فهم الإنسان
مصطفى أيت خرواش
يجود
فهمنا لذواتنا بفيض من الشكوك والهواجس والمدلولات والأحاسيس
المتناقضة، تجعلنا في شكٍّ مستمر من أمرنا ومن أمر علاقاتنا مع غيرنا
وكأن الوضوح أمر في غاية التعقيد عكس ما يختلج صدورنا ونحن نُعبِّر عن
أحاسيسنا وعواطفنا في لحظات البوح العاطفي. إنها علاقة الأنا بالذات
وهي علاقة الفهم والسلوك في استمرارية حتمية تقترب فيها هذه العناصر
أحيانًا وتبتعد في أحيان أخرى. حتى تعابيرنا وألفاظنا وتفاسيرنا عن
ماهية سلوكنا أو سلوك غيرنا يحكمها كثير من اللامعقول، هل نحكم على
ذواتنا وذوات غيرنا من خلال السلوك أم من خلال اللغة المتواصَلِ بها أم
من خلال الأحاسيس المعبَّرِ عنها في أوقات الفرح والحزن والحب
والكراهية والحنين والشوق؟
ربما يقتضي منا طرح الموضوع بعيدًا عن غُنوصات الفلسفة وتشابكات
مجادلاتها بين المدارس المتعددة التي اشتغلت على الذات المفكرة والسلوك
الإنساني والنفس البشرية والحب والسعادة والشعور واللاشعور، ولكن دون
الفرار من أسئلة الفلسفة الأولى والبديهية حول طرق فهم الإنسان لذاته
ولنفسه. هل نحكم على ذواتنا منذ الوهلة الأولى من تعاملنا مع غيرنا؟ هل
تمتلك لغتنا كامل القدرة على التعبير عن أنفسنا؟ هل ما يراه غيرنا فينا
هو عين الحقيقة أم هي فقط انعكاس تشبيهي يحتمل الصواب والخطأ؟ ألا تكون
اللغة مجحفة أثناء التعبير عن أحاسيسنا المتنوعة؟ هل نعرف ذواتنا حق
المعرفة ونحن نحاول التعريف بنا في أول لقاء بيننا وبين الآخر؟ كل هذه
الأسئلة بما تطرحه من تعقيدات في الاستدلال الفلسفي، هي في الوقت نفسه
تحتمل كثيرًا من النسبية سواء في طروحاتنا أو في نتائج استدلالنا.
في لحظات الفرح مثلاً، تكون نظراتنا للحياة إيجابية جدًا نتحدث فيها عن
الأمل وعن المستقبل والاستمرارية والنجاح، وتكون نظراتنا تجاه الأخر
أكثر سماحة وحبًا وعشقًا. في لحظات الحزن، تغيب كل تلك القيم ونصبح
منبوذين من ذواتنا ويكون العالم متوحشًا في نظرنا، نكون أقرب للموت
وننبذ القدر ونلوم الحياة ونكره الآخر خصوصًا إن كان سببًا في حزننا.
في لحظات الحب، نحس بذواتنا الثمينة وبمشاعرنا الجميلة وأحاسيسنا
الفياضة وتكون الحياة أجمل بشكل مذهل ويكون الآخر – وهو سرُّ سعادتنا –
طيفًا ملائكيًا وهو يبادلنا أجمل مشاعره وأحاسيسه. في لحظات الكره،
ننزوي مع شرورنا ونلعن ذلك الشيطان الغادر الذي جعل حياتنا عابسة وجعل
ذواتنا مذلولة وأكرهنا التفكير في التعبير عن مشاعرنا من جديد. في
لحظات الحرية نرفرف كالحمام وفي لحظات السجن نُدمدم كالمهووس. في لحظات
النجاح تتضخَّم ذواتنا كالإسفنج وفي لحظات السقوط ننطفئ كالرماد. في كل
لحظة من هذه اللحظات تتغير ذواتنا وتلبس حلية جديدة وتتغير مفاهيمنا عن
أنفسنا وعن غيرنا وننظر للحياة نظرة مغايرة وتتجدد أسئلتنا وهمومنا
وهواجسنا وقلقنا في موجة جديدة من موجات الاستبدال الذاتي.
نحن نلعن الحياة لأنها غير سوية ونلعن القدر لأنه يغدر بنا ونلعن الأخر
لأنه أساء فهمنا ونلعن ذواتنا لأنها لم تستطع تطويع الحياة والقدر
والآخر. نحن نلعن كل شيء حتى أظافرنا نلعنها عندما تتسخ. نحن نتسابق
دومًا للوصول للنهاية وعندما لا نصل نلعن الاستمرارية. نريد دائمًا
الاحتفال بالنهايات. نحن نكره الحياة لأنها فانية ونطلب الجنة لأنها
باقية وكما نطلبهما لأن الأولى تسلبنا المتعة الممتدة والثانية تعطينا
المتعة الأبدية. هكذا هو أنا وأنت ونحن، نطلب دومًا ونتغير دومًا، نكره
دومًا ونحب دومًا، نفهم دومًا ولا نفهم دومًا، وفي النهاية ننقلب على
كل شيء. وحده ذلك الذي نعتبره مجنونًا من يمتلك صفة الوجود الحر.
يتراوح فهمنا لذواتنا ولذوات غيرنا إذًا بين التجدد والتناقض، بين
اللااستقرار والنسبية، وفي كل هذه الحالات المختلفة تنشأ قناعاتنا
المتجددة للحياة والوجود، ونستمر في استهلاك الماضي وننشغل بالحاضر ثم
نتأمل في المستقبل، وهكذا تندثر آمالنا وأحلامنا بين هذه التراتبيات
الجبرية. الثابت في الإنسان هو ملكة التفكير وملكة الإحساس والشعور،
والمتحول فيه هو التفكير والإحساس والشعور ونقيضهما. لذلك فإن العلاقات
البشرية تُستلب بين النقيض وضده من طرف المفاهيم والأحاسيس والسلوكيات
البشرية، وبالتالي فإنها تتعرض للتشويه أحيانًا وللحقيقة في أحيان
أخرى. هل هذا يعني ضرورة وجود ضابط حاسم في العلاقات بين البشر؟ لقد
فكر الإنسان فعلاً في هذا الضابط للسلوكيات البشرية المعقدة عندما
ابتكر الحوار والقانون والدساتير كضوابط أخلاقية نزيهة من أجل الوصول
إلى نتائج هذه الضوابط التي هي التفاهم والعدل والمساواة. ولكن هل وصل
الإنسان فعلاً إلى ضبط أصله الثابت والمتحول؟ أم أن العملية أصلاً
لاغية بحكم انتمائه للطبيعة الحرة؟
*** *** ***