مسودة
فيصل زواوي
يمكنهم أن يفكِّروا كيفما أرادوا، لكن لم تكن لديَّ النيَّة في
الغرق بتاتًا. أردت فقط السِّباحة لحدٍّ أقضي فيه بلا حراك -
وليس الأمران سيَّان.
جوزيف كونراد
لقد اقتربتم من كشف سرِّ شخصيَّة الميِّت أيًّا كان، لذا
اسمحوا لي أن أخبركم قسطًا أخيرًا عن مؤلِّف هذا الكتاب الذي -
على ما يبدو لا يزال على قيد الحياة - أحمله بين أيديكم الآن!
عليَّ فقط إضافة أنه نفسه المصطلح الغرائبيُّ الملائم لكل
إنسان استطاع في الواقع أن يتواطأ بمهارة مع عذابات خياله،
تتآكله ديدان حروفه حتَّى النُّخاع بعد أن قرَّر قراءة شيء ما
عن أدب القراءة في إحدى أحلك لياليه على مكتبه المغبرِّ أمام
أمبولة تتثاءب ضوءًا واه لا يكاد يرى وهو يتساءل: "أليس على
المؤلف أن يعدَّ أوراقه للنشر من دون مسودة مفاتيح فقط ليدفعه
أفق التَّأويلات على تعلُّم فنِّ قراءة مؤلفه من جديد ولو
بالمقلوب على منظورات متعددة لا تتوقَّف عن الحركة وإن بدت
ساكنة؟!".
إذن فقد قرَّر المؤلف إن صدقتني ذاكرتي بالأحرى على أن يضع
نفسه على محكِّ إشراك الآخر أيًّا كان، دون أن يضع لنفسه
متَّسعًا من التحيُّز لموضوعيَّة المجانين الأصحَّاء أم
لذاتيَّة المرضى العقلاء مثلاً؟! فالقصَّة أعقد وأبسط من كونها
كذلك؛ فصل أم وصل تامٌّ بين هذا وذاك؛ بين الأموات والأحياء
أيضًا! القاصُّ البارع لا تلهيه الدِّقَّة في رسم الشُّخوص
ونسج الحبكة نسجًا متفانيًا لعقدة المألوف - بقدر ما ينسيه
تشويق تفاقم الحدث المقلق غير المخطَّط له أثناء محاولة
استرخائه - عن استغرابه من مدى تجهُّم أسلوبه منه؛ فالقصَّة
هنا أو بالأحرى المقال القصصيُّ سيكون غير مضجر على الإطلاق
كما تعلمون والميِّت بدون مفتاح عظميٍّ سيكون مدعاة للسخرية
كما للجدية تمامًا وكتابه بقدر ما سيكون فاشلاً فهو ناجح؛ ليس
بقدر ما هو حيٌّ بعيون القرَّاء الأشحَّاء الكسالى الطفيليين
طبعًا ولكن بقدر هول الواقع الذي استرق سمعُ الكتاب جزءًا
يسيرًا من ثرثرته!
يرى المؤلِّف أنَّ السَّبب والدَّافع الدَّاعي لظهوره المفاجئ
هكذا مكتوف اليدين بسترة الحقيقة الضيِّقة التي تحاول الحفاظ
على بقائه شاردًا في غمرة مجتمع مهول بلا وجوه! وادِّعاؤه بأنه
ليس خياليًّا نفسه ضرب من ضروب الجنون المدروس، بالرغم من
ادِّعائه بشفائه التَّام من توحُّده. فهو لم يفقد أيًّا من
مواهبه بين أهله أو رفاقه، جيرانه، وطنه، عالمه... بل هم من
فقدوه وهو المُدان معهم، إنه يفتقد الجميع والجميع يفتقده
بالرغم من أنه محشوٌّ بينهم. "هل هذا المصير المعلوم المريع
كلّه رهين أيُّ مجهول؟!":
يتساءل المؤلِّف الوجوديِّ متمتمًا للمرَّة غير المعدودة وهو
يتعاط مسكِّن صداعه العدميِّ اليوميِّ، يصحو باكرًا من فكرته
البدائية وينهض متأخرًا عن موعده مع المرحاض العاطل عن العمل،
يسير ببطء ثمَّ بسرعة ثمَّ ببطء ثمَّ يعرِّج بخفَّة على ما
يشبه الشرفة المطلَّة على أيِّ مكان ليصرخ صرخته المبحوحة في
أذن ذلك الحين المعهود. يغيِّر رأي تصوّره ويعود منقلبًا على
بطنه ليقرِّر السباحة قليلاً والصَّيد في خضم نفسه كأيَّة سمكة
رائية حذرة ليقع تحت قبضته ويحاول التملُّص من بين زلاقة يديه
المنمحيتين أصلاً، لكنَّه سرعان ما يستفيق من استغراقه اليقظ،
ربما ليس لديه الآن الوقت الكافي لإعادة ضخِّ تنفُّسه أثناء
الغرق والوقوع بتثاؤب إحدى تجاويف الذكريات الكئيبة. لا وقت
للقلاقل الفارغة، لا وقت للمآسي المقرفة، لا وقت للمعاناة
اليائسة، لا وقت لأيِّ إحساس مرهف برعب الوقت على الإطلاق!
إنني أستمع جيِّدًا للرَّقَّاص المسكين وهو يئنُّ بذهنه
المعتلِّ المشلول تمامًا على طاولة العمليات، وأشاهده من فوق
مطوَّقًا بالأطبَّاء والممرِّضين وهم يُحاكون رقصة الأشباح[1]
ببلاهة، كانوا كلُّهم مبهرجين بزيِّ الهنود الحمر يصيحون صيحات
مرتجفة ويبعثرون أدواتهم الجراحيَّة في الأرجاء، كانوا يتمادون
في ذلك دون أن يدركهم التَّعب ولا أدري بالتحديد ما كان قصدهم
من محاولة إجراء هذه العمليَّة الغريبة على مؤلف يعاني من نزلة
برد عابرة! لا أدري كيف تمَّ الأمر لكن ما إن أحسُّوا بوجودي
المتأجِّج من حولهم أيضًا حتى اختفوا جميعًا في برهة من
الزَّمن! لا شكَّ في أن مزاجه الآن لا يسمح بأن أحدِّثه عن
سخافة ما قاموا به وهو يستعدُّ للنهوض مجدَّدًا، ربما يودُّ أن
يقرأ شيئًا ما ليقدِّر حال بصره المضطرب، يحاول إيقاظ ساعته من
دون جدوى والعقرب الباهت لا يزال يلمع في عينيه!
يجب أن أقول هنا أنَّه ورغم وقوفي أمامه وجهًا لوجه لدهر بأسره
إلا أنني لا أقوى على تذكُّر ملامحه المأتميَّة المغتبطة
بفراقه، تفكيري المليِّ به في حضرته غائبًا عنِّي يدفعني
للإحساس أكثر بمدى مرارة ما يكنُّه قلبه من نعيم إنسانيٍّ إزاء
هذا الكون الفريد الكالح، الحنين المروِّع لاسترجاع تلك البهجة
السماوية الضَّائعة؛ التي قد يتصوُّرها أيًّا كان تراجيديا
الفردوس المفقود. في الحقيقة إنَّه تعِبٌ مثلي، سئم من انتظار
فاوستيسٍ[2]
آخر من على قمَّة ظهر سيزيفٍ[3]
أبديٍّ، إنَّه باختصار مُصاب بالحياة لحدِّ الموت، مُصاب
بالموت مدى الحياة.
يقبع المؤلف حاليًّا طريح لعنة كتابه الأصلع هذا وهو لم يبلغ
بعد أرذل العمر بهذه الدَّار المسنَّة على هذا السَّرير
السَّقيم.
إذن تصوَّروا معي أو لا! كيف سيكون سمت الغد به أو من دونه
مهمومًا حائرًا خائر القوى؟!
حتَّى حين...
*** *** ***
من المجموعة القصصية "كتاب الميِّت"