عن الأب فرانس
شهيدًا محاصَرًا والنافذة التي بقيت مفتوحة
نبراس شحيِّد
نافذة الدير التي
بقيت مفتوحة
في إحدى ليالي الصيف الرطبة، كنت مع فرانس في غابات صلنفة. تحدثنا
طويلاً بعد مسيرٍ متعب وأسرَّ إليَّ بهذه القصة حين اتكأنا على صنوبرةٍ
والعرق يتصبَّب من جبينينا. عندما دخل فرانس الرهبانية اليسوعية كان
النظام الديري صارمًا. اعتاد الرهبان قديمًا على إغلاق أبواب الدير عند
الغروب للانصراف إلى صلوات المساء. لكن فرانس كان يعشق الليل حتى
الجنون! لذا كان ينتظر إخلاد الجميع إلى مخدعه ليتسلل بهدوء الأشباح
إلى الطبقة الأرضية ويقفز من نافذة الدير إلى الليل! يركب فرانس الشاب
دراجته الهوائية سالكًا الطريق المظلم ليصل إلى المدينة حيث يزور
أصحابَه ويطمئن على بعض العائلات المتعبة. عند منتصف الليل، يعود الشاب
أدراجه إلى الصمت المقدس ليتسلَّل من النافذة التي خرج منها عاشقًا
وكأن شيئًا لم يكن. "ألم يكتشفوا أمرك؟"، أسأله بلهفةٍ صبيانية ليجيب:
"اكتشفوا الأمر، لكن كان اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب!". ويغشى عليه من
الضحك. أضحك معه حتى يسيل الماءُ من عينيَّ وتتشنج خاصرتاي وأنا أنظر
إلى وجهه المبتسم. اليوم، أنظر إلى وجهكَ المثقوب بالرصاص أيها العجوز
الطيِّب فأشعر ببرودة العرق يتصبب مجددًا من جبينينا بعد ذلك المسير
الليلي الطويل.
أتعلم أني حين علمتُ بخبر استشهادكَ وقفتُ مجددًا أمام النافذة؟ نعم،
فتحتُها لأتنشق شيئًا من الهواء فشعرتُ بألمٍ في الخاصرة. فرانس،
النافذة التي كنتَ تتسلل منها للخروج إلى ليل الصداقات وللدخول مجددًا
إلى صمتك المقدس لا تزال مفتوحة، ولن يقوى أحد على إغلاقها!
نوافذ من قلب
الحصار
حياة فرانس في سوريا كانت سلسلة طويلة من نوافذ مفتوحة. في مشهدٍ
اجتماعيٍّ وسياسيٍّ مُصْمَت، يخلق فرانس مشروع "المسير". يجتمع مئات
الشابات والشبان الوافدين من مناطق مختلفة، ومن انتماءاتٍ دينيةٍ
وثقافيةٍ متنوِّعة، ليجوبوا أنحاء سوريا بحثًا عنها. في هذا البحث
اعتاد فرانس على اختيار الطريق الأصعب! يقول البعض إنه لم ينجح في
دراسة الرياضيات لأنه لم يستطع أن يتعلم معنى الخط المستقيم! للوصول
إلى قريةٍ ما، كان لا بد لمن يسيرون معه التوغل في أحراج الأشواك،
والغوص في الأوحال، والتيه في أماكن مجهولة لا يعرفها لا الإنس ولا
الجن. لذا تتعالى أصوات التذمر، ويتوب البعض إلى ربه قائلاً: إذا بقيت
على قيد الحياة بعد هذا المسير فلن أخرج مجددًا مع هذا الرجل المجنون!
"يطنِّش" فرانس حين يسمع هذه الكلمات لأنه يعرف أنهم سيتوبون من توبتهم
ويعودون إلى هذا الهوس. وهذا ما يحدث! يشارك المتذمرون في المسير
القادم ويصطحبون معهم متذمرين جددًا! هكذا كان فرانس يخلق مجتمعًا
مدنيًّا جديدًا لا تتحدد فيه العلاقات بحسب اعتباراتٍ دينيةٍ أو
مناطقية، فالجميع متساوون ولهم هدف واحد: اكتشاف سوريا أو ربما إبداعها
على قدر اتساع الصداقات التي تتشابك في أحراج الأشواك. سوريا الصغيرة
تُخلق هنا بين عاشقين وعاشقات حين تتلوث الثياب بالطين، ويتفشى الجمال
الطبيعي على الأجساد المتعبة حيث لا زينة ولا ماكياج إلا قطرات العرق
التي توحِّد الوجوه.
يخلق فرانس مشروع "الأرض" أيضًا، نافذة في حياة ذوي الاحتياجات الخاصة،
وكذلك معمل السيراميك نافذة في حياة نساء القرى المهمَّشة. يذهب فرانس
أبعد من ذلك ليبني "دار السلام" حيث يجتمع مسلمون ومسيحيون ولادينيون
للتأمل بالحياة في مكانٍ تغيب فيه جميع الرموز الدينية ويحيا فيه
الإنسان أمام سر الوجود الصامت. يبدع فرانس هوية ديرٍ جديدٍ في حمص
ليصير فيه مكانُ الصلاة ملتقىً لفنانين وباحثين ومكانًا لعروض مسرحية
وأمسياتٍ شعرية تتغنى بجمال الجسد. "خذوا هذا هو جسدي!"، والراهب
العجوز يسمع ويبتسم ويفتح نافذته الأخيرة من قلب الحصار. أهل حمص
يموتون من الجوع، وأنت تموت معهم من الحب! أتأخر فرانس في رثائك لكن
الحزن يشلِّني...
يقول نورس سمُّور في خطبة الوداع الأخيرة: أريد أن أتوجه إلى آخر شخص
رأته عينا فرانس، وفرانس يتوجه إلى من لا يعرفه بعبارة "يا خيي". أريد
أو أتوجه إلى هذا الشخص لأسأله: ما الذي جنيتَه حين أطلقتَ عليه النار؟
هل لديكَ ما يكفي من الشجاعة لتواجه عيني مَن نظر إليك وقال لك "يا
خيي"؟ نظرة لن تنساها ما حييت! هناك رجلٌ نظر إليك وقال لك "يا خيي"
وأنت قتلته!
في ملكوت الجسد
المطعون
"لكن أحد الجنود طعن يسوع بحربةٍ في جنبه فخرج منه دمٌ وماء" (يوحنا
19، 34). يبدو أن الجروح وإن تشابهت لا بد مختلفة! تقول الحكاية، إن
مخيلة توما، أحد أصدقاء المسيح، لم تسمح له بأن يتصور انتصار الحبِّ
على الموت. لذا يطلب توما أن يدسَّ اصبعه في جنب الرجل المفتوح بحربة
ليتأكَّد من هويته. تقول الحكاية: يزور المسيحُ أصدقاءه مجددًا ويطلب
من توما أن يضع الإصبع في الجنب المفتوح، وهنا يكون اللقاء الأول!
يتعرف توما هوية الواقف أمامه من جرح الخاصرة لا من ملامح الوجه المتعب
أو المثقوب بالرصاص! إنه جرح الجنب حين يصير هويةً يتوحد فيها الإنسان
مع حلمه، ويمتزج الدم بالماء. من الجنب أيضًا تقول حكايةٌ قديمة، أخرج
الله ضلعًا من آدم ليجبل المرأة. ولكي يصير ذلك، يُدخل الله آدم في
سباتٍ سحيق. من أجل أن توجد المرأة، لا بد للرجل من أن يحلم في ليلٍ
عميق! من أجل أن توجد المرأة، لا بد للرجل من أن يكتوي من الرغبة! من
أجل أن توجد المرأة، لا بد لأضلاع آدم من ألا تكون مكتملة! من أجل أن
توجد المرأة، لا بد للرجل من أن يتعلم الحب! من الجنب نفسه يُطعن
المصلوب بحربة. من أكثر الأماكن أنوثةً في كيان الرجل يفيض دمٌ وماء.
نافذةٌ ما في ملكوت الجسد تولد منها امرأة، ويصير فيها الرجل رجلاً،
ويخرج منها نبع ماءٍ لينتصر على شراسة الدم المسفوك حين يصير الجرح
هوية. هل سيصير جرحنا السوري هوية ينتصر فيها الحب على الموت؟! لا
أعرف، لكن هذا ما تقوله الحكايات... دمٌ وماء! فرانس، أذكر جيدًا حين
كنت تغمزني في القداس لأبدأ بإنشاد ترنيمة بيضاء لا يكون فيها النصر
للدم. أحاول أن أكتم ضحكاتي كي لا أقهقه. لا بد للدم من أن يُغسل
بالماء! لا حقدٌ ولا ضغينةٌ لقاتلك، يقول الجنب المفتوح، بل قبلةٌ على
وجه من خان وسلَّم، وحُلْمٌ لا يموت.
"الغصن المزهر يهِبُ رائحته حتى لمن يقطفه!"، هذا ما قلته لي مرارًا.
اليوم، حيث البلاد تغوص في أوحال أحقادٍ طويلة، لا يسع محبيك إلا
التمني لكل من أراد قتلك بأن يفتح نافذته يومًا ما ليتنشق شيئًا من
عبيرك الطيب أيها الرجل الطيب. "سينظرون إلى الذي طعنوه!" (يوحنا 19،
37).
اللوحات لأركباس
*** *** ***
النهار 18/4/2014