا استمر الظلم فلا مصالحة حقيقية ولا سلام
حقيقي ولا محبة حقيقية. فالمصالحة تنبع من العدل وكذلك السلام
والمحبة..
... العدل وحده يقود إلى سلام حقيقي، وبدونه فالسلام مزيف، إذ كيف يقوم
سلام صحيح بين ظالِم ومظلوم؟ فإذا كانت المصالَحَة نابعة من العدل،
فلابد من نضال لإحقاق هذا العدل.
ثانياً: طبيعته اللاعنفية
1-يستبعِد الحقد على الخصم
يقول روجيه غارودي عن النضال اللاعنفي:
يرفض أن يستهدِف تصفية الخصم جسديًا وحتى التسلط عليه وإذلاله وإسكاته.
إنه يصرُّ على عدم قطع العلاقة الإنسانية بالخصم وعلى اعتباره أخًا حتى
النهاية، علَّه يعود إلى رشده ويعترف بالرباط الأخوي الذي تنكَّر له.
هذا النضال لا ينبغي قهر الخصم، إنما قهر الشرِّ الذي يمارسه، وإلزامه
على التخلي عن ممارساته الشريرة دون تحطيم كرامته الإنسانية. المقصود
في آخر المطاف تحرير الظالم والمظلوم على حد سواء من نير الظلم الذي
يقهر هذا ويُفسِد ذاك ويعطِّل إنسانية كليهما... إنما غاندي سعى كلَّ
حياته ليحرِّر الإنكليز من وطأة الإمبريالية بقدر ما سعى لتحرير الهنود
منها، وأنه أراد تحرير البراهمانيين من نظام الطبقات المغلقة بقدر ما
أراد أن يحرِّر منه المنبوذين...
يقول رادا كرشنان:
نضال غاندي لتحرير الهند لم يُقترَن بأي شعور بالحقد نحو بريطانيا.
علينا أن نبغض الخطيئة وليس الخاطئ... لقد كان متيقنًا بأنه إنما يؤدي
خدمة للبريطانيين بمساعدتهم على التصرف باستقامة حيال الهند.
إنما الضغوط التي تُمارَس على الخصم لا يُقصَد منها بالتالي تحطيمه أو
إذلاله أو التغلب عليه، إنما هي تهدف إلى خلق حالة من التأزم (أو
بالأحرى كشف كلِّي للتوتر الكامن في ظلِّ النظام الجائر والذي يحاول
هذا الأخير طمسه، كما أشرنا، بتبريره للواقع الراهن واعتباره إياه من
طبيعة الأشياء) وذلك بغية إخراج الخصم (عبر إحراجه) من ارتياحه الزائف
إلى الأوضاع الراهنة وإثارة قلق لديه من شأنه أن يحدو به إلى تجاوز هذه
الأوضاع نحو الأفضل.
2.
يلتقي مع الوداعة الحقة
الوداعة ليست بحال من الأحوال خلافًا للصورة المشوَّهة التي تشيع عنها
استكانة أو رضوخًا للأمر الواقع أو سلبية أو هربًا من المشاكل أو
تحاشيًا لكل خلاف. فالوداعة إصرار وعناد. إنها صبر لا بالمعنى السلبي
الشائع للصبر، معنى مجرد احتمال الإنسان المغلوب على أمره لشدائد لا
حيلة له بردِّها عنه، بل بمعنى الإصرار على مواجهة الواقع بكل صعوباته
وتعقيداته إلى أن يتم تجاوزه، بفعل هذه المواجهة عينها، نحو الأرقى
والأفضل. بهذا المعنى فالخانع ليس وديعًا لأنه يهرب من المواجهة ويبني
لنفسه قوقعة يلوذ بها مستقيلاً عن مهمة تغيير الواقع. وكذلك المستفيد
من الواقع الفاسد ليس وديعًا لأنه يتواطأ مع الفساد عوض أن يواجهه.
ولكن المتمرد العنيف ليس أيضًا بوديع، لأنه بدل مواجهة الواقع كما هو
بغية تبديله بجهاد دؤوب، يتسرَّع فيحطِّم ما لا يعجبه في هذا الواقع،
متجاهلاً لأنه بتصرفه هذا إنما يلغي ظاهر الخلاف، ولكنه لا يلغي جذوره
الكامنة في نفسه كما هي في نفس الخصم. الخانع يتهرب من الخلاف، ولكن
العنيف أيضًا يحاول أن يتهرب من الخلاف على طريقته وذلك بإزالة الخصم
من الوجود حتى يزول الخلاف بزواله متناسيًا أنه بذلك لم يتعرَّض لجذور
الخلاف، وقد مهًّد بالتالي لتكراره إنما بأشكال أخرى.
الوديع وحده يواجه الخلاف مواجهة فعلية. إنه يبقي على الخلاف بإبقائه
على الخصم، ولكنه لا يرضخ للوضع الراهن الذي فرضه الخصم، بل يسعى عبر
احتمال التأزم وما يفرضه من معاناة، إلى تجاوز هذا التأزم نحو علاقة
أرقى وأفضل مع الخصم تغتني بها إنسانية كل من الطرفين فيعلوان من جراء
ذلك لا على الخلاف وحسب بل على أسبابه الكامنة في النفوس.
الوديع الحقيقي عنيد في مواجهة الخصم، ولكنه عنيد أيضًا في مواجهة نفسه
إذ يأبى الانسياق إلى عنفها الغريزي وفراغ صبرها كي لا ينحاز إلى روحية
الخصم فيكرر موقف ذاك ولو بنمط آخر. إنه على العكس، بهذه المواجهة
المزدوجة يفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الإنسانية الذي تتحكم به
تلقائيًا الغرائز والأهواء. من هنا فإن مقولة يسوع طوبى للودعاء فإنهم
يرثون الأرض، فالوعد المعطى له بأن "يرث الأرض" أي الأرض المتجددة
المتحررة من عتاقة الماضي التي يملك فيها الله وتسود فيها عدالة الله.
والوديع إنما ينال هذا الوعد مكافأة له على مواجهته الشُّجَاعَة للآخر،
ولنفسه في نور الله، وتكريسًا لكونه في وسط عتاقة الدنيا وظلمتها، يبدأ
برسم سمات الأرض الجديدة المشرقة.
"... تعلموا مني، فإني وديع..." كم من التفاسير الخاطئة أعطيت بهذا
الصدد! الـ"وديع" ليس ذاك الذي يرفض الصراع، إنه بالعكس ذاك الذي يقبل
الصراع، مقتنعًا بأن الحقيقة إنما يصنعها البشر معًا، بمجهود مشترك،
ولو تم ذلك بتوتر وصعوبة. العنيف هو على العكس، ذلك الذي خلافًا لما
يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى يرفض الصراع وذلك بكونه يلغي بشكل أو
بآخر من يزعجه.
الوداعة الحقيقية التي توجِّه النضال اللاعنفي، تجمع إذًا إلى منتهى
اللين منتهى الصلابَة.
"تعلموا مني، فإني وديع.." إنه يدعونا إلى هذا المثال بعينه الذي يجتمع
فيه منتهى التأني على الآخر بمنتهى الإصرار على إحقاق الحق الذي لا
تحقيق لإنسانية الآخر بدونه. هذا ما يتضح من هذا المقطع من نبوءة أشعيا
الذي يقول متَّى أنه تحقق في المسيح:
هو ذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي عنه رضيت. سأفيض روحي عليه فيبشِّر
الأمم بالحق. لن يشاغب ولن يصيح ولن يسمع أحد صوته في الشوارع، القصبة
المرضوضة لن يكسرها، والفتيلة المدخنة لن يطفئها، حتى يسير بالحق إلى
النصر..
3.
ينمُّ عن تحرر كامل من الخوف
إن الصلابة التي يتسم بها موقف من كان وديعًا حقًا تتجلى في استعداده
لتقبُّل الموت في سبيل كفاحه عن الحق مع رفضه التام إنزال الموت بخصمه.
كتب غاندي:
أن يحيا الإنسان حرًا، يعني أن يكون مستعدًا للموت على يد قريبه، إذا
اقتضى الأمر، دون أن يكون مستعدًا أبدًا لقتله.
يقول غاندي:
العنف لا يحرِّر من الخوف، إنما يسعى إلى محاربة سبب الخوف. على العكس،
فإن اللاعنف خال من كل خوف. على اللاعنفي أن يستعد لأقسى التضحيات حتى
يتحرَّر من الخوف.
4.
يتطلب تدريبًا شاقًا
من وجوه هذا التدريب أن الذي قبل بالتزام خط النضال إنما يكون بذلك
عينه قد تجرأ على الظالمين إذ قد أثبت لنفسه وللآخرين قدرته على
المخالفة والتصدي. ولكن هذه الجرأة التي ينشئها النضال تفسح المجال
تلقائيًا لانطلاق العنف في مواجهة الخصم وما يمارسه من قمع. من هنا
فالمناضل إذا شاء أن يبقى أمينًا لخطه اللاعنفي، إنما يترتب عليه أن
يمارس ضبطًا للنفس عسيرًا يسمح له بأن يحافظ على جرأته كلها دون أن يدع
لها مجال الانحراف إلى مجاراة الخصم في عنفه.
كتب غاندي في مذكراته:
... إن الكياسة أصعب جزء من أجزاء اللاعنف، والكياسة لا تعني هنا مجرد
اللطف الخارجي في الحديث المعدِّ لمناسبة من المناسبات، ولكن اللطف
السليقي والرغبة في الإحسان إلى الخصم، إن هذين يجب أن يتجليا في كل
عمل من أعمال اللاعنفي.
5.
يتصف "بإرادة الحضور إلى الآخر"
ثمَّة "ولاء للخصم" في النضال اللاعنفي وهو نابع حسب منظور غاندي من
كون الخصم في الحقيقة صديقك انفصلت عنه انفصالاً مؤقتًا بسبب خلاف شجر
بينكما، وإنما يجب عليك ألا تنسى أنه صديقك.
... من مبادئي كرجل لاعنفي، أن أفهم وجهة نظر الفريق الآخر، وأن أحاول
الاتفاق معه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً...
هذا ما يسميه جان-ماري مولر "إرادة الحضور إلى الآخر" التي يتميز بها
النضال اللاعنفي، في حين أن العنف ينزع إلى إلغاء حضور الآخر أو على
الأقل إسكاته.
يمكن التأكد من أنه قد وُضع حدٌّ لصراع ما بموجب مبادئ اللاعنف، إذا لم
يترك هذا الصراع أية ضغينة بين الأعداء، بل إنه يجعل منهم أصدقاء،
"الولاء للخصم" الذي يتسم به النضال اللاعنفي، نابع في آخر المطاف من
الإصرار على الاعتبار بأن الخصم إنما هو إنسان رغم كل ما يصدر عنه من
شرور.
6.
يميز بين الفعل والفاعل
إن الرجل وعمله شيئان متميزان. ففي حين يتحتم أن يقترن العمل الصالح
بالاستحسان والعمل الطالح بالاستهجان، فإن فاعل العمل، سواء كان خيرًا
أم شرًا، يستحق دائمًا الاحترام أو الشفقة تبعًا لطبيعة الحالة. قاعدة
"أبغضوا الإثم لا الآثم" نادرًا ما تطبق على الرغم من سهولة فهمها.
وهذا هو السبب الذي من أجله ينتشر سمُّ البغض في العالَم. هذه
"الأهيمسا" هي أساس البحث عن الحقيقة. وأنا أدرك كل يوم أن البحث يكون
على غير طائل ما لم يتخذ من "الأهيمسا" أساسًا له. إن من السديد أن
يقاوم المرء نظامًا ما ويهاجمه، ولكن مقاومة واضعه ومهاجمته توازيان
مقاومة المرء نفسه ومهاجمة إياها. ذلك أننا كلنا قد طُلينا بالفرشاة
نفسها، وأننا كلنا أولاد خالق واحد، ومن هنا فإن القوى الإلهية التي
تغمر نفوسنا لانهائية. ولأن تمتهن كائنًا بشريًا واحدًا يعني أن تمتهن
هذه القوى الإلهية، وبذلك لا تؤذي ذلك الكائن فحسب، بل تؤذي معه
العالَم كلَّه.
هذا الموقف كان ينبع عند غاندي من تواضعه الذي كان يسمح له برؤية
الشرِّ في نفسه فيرأف بالتالي بالأشرار.. وإن كان يتصدَّى لشرهم دون
هوادة كما يرغب أن يرأف به الناس رغم عيوبه.
*** *** ***