وحش الفوضى

 

ريبر يوسف

 

في مشهد شبيه بذيل مشهد لفيلم سينمائي يتيح لي الإنصات، قليلًا، إلى حدث جديد، أو ربما كلام يعيرُ رأسي الباردَ عينيه؛ مثل قبر في صورة. مقبرةٌ هو الرأسُ؛ كحالة جمعية. موظَّفو الرقابة في المواصلات يصعدون القطار، في شكل شبيه بالخَطْب الذي يصيبُ الدمَ في سيرته داخل الجسد، ارتفاعًا وهبوطًا. بسكِّين القانون يتفقَّدون أخلاق الفرد في برلين، هو إجراءٌ شبيهٌ بأمثاله في معظم الدول التي تحمي مواطنيها من وحش الفوضى. حيث يخال لي أنَّ القانون، هنا، وإن كان في غير صالحي أحيانًا، هو حماية لي بطريقة ما. الفوضى شبيهة بالنِّسَب العالية من السكَّر، الذي يتناوله المرء من قبيل العادة، والتي تصير إلى طبع في المرء. رجال المراقبة يتفقَّدون بطاقات نصْفِ الركَّاب، إذ ينزلون في المحطة المقبلة. طفلٌ، أشاهدُ ريشَ لسانه يستدرجُ الهواءَ، يسأل أمَّهُ: «لماذا لم يتفقدوا بطاقات جميع من في القطار؟». لوهلة، شعرتُ بكَسَلٍ في داخلي؛ جعلني أشدُّ على يد الرغبة فيَّ؛ بعدم تحويل نفسي إلى أب. ترى، ماذا سأجاوب ابني، لو طرح سؤالًا بحاجة إلى إجابتين مفصَّلتين ومختزلتين في آن، وخلال مدة لا تتجاوز الثلاث ثواني؟ الأُبوَّة شاقَّةٌ، لا شكَّ. تجيبه الأم: «هذا يحدث، أحيانًا».. فقط، إجابة الأم تسيل في رأسي، كالدم خاليًا من تلقين الطفولة حقدًا ما، أو لجرِّه إلى زمن آخر قد يصل إلى الصراع في البرلمان الألماني، في هذا الصباح الذي ترفع الأبنية فيه فساتينها حَدَّ الرّكَبِ، فيما الشمس تدفعها عرباتٌ نشطةٌ من السماء صوب الأرض.

الأخلاق والسلام، هنا، وبحسب مشاهدتي، هي سليلة ضرائب وعقوبات صارمة، أجهدت الناسَ المواطنين في الكواليس، ليتحولوا إلى أناس ذوي أخلاق تدفعهم إلى الحفاظ على الجمال، كحالة بصرية أو كقانون. هذه القاعدة تحولت إلى تعامل صحِّي، عبر الأجيال. حاويات القمامة متراصفة بجانب بعضها البعض، كل حاوية مرتبطة بعوامل سهولة فرزها وإعادة تصنيعها فيما بعد. من المُخجِل، رمي قنينة بلاستيكية في حاوية مخصصة لبقايا الطعام، على سبيل المثال. وهلمَّ جرًّا، حتى نصل إلى المحاكمة ضد دبلوماسي ألماني؛ لإدخاله سجادة كان ابتاعها، في دولة شرقية، من دون أن يدفع ضريبتها، وليس انتهاءً باستقالة الرئيس؛ بعد الانتقادات التي وجهت إليه إثر حصوله على بعض التسهيلات من بنك صديق، بخصوص قرض ما. تسهيلات قانونية، لكنها وكما حُسِبَت في رأس الألماني بغير الأخلاقية. الضريبة حليب الأخلاق، بتعبير آخر.

في الأشهر الأولى لي، كانت مشقتي الوحيدة هي استدراك المواعيد الرسمية دونما تأخير. إلى أن تلقيت غرامات مالية، جعلتني أقدِّس المواعيد؛ لعدم قدرتي على سداد تلك الغرامات آنذاك. قد نشاهد مجتمعًا متكاملًا بعض الشيء، خارجيًا، موسومًا بالأمان والأخلاق معًا. وبينما سكاكين الضرائب والغرامات مشحوذة منتصبة أعلى الأذهان، تحافظ الدولة على المواطن عبر توبيخ المواطن، ومن ثم تنقذه من الإيغال في الفساد المطلق. كل قانون مرتبط، في قسوته، بنتيجته القاسية على الكائن. قد تصل غرامة بيع مشروب كحولي لقاصرة أو لقاصر إلى 50 ألفَ يورو. مبلغٌ يفرض، لا شكَّ، حالة صحية على المجتمع رغمًا عن أنف البطش. هذا بالنسبة إلى المعالجة التي تستوجب دفع الغرامة المالية. إذًا، كيف ينبني القانون؟

في حالة بعيدة عن المقارنة، والتي لا أحبذها على الإطلاق، وتعرُّجًا على مجتمع شرقي، كرد العراق على سبيل المثال: هذا المجتمع المتباهي بالدين والقومية، في آن - الدين الذي جعله جشعًا والقومية التي لم تحفِّزه على الصناعة الداخلية، كإنتاج البسكويت، على سبيل المثال، وذلك للعدول عن استيراده من تركيا وإيران. ترى، أي مفهوم للقومية إذ يتحول الشعب القوموي، ظاهريًا، إلى دُبٍّ يحرِّك مخالبه ما إن تقترب من رأسه ذبابةٌ، وحسب؟ الفكرة غير منوطة بالقدرة على القيام بالفعل أو بالطاقة، سيما وأنَّ الناس والدولة، هناك، تعيش في رخاء فاحش. أي، المال ليس عائقًا للقيام بفعل ما؛ كمطاردة الذبابة قبيل وصولها إلى الرأس، على سبيل المثال.

شاءت المصادفة أن تكون معرفة ماهية هذا المجتمع عبر تشريد الكرد في سوريا، وبطريقة ما تحوَّل كرد سوريا إلى العدسة التي توجب النظر، عبرها، إلى كرد العراق. عبر شهادات من هنا وقراءات من هناك، تخال لي الذكورة، هناك، شبيهة بكائنات خرافية، لها رؤوس كلاب وأجساد بشر. هذا المجتمع الذي يسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، عبر التحرش الجنسي، لردع المرأة عن أن تكون حرة في ملبسها، على الأقل. قد يكون الأمر شبيهًا بماهية السوريالية داخل السينما. إذ تتخيل - إثر شهادات نسائية - سائقي السيارات يحيدون عن النظر إلى الطريق، ليشرئبوا برؤوسهم من نوافذ سياراتهم، متتبعين سراويل الجينز التي ترتديها اللاجئات الكرديات السوريات في شمال العراق. فالأمر شبيه، إذًا، بإجابة الأم لابنها داخل القطار في مدينة برلين. هي تمارين، يطلقها الذكر الكردي إلى أن وصلت حدَّ الجرأة في اغتصاب فتاة سورية قاصر، من قبل ستة شبان... وعلى دفعتين. هؤلاء الذين أجزم أنهم أبناء الجيش العراقي، زمنَ بطش صدام حسين. القضيةُ شرعنةٌ لحالة الاغتصاب والنظر بعين العهر إلى كرديات سوريا، وبعيدة كل البعد عن حالة مرضية فريدة نتيجة خلل في عقل الكائن. كانت ستكون القضية، بالفعل، حالة شذوذ، إذا ما كان الاغتصاب من قبل شخص واحد. لكنها جاءت بجرأة، وكأنها تحولت إلى حالة طبيعية وصحية للمجتمع؛ الأمر الذي يدفع بستة شبان إلى اغتصاب قاصر عائدة من عملها. هذه لم تكن الحالة الأولى التي تتعرض إليها اللاجئات الكرديات، هناك، بل إنها امتداد لمنهجية ما، بدأت باستغلال المرأة عبر العمل إثر الحاجة وانتهاءً باغتصابات جماعية.

ترتفع أصوات مناديةٌ بحقوق الإنسان، مطالبة بعدم إعدام مرتكبي الجريمة، تلك، والاكتفاء بالسجن المؤبَّد. وكأنهم يسعون إلى بناء بيت جديد، فوق بيت قديم دونما تقويض. أو كإجراء عملية جراحية من دون أن يفقد الجسد قطرة دم. المطالبة والرغبة، في بقاء «أربيل» بعيدة عن الإعدامات، تستوجب إعدامات تصوِّبُ المجتمعَ في أخلاقه. هنا يكمن التناقض في مجتمع متدين لا يخلط ما بين مياه المراحيض وغيرها؛ مدفوعًا من هستيريا دينية. أي أن الحالة الطبيعية لمجتمع يدَّعي التديُّن هي خروجه، جمعًا، إلى الشوارع مطالبًا بشنق مرتكبي فعل الاغتصاب ذاك. إن لم تكن عملية الاغتصاب، تلك، ممنهجة وسليلة تفكير ذكوري شامل، بحق كرديات سوريا على الأقل. ربما على الحكومة الكردية، هناك، عدم الاكتفاء بإعدامهم، من باب إصلاح هذه العقلية المعطوبة، بل عليها إصدار قوانين صارمة تحفظ المرأة، هناك، من أيِّ سوء قد يحيق بها، مثلًا: (شهادة المرأة تؤخذ بعين المصداقية لحظة ادعائها على رجل تعرَّض لها ولو بإساءة لفظية) أو السماح ببناء بيوت للدعارة والترخيص لها؛ سيما وأن الجنس قد تحول من حالة جمالية مقدسة إلى اغتصابات في الشوارع. قد يقول الكثيرون إن جميع الدول والأمكنة تتعرض إلى حوادث من قبيل تلك. أقول، وبعيدًا عن الحالة الإنسانية التي يجب النظر خلالها إلى فتيات فقيرات لاجئات في ضيافتهم، بل من منظور آخر وهو أنه كيف تقع حوادث، كتلك، في مجتمع يجيز بيع المشروبات الكحولية عبر البطاقة الشخصية أو الانتماء الديني للفرد؟! عدم تشريع قوانين عصرية بعيدة عن الدين، عبر البرلمان، هو انعكاس لرغبة المجتمع في البقاء ضمن الرجعية والدين، معًا. وبخاصة، كما هو جليٌّ، في بلد يدَّعي الديموقراطية. فالبرلمان يجب أن يكون لسان حال المجتمع في البلد. إذًا، فالمجتمع الكردي، هناك، في انسجام مع الشريعة الإسلامية، وبهذا فمن الطبيعي أن يخرج كرد العراق إلى الشوارع مطالبين بإعدام أولاد جنود الجيش العراقي؛ وذلك لاستكمال شرائع دينهم، على الأقل. هذا، إن لم تكن عملية الاغتصاب تلك مرخصةً بأختام الذكورة، في شمال العراق، ومن وراء الكواليس.

*** *** ***

نوافذ

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني