ذكريات لص كتب
وائل شعبو
يسرق الإنسان لحاجة أو لطمع، والسرقة لحاجة ممن لديهم فائض حق طبيعي،
أما لطمع وترف حتى ممن عندهم فائض فهي عيب ولاإنسانية، ولكن ماذا نقول
عن سرقة اجتمعت فيها الحاجة إلى المعرفة والطمع بها؟ أجزم أن الحاجة
للمعرفة والطمع بها يبرر السرقة نوعًا ما، فالشرب والأكل واللبس
والمأوى - للأسف لم يوفر الخالق علينا ما وفره على الحيوان من ملبس -
هي حق طبيعي مطلق وضمن حدودها البشرية، ولكنْ خلقُ العقل للإنسان جعله
يحتاج المعرفة ليفهم ما يحدث فيه وحوله، وهذه الحاجة تصبح غريزة إذا
رُبي الإنسان على تقصيها والانغماس فيها، هنا يجب تلبيتها بشتى الطرق
المشروعة وغير المشروعة كحق ليس بشريًا فقط بل إنسانيًا أيضًا.
ولسرقة الكتاب طرق متنوعة معروفة، إذ يمكن وضعه تحت الملابس أو في كيس
أو حقيبة مرافقة أو الخروج به محمولاً بثقة وغفلة من البائع، وربما
غيرها مما لا أعرفه، وقد تكون فردية أو أكثر، وأنا شخصيًا لم أتبع إلا
الطريقة الفردية، إلا أن أول سرقة لي لكتاب كانت بطريقة مختلفة عما
سبق، فمنذ أكثر من عقدين عندما كنت في سنتي الجامعية الأولى افتتح معرض
في مقصف الكلية، ولم تكن في نيتي سوى المشاهدة عندما لمحت رواية
الحب في زمن الكوليرا، وحينها كنت أعرف مسبقًا أنه من الصعب الحصول
على ثمنها، وتغلبت رغبتي فيها على خوفي، فوضعتها تحت ملابسي، لكن لشدة
قلقي من أن أُكتشف درت مرتين في المعرض وهي تحت ملابسي، خشية أن يكون
أحد ما رآني، وهو ينتظر خروجي ليقبض علي، ثم تذكرت أن لحمام المقصف
نافذة تطل على مدخل الكلية، فدخلت إليه ووضعتها على حافتها الخارجية،
ثم بسرعة خرجت من المعرض، جاريًا إلى جهة النافذة خوفًا من أن يأخذه
أحد ما، وفعلاً وجدت طالبًا يتصفحه، فتناولته منه مازحًا: يا رجل نحن
نتعب بسرقة الكتاب وأنت تريد أن تأخذه عالمرتاح. ومن يومها لا يفوتني
معرض للكتاب أو مكتبة للبيع إلا ولصصت منهم كتابًا أو أكثر، لكن، ودون
أسف، ومن مبدأ أن الكتاب يجب ألا يكون مخزَّنًا بل متداولاً كما يجب أن
تكون النقود، ومن مبدأ الحاجة للنقود، كنت أهب أو أهدي ما أستطيع كما
حدث مع الحب في زمن الكوليرا، أو أبيع بأثمان بخسة من يشتري،
ومرة أو مرتين أجريت مقايضات منها المخطوط القرمزي الذي قايضته بهسهسة
اللغة.
مواقف
في أحد المعارض لإحدى الدور الكبرى في دمشق كان كتاب منارات
لسان جون بيرس، فتناولته متحينًا وأنا اقلبه فرصةَ دكه تحت بنطالي، إلا
أن مرور أحد المشرفين ووقوفه أمامي ليعدل ترتيب الكتب ألهمني أمرًا،
فسألته لأبرئ ذمتي: لا أملك ثمن هذا الكتاب هل تعطوني إياه أم أسرقه،
فقال واثقًا وشبه هازئ: "لا، أسرقه"، لا أدري ولكن ربما ظن أنني أمزح،
فدسسته تحت البنطال، ولكني خفت أنه يراقبني، وتأكدت من عدم وجود سكِنر
على باب الخروج، فترددت كثيرًا قبل أن أخرج، ونجوت بالمنارات مزهوًا،
ولا أذكر أكان مصيره البيع أم الإهداء.
ومرَّ وقت قبل أن ألتقي هذا المشرف، فقد كاد أن يقتنصني؛ ففي المعرض
الدولي السنوي للكتاب وكنت حينها مع صديقتي المقربة، مررنا بجناح الدار
نفسها، وكان يقف أمامها هو نفسه مع أحد الشبان، فدخلت أمامهما، ولكني
لم أكد أقف أمام الرفوف حتى أمسكتني من ذراعي وطلبت مني أن نخرج، رأيت
القلق بعينيها فطاوعتها، وعندما سألتها الأمر قالت: عندما دخلتَ حذَّر
ذو الشعر المجعد (المشرف) الآخرَ منك، ووقفا يتربصانك، حتى وأنا خارجة
معك انتبهت إلى تعجبهما، فقد تفاجأا أنني رفيقتك، لأن الإنذار حدث
أمامي وأنا أدخل وراءك، فلا بد أنهما انتبها إلي، ولم ينتبها إلى أنني
برفقتك.
منذ زمن أصدرت الوزارة لصديقي مجموعتين شعريتين، ورأينا في قسمها في
معرض دور النشر الوطنية عدة نسخ من كل مجموعة، فطلب مني بحماسة أن
أسرقها له جميعها، فقلت له ستشاركني، فهي كثيرة، فوافق، فابتعدنا عن
بعضنا قليلاً، وأخذ كل على حدى قسمًا، وبعدما استأمنت الوضع سبقته
وخرجت أحملها دون أن يأبه أحد بما أحمل، وانتظرته غير بعيد، ثم رأيته
يخرج فارغ اليدين، وعندما اقترب أريته ما غنمت فمد يده خلف ظهره تحت
جاكيته وأخرج النُسخ مفتخرًا.
أحد أصدقائي القدامى الأعزاء قرر أثناء تسكعنا أن يدخل إحدى المكتبات
يبحث عن كتاب معين في الآثار، وكان على استعداد لتلبية رغبتي في أي
كتاب، ولكني لم أرد تكليفه، وبعدما جلنا في المكتبة، وقف يسأل صاحبتها،
فرأيت رواية الوله التركي معروضة أمامها مع كتب أخرى، وبينما هي
مشغولة بالدردشة معه، دسستها بخفة عاموديًا تحت إبطي - في الشتاء
الملابس تجعل السرقة أسهل - ولكنها انتبهت قبل أن نهم بالابتعاد إلى
فراغ مكان الكتاب، ولعل الفتى العامل معها نبهها، فأخرجته بنفس الخفة
التي لم تبرئني أمام عينيها، واصطنعت تصفحه وقد احمررت واصفررت من
الموقف، فشعر صديقي بشيء وسألني إن كنت أريده، فقلت له لا، فأعدته
مكانه وخرجنا. لم يغفر لي هذا الموقف، ونالني ما نالني من عتابه ورجاني
ألا أكرر ذلك معه. تعرفت على ابن صاحبة تلك المكتبة، ورويت له الحادثة،
قال لي أن أمه كانت تتشكى دائمًا من لصوص الكتب.
تعرفت على صبية كانت في زيارة لقريبتها في كليتي، وقضينا يومنا الأول
معًا حتى المساء، وتواعدنا في كليتها اليوم التالي، وكان فيها معرضًا
للكتاب، فقررت في نيتي لتمتين العلاقة إهداءها كتابًا، فدخلنا بعدما
سلمنا على الشابين على طاولة البيع، ورأيت سدهارتا، ودون أن
تنتبه لا هي ولا هما دسسته تحت البنطال، على مخرج المعرض أوقفني أحد
الشابين، وطلب مازحًا تفتيش حقيبتي الكتفية، فتجاوبت معه مقنِّعًا قلقي
بابتسامةٍ، مرتابًا من يتعدى التفتيش ذلك، لكن الأمر اقتصر على
الحقيبة، وخرجنا بسلام، وعندما ابتعدنا أخرجت لها الكتاب مندهشة، وهي
وإن ترددت في قبوله إلا أنها لم تتردد في امتنانها.
تعرفت في المكتبة العامة على لصوص كتب، كانوا من طلاب الدراسات العليا،
وكانوا يغزون جماعة، لم أشترك معهم رغم الهوى الفكري المشترك، وقد
مازحت أحدهم مرة عندما التقيته صدفة في المعرض السنوي حيث الغنائم
أكثر: لماذا نسرق، أليس ذلك عيبًا؟ فرد بجدية : هناك من يسرق أموالنا
وحقوقنا، أولئك من يجب أن يشعروا بالعيب والعار، فقلت بجدية موازية:
هذا لا يبرر سرقتنا، فقال لو أننا نحصل على حقوقنا لما اضطررنا إلى
السرقة، ولما اضطررنا لوضع أنفسنا في هذه القلق السخيف كي لا نقتطع من
أكلنا وشربنا ثمن الكتب.
ذهبت وصديقي في الجامعة إلى معرض الكتاب السنوي وقمت بما استطيع من
واجبي تجاه عقلي، وقد طلب مني أن أسرق له كتاب معجم الأغلاط اللغوية،
ولم أستطع في المحاولة الأولى، ربما لأنه كان برفقتي، ثم افترقنا لسبب
ما، فعدت إلى ذلك الجناح وتحينت الفرصة واستطعت اقتناصه، وعندما التقيت
به أخرجت له المفاجأة السعيدة، فكانت ردة فعله غير سعيدة بأن أخرج لي
المفاجأة الحزينة، لقد اشتراه، فقررنا إعادة الكتاب عن طريقه، حيث قام
بالدخول إلى الجناح وإعادته خلسة.
وكانت إحدى المرات التي زار فيها أدونيس دمشق - معروفة قصة سرقته لكتاب
النفري - ليوقع على كتابه مع فاتح المدرس في أحد الغاليرهات المشهورة،
فحضرتُ التوقيع ورأيت أدونيس ومريديه يجلسون في حديقة الصالة، كنت أريد
السلام عليه بعد شراء نسخة للتوقيع، فدخلت إلى الصالة حيث يبيعون
الكتاب وهالني سعره، فدرت في الصالة عينًا على طاولة البيع وعينًا على
لوحات فاتح المعروضة، وعندما رأيت ازدحامًا اقتربتُ بسرعة وسحبت نسخة
منه، ولما تيقنت أن البائع غير منتبه بسبب ازدحام الشراة انسحبت
تكتيكيًا وأنا أتأكد أنه لن ينتبه إلي، خرجت ولكني لم أجرؤ أن أطلب
توقيع شاعرنا الفذ، وقفت قليلاً عند الباب الخارجي للحديقة، راقبته
وحيويته وغليونه وصحبته، ثم رحلت منتشيًا بغنيمتي. هذا الكتاب عدت
وبعته بعد فترة هو وغيره من كتب سرقتها لمعرض في الجامعة يسرق الكتب
بالفوتوكوبي، ولم يقبل شراءه إلا بثمن زهيد، وماذا يفيدني فاتح وأدونيس
وغيرهم إن كنت مفلسًا.
مرة واحدة ندمت على السرقة في معرض للكتاب في إحدى الكليات، فقد كانت
البائعة الجامعية الجميلة لطيفة، وقد اصطنعت معها دردشة لتأتمن جانبي،
فقابلَتني بكل ود واستلطاف، ولكني حينها كنت مأخوذًا بسليم بركات،
وأذكر أني كدت أن أضعف وأعود إليها لأعيد الكتاب وأتعرف إليها، ولكني
لم أستطع، بعد فترة ليست بقصيرة قدمني أحد أصدقائي إلى ابنة عم له
اسمها غريب (آداب)، حكيت لها قصتي معها التي لم تدري عنها شيئًا،
وسألتها هل كان يُخصم من أتعابكم ثمن ما يُسرق فابتسمت وقالت، لو حدث
ذلك فإنه ما كان ليبقى أتعاب.
كنت لا أحب سلامة كيلة قبل أن يصبح ماركسيًا نفطيًا، ففي المعرض السنوي
وجدت في أحد دور النشر - ربما الفارابي - كتابًا مكتنزًا عن أحبابي
السورياليين، وقد رأيت كيلة بشكله المختلف جالسًا مع صاحبها يدردشان،
وكما العادة في الرصد، عين على الكتاب وعين على البائع، لكنه انتبه إلي
وعلى ما يبدو أشعره حدسه الطبقي أنني لا أنوي الخير، درت قليلاً في
الجناح وحين ذهب صاحب الجناح عدت إلى مكان الكتاب واختلست النظر إلى
كيلة، فرأيته من تحت نظاراته يختلس نحوي، فخرجت وأنا أشتمه في قلبي بكل
بذاءتي الطبقية.
أما آخر سرقة كانت - والأحداث الدموية الغبية قد بدأت - هي ما وضع حدًا
لمغامراتي، فقد مضى زمن طويل لم ألص كتابًا بسبب دخولي الجدي في معترك
الحياة، وإن لم أبتعد عن القراءة كثيرًا، لكن مشاغلي خفضت منسوبها
كثيرًا، فقد رأيت بيد أحد باعة كتب الأرصفة عددًا قديمًا للكرمل
فاشتريته، ولم أكد أقطع بسطته الممتدة بضعة مترات على سياج التكية
السليمانية حتى لمحت عددًا قديمًا لكتابات معاصرة، فالتفت إلى العجوز
المجعد الوجه الأسمر البائس الذي كان ينظر إلى الجهة المعاكسة وسألته
بصوت عال عن السعر، فلم ينتبه نتيجة الضجيج أو هكذا حسبت، فأمرتني نفسي
بالسوء، فاصطنعت تصفحه، ولكن يمكنني أن أدفع ثمنه قلت في نفسي، فالتفت
إليه فرأيته يتطلع أمامه شاردًا، فألحت نفسي بوسواسها القهري، فوضعت
المجلة مع رفيقتها وابتعدت بثقة، ولكني لم أقطع عدة مترات حتى سمعته
ينادي: "يا أستاذ" فالتفت مقنعًا خوفي، فقال لي ببساطة "لم تدفع لي ثمن
المجلة"، فعدت متماسكًا وسألته كم سعرها، وبوقاحة طلبت منه تخفيضه،
ولكنه لم يقبل، فناولته النقود ورحلت وأنا أشعر بتخالط مزعج من مشاعر
الارتباك والتأنيب والتعجب.
*
عندما قرأت لزوجتي هذه الذكريات سألتني ضاحكة: لماذا لا تكتب عن الكتب
التي سرقتها ثم بعتني إياها أيام كنا صديقين، ثم بعد الخطبة قمت بأخذها
مني لتبيعها ثانية؟
صديقتي: لقد فعلت.
*
والذكريات على الطابع: "اشتريتُ" كتابًا للرائع الجميل جان جونيه،
تفاجأت أنه كان لص كتب مدمنًا على سرقتها، حتى بعدما صار مشهورًا
وغنيًا، وكنت أعتقد أنه لص للأشياء فقط!
*** *** ***