نقد الزير سالم...
النضال ضد ثقافة الثأر
بشار عباس
الزير
سالم، أبو ليلى المهلهل، زعيم الأحدوثة العربية الكلاسيكية الأوَّلى،
الشخصية القصصية الرئيسة القادمة من الأوان الجاهلي، الشاعر الفارس
العربيد السكِّير، صاحب الثأر الأبدي والأهواء المستبدِّة، سيُطيح به
الكاتب ممدوح عدوان بضربة واحدة، ليس بإرسال الحارث بن عباد للثأر منه،
فذلك ما وقع أصلاً في الحكاية، وإنَّما بتحويل الحكاية نفسها إلى نص
تلفزيوني مُحكم البناء والحوار والشخصيات. تلك الشخصيَّات الأدبية
الجاهلية التي عاشت طيلة خمسة عشر قرنًا على هيئة انسياب ذهنيٍّ، ستظهر
الآن على شكل تسلل حركي، أي: دراما. فما الفرقُ في هذا من قبل ومن بعد؟
بالنسبة للشاعر، الكاتب المسرحي، الروائي، والسيناريست ممدوح عدوان؛ من
البديهي أن يكون الفرق واضحًا، ومقصودًا لا ريب، ففي الحكاية المقروءة
أو المسموعة تكون الشخصيَّات قابعة في عالم التخيُّل، إنَّها تنهض
بالأحداث وهي متجاورة أو مجتزأة، فيمكن للزير أن يحفظ صورته الذهنية
المرموقة؛ إن حادثة البئر التي ارتبطت باسمه بسبب القافية، على سبيل
المثال، تبقى كاملة يُمكن إدراكها بمفردها، ويمكنها أن تشكِّل قصَّة
شبه مستقلَّة في سياق روائي عام، ومثلها كل ثأر، كل قتال، كل مناسبة
وفرصة تتسبَّب بقصيدة، كل هذه العناصر تنزع إلى معنى قائم بذاته، بينما
على الشاشة لا تُتاح لها نفس الفرصة، بل يُفرض على تلك الأحداث جميعها
أن تكون «تتر»، فتخضع لعامل الزمن الدرامي، وهو زمن يقوم فيه كل حدث
جديد بإقصاء القديم لجهة الأهمية، وفقًا لعنصر أساسي اسمه "ماضي
القصَّة". فكل مشهد منصرم انقضى الآن وأصبح ماضيًا للمشهد الجديد. وهذا
ينطبق أيضًا على الحلقات الأربعين التي توزَّع عليها العمل التلفزيوني
الدرامي.
قبل انتهاء العمل بحوالي مائة وثماني عشرة دقيقة تتحطَّم الصورة
الذهنيَّة لأبي ليلى المهلهل دفعة واحدة وإلى الأبد، ذلك يعني أن
المشاهدين لم يزل لديهم ما يقارب الساعتين لكي ينسوا جميع بطولاته،
ولهذا ينقلب كل ماضيه التليد رأسًا على عقب؛ إذْ نرى الزير طيلة
الساعتين على هذا النحو: جبانًا، ذليلاً، محني الظهر، لحيته بيضاء،
هائمًا على وجه بؤسه، يتعرَّض للإهانة؛ يُضرب ويُسجن ويجرُّ مقيَّد
اليدين، صوته خفيض ومرتجف، تؤخذ ابنته منه لقاء بعض جلود المواشي،
يُقتل بخنجر العبدين المصاحبين له، فلا يملك إلا أن ينتقم منهما قبيل
الذبح بأحجية شعرية هي كل ما تبقَّى له من ذلك الفن اللغوي الذي برع
فيه. إن هاتين الساعتين تقاربان الزمن القياسي لفيلم سينمائي طويل،
وهكذا يغدو الفارس الشاعر، شبحًا قديمًا لما أخذنا نراه الآن. إنَّه
على الشاشة وكل شيء مكشوف وبائن، سيرسخ في الذاكرة البصرية وليس
المتخيَّلة كما كان وضعه قبل عام 2000 - تاريخ عرض المسلسل، وسواء كانت
الشاشة كبيرة أم شاشة تلفزيون، فإن الشكل فيها يتحوَّل إلى مضمون، فلا
تعود مقنعة تلك الأدلة التي يسوقها أمام الشاب الملك الجديد، صحيح أن
منطقه سليم، وحججه بيِّنة، فلا يمكن امتطاء الماعز في الحروب بعد أن
حُرمت قبيلة الزير "تغلب" من امتلاك الخيل وأدوات الحرب، غير أنَّه
يقول ذلك محني الظهر، مستندًا على عكَّاز، ولحيته بيضاء.
إذا افترضنا أن تلك القصة اختلقها كاتب، أو مطوَّرة جيلاً بعد جيل، فإن
شخصيَّة الحارث بن عباد تظهر فقط لتضع حلَّاً للقصة، ولتعثر لها على
نهاية. سالم الذي أمعن وأوغل في القتل، فعل ذلك من أجل هدف سام وقيمة
عليا من بديهيات الحياة بين القبائل، ولأنَّه ليس من المعقول أن يظل
يثأر إلى ما لانهاية في طريقه إلى ثأره الرئيسي، وهو قتل جسَّاس بن
مرَّة، فإنَّه لا بد أن يقتله آخر المطاف، وعند قتله يتحقق الهدف
الرئيسي للشخصية، وكقصَّة كلاسيكية يعني الحصول على الهدف الرئيسي أن
النهاية بدأت، أو بتعبير آخر الحل. إن سالم تمَّكن أخيرًا من جسَّاس
وقتله، فماذا بقي له أن يفعل؟
هذه الإشكالية أدَّت إلى ظهور ثأر جديد مضاد منذ أن قام بقتل "بجير"
مبعوث السلام، حيث سيتحوَّل الزير إلى شخصية مضادة، ستُنزع عنه
البطولة، وهذا التفصيل ينفي عن العمل صفة العمل التراجيدي كما ينفي عن
الزير صفة البطل التراجيدي؛ لن يموت ميتة عزيزة. إنَّها من المرَّات
النادرة وربما المرة شبه الوحيدة تاريخيًا التي تتحول فيها الشخصية
الرئيسية، فجأة، إلى شخصية مضادة داعمة. لقد تحوَّل من شخصية تسعى إلى
الثأر، إلى شخصيَّة أُخرى مفارقة مطلوبة للمثول فورًا أمام محكمة عرفية
ثأرية.
ليس ثمَّة ما يؤكِّد أن تلك القصَّة وقعت فعلاً، فالتاريخ الشفاهي ليس
مؤهلاً من الناحية الوثائقية لتحرِّي ذلك، كما أنَّها قادمة من مرحلة
تاريخية لمَّا تكن القصَّة فيها قد شقَّت طريقها عن التأريخ، إنَّنا في
لغة زماننا هذا يمكن أن نسميها قصة السيرة الذاتية، أمَّا في ذلك
الزمان فإن القصَّ والتاريخ لا ينفصمان، الملامح الطفيفة والفروق
الواهية بينهما كانت في الشخصية، فالتاريخ الحديث لا يعترف بالشخصية
التي هي العنصر الأساسي للقص، بل يتعامل مع البشر كأرقام ليس إلا. في
حين أنَّه قلَّما ظهرت أحداث التاريخ القديم بدون شخصية تحمل مواصفات
الشخصية الأدبية، هذا يفسِّر وثاقة الصلة بين الملوك والقصص؛ لدينا في
جلجامش، طروادة، والأوديسة خير مثال على ذلك، وهي مسألة امتدَّت إلى
زمن متأخِّر نسبيًا، من أمثلتها مآسي شكسبير الكبرى التي تدور معظم
أحداثها في أروقة القصور بين الملأ.
أدب شبه سحري
قد لا يكون من المجدي التساؤل عما إذا كانت قصَّة مختلقة مكتوبة، أو
تاريخًا موثوقًا. لأنها في المخيال الأدبي العربي تحظى بمكانة لا
يُستهان بها، وتؤلِّف جزءًا من أدب شبه سحري يُدعى الجاهلي، يُمكن أن
يوصف بأنَّه اللحظة صفر لانطلاق الثقافة العربية القائمة أساسًا على
المنطوق اللغوي. إنَّها لغة سيزيد من مكانتها وحظوتها عمَّا قليل أنها
ستصبح لغة دينية تمتلك صفة القداسة. ما يعني ثباتًا ورسوخًا لذلك
الأدب، وأيضًا بقاءه مسموعًا ومقروءًا عبر الزمن، وفي قصَّة قائمة
أساسًا على الثأر، وبتعبير آخر الانتقام هو الهدف الرئيسي للشخصية
الرئيسية، ومصدر شعره، وسبب تحرُّكه ومنبع سلوكه؛ تُصبح هذه القصة
مثلاً أعلى يحتذى بين الجمهور الذي يتعاطى شخوصها، وهو جمهور يستطيع أن
يتحاشى ظهور الحارث بن عباد كشخصية رئيسة جديدة برزت على حين ثأر جديد،
وذلك قبل نهايتها بقليل عندما يتلقاها قراءةً أو شفاهةً، إذا كان
قارئًا يمكنه إقصاء الصفحات القليلة الغريبة عن مواصفات شخصيته المحببة
التي يتعاطف معها، وإذا كان "حكواتيًا" في مقهى شعبي فلن يرغب بتكدير
مزاج المستمعين الذين تحمَّسوا طويلاً مع طعنات شاعرهم. لكنَّ ممدوح
عدوان في صيغته البصرية أمعن في إلغاء مكانة الشخصية الرئيسية بتكثيف
بصري قصصي في آخر ساعتين من زمن القص الدرامي، ليجد الجمهور نفسه أمام
قصَّتين مفارقتين، واحدة قديمة عن شاعر بطل، وأُخرى جديدة راهنة، عن
نفس الشخص وقد تحوَّل إلى جبان يستجدي خصمه العجوز الضرير أن يطلق
سراحه، في مكيدة قام بها وقد أخذ منه وعدًا بالعفو عنه إذا أخبره أين
الزير، ليفي العجوز الضرير بوعده، لكنه سيعلم أن الرجل المطروح أرضًا
بين يدي جبروته، والذي يقبض عليه ويستنطقه عن مكان الزير إنَّما هو
نفسه الزير. ذلك الفعل الدرامي كان من الصعب أن يزيح صورة الفارس من
الأذهان في حالتي القراءة والاستماع، نظرًا لتعارضه مع صورة سابقة
مفارقة جهد الخيال على رسمها، غير أنَّه الآن على الشاشة، مرئي بأم
العين، في الظلام، يهمس مستجديًا بصوت لم يكن ليُسمع من ثنايا السطور.
لقد نفى ممدوح عدوان بصريًا كل قيم الشعر والفروسية التي تميِّز
شخصيَّة من هذا النوع، لتغدو نقطة تحوَّل الشخصيَّة الجديدة أشد وطأة
من القديمة، تلك طرأت حين عاش فجيعة مقتل أخيه الملك كليب وعزمه الثأر
له، وبدأه بتنفيذ وعيده، أمَّا الآن تتمثَّل نقطة التحول في معنى مضاد
تمامًا، وتتجلَّى في حالة كشف جديدة عن المواصفات الفعلية للشخصية، وهي
صارت مواصفات جديدة راهنة، ليصبح العمل كلَّه في خدمة مقولة جديدة،
محددة، يستخلصها الجمهور، وهي مقولة نجح ممدوح عدوان في إيصالها، ليس
لأنَّه فقط شاعر وقاص أجاد التعامل مع شخصية المهلهل الذي هو بدوره
شاعر وبطل قصصي، وليس أيضًا بسبب الجهد الشاق والمضني الذي بذله في
كتابة النص، وإنَّما كذلك لأنَّه انطلق في ذلك المشروع الدرامي من
مقولة إنسانية كثيفة يكشف عنها المهلهل قولاً وفعلاً: إن الولع بالثأر
من شيم الجبناء.
*** *** ***
السفير الثقافي