قطار الشرق الأسود

 

طامي هراطة عباس

 

كان حشد الناس المندفعين إلى داخل محطة القطار يخفُّ بالتدريج كلما كلَّلت الظلمة واجهتها وغامت عقارب الساعة الرابضة على برجها الطويل، في تلك اللحظات افتتح الليل حضوره بكتلة باردة من الظلمة العميقة خيَّمت بثقلها على الحياة المحيطة بالمكان، خيِّل إليَّ أن كل تلك الأبواب المغلقة أو المواربة التي صادفتها في الطريق إلى المحطة والتي كانت تمتص حمرة الغروب على مهل، كانت محض إشارات، أيقونات لحياة مقبلة، كنت أدقق في زخرفتها ونقوشها اللافتة: أشكال منفتحة على أمداء قصية، نجوم صغيرة ووحيدة معلقة في فضاءات بلا نهاية، تشكيلات من نباتات متسلقة شقت القلب الصلد لخشب الصاج، ثم ينفتح المشهد على أشكال لولبية مندفعة بقوة ولاهثة من أجل بصمة مميزة لكنها سرعان ما تستدير ثم تنحني منساقة لبراعة النقَّاش لتسقط في فخ الدائرة المغلقة مكرِّرة  شكلها دون توقف.

على الرصيف الأخير ينتظر قطار الشرق بلونه الأسود رابضًا على امتداد طويل من القضبان الفولاذية. كانت الظلمة التي حلَّت قد امتصت بريقها المعدني اللامع فبدت وهي تغور في ذلك الامتداد الطويل مثل أفاع سوداء عملاقة شلَّ حركتها الصقيع، وكان الشعار الرسمي الذي شغل مقدمة القاطرة والذي تمَّ تلميعه مؤخرًا قد أبرز بصورة واضحة شكل ذلك النسر العابس الذي ينشب براثنه بقمة تاج ذهبي كبير.

في داخل العربة المخصصة لنقل الموظفين الحكوميين، كان هناك عدد قليل ممن يرتدون الملابس المدنية فيما كان العسكر برتبهم المختلفة يشكِّلون النسبة الأكبر، وكانوا جميعًا قد التصقوا بنوافذ الجهة اليمنى فيما كانت جهة اليسار والمقاعد الوسطية خالية من أي راكب، وحين عثرت على مقعدي كان هو الآخر بنفس الجهة، ثم عرفت حين أطلعت على الملاحظات المدونة على التذكرة أن إدارة النقل الحكومية هي التي أقرت هذا النظام.

قبل أن تطلق القاطرة صافرة الرحلة وصلتنا عبر مكبر الصوب المثبت في مقدمة العربة تعليمات هيئة النقل الحكومية "يمنع حمل المطبوعات والكتب والوثائق الصادرة من الجهات المعادية لدول الشرق، لا يجوز بأي حال من الأحوال استخدام أو حيازة المصابيح عالية التوهج لإنارة المناطق شديدة العتمة، يمنع حمل واستخدام كاشفات الكذب الحساسة عند اللقاء بالمسؤولين الحكوميين ذوي الدرجات الخاصة والعالية أو أجهزة الاتصال المباشر بالأقمار الصناعية...".

تحرك القطار ببطء بعد الصافرة الثالثة، كان صوت العجلات وهي تضرب فواصل القضبان ينمِّي إيقاعًا رتيبًا باعثًا على الخدر. لم أتمكن ذلك النهار من الحصول على قدر كاف من الراحة لأواجه به مشاق السفر المحتملة، ورغم رائحة التبغ والكحول الخانقة التي احتشدت في فضاء العربة كان النعاس يعبث بي ويهدهدني على المقعد. وقبل أن أسقط في رحابه المخدِّرة كان مكبر الصوت يصدر توجيهات جديدة: "في الساعة 12.00 سندخل حدود الشرق الرسمية. في هذا التوقيت من السنة يكون المشرق بأجمعه قد دخل فصل الليل. يجب أن لا تُقلق كثافة الظلمة وطول الفصل أولئك المسافرين الذين يركبون القطار للمرة الأولى، نرجو الالتزام أيضًا بتشغيل دروع النوافذ يدويًا عندما لا تعمل بصورة آلية".

أسفل النافذة كانت هناك عتلة طوارئ حمراء صغيرة مخصصة لرفع دروع معدنية واقية للزجاج يمكن عبر الفتحات الصغيرة التي تتخلَّلها أن يلتقط المرء جزءًا من حياة هذا المكان بغموضه وسحره التاريخي. كنت يقظًا ومستعدًا للانغمار بهذه التجربة، تجربة العمل في المناطق النائية، فيما كان الآخرون قد اختاروا اجتياز الفصل صامتين منغمسين تمامًا بذلك الخدر الذي يشيعه الكحول.

كانت الظلمة الكثيفة تعبث بأضواء العربة الشحيحة وتغمرها بسواد حبري. فجأة ارتطمت أشياء صلبة بجوانب القطار وهشمت زجاج إحدى النوافذ قبل أن تنجز الدروع وظيفتها بحمايتنا. خفَّف القطار من سرعته. كان هناك إطلاق نار مسموع يأتي من عربات الحراسة وحجارة تنهمر على جوانب وسطح عربتنا وشتائم وصراخ وهتافات، وتعليقات غامضة تصدر من مكبر الصوت: "إنهم مجرد حفنة من المتظاهرين غير المنضبطين".

استعاد القطار سرعته وتلاشى ذلك اللغط، انسحب خلف ضجيج المحرك العتيق الغائر في الفصل الشرقي والذي ازدادت كثافة حتى صارت المصابيح الداخلية مثل جمرات صغيرة ذاوية. بدا لي إننا نغور في لجة سوداء وكثيفة. كنت أشعر بها تلامس وجهي وتستحضر الوحشة من مكامنها. كانت هناك رؤى سوداء بغيضة ولزجة انفلتت من تلك الرؤوس الراكدة كان بوسعي لمسها، وربما كنت ساعتها قادرًا على الإمساك ببعضها وحفظها في وعاء ما أو أخزنها في حقيبتي كي أعيد اكتشافها في ظروف أفضل، لكن ظلمة الشرق وبعض رؤاه لم تكن قابلة للتخزين، كانت تفوح منها رائحة العتق والدم والغبار فخشيت أن تعلق بي أو تفلت مني فتضيع وربما تتناسل مسببة الأذى في مكان آخر.

انفرج باب العربة في اللحظة التي تهاوت فيها العتمة وتشظت تحت سيل باهر من الضوء الأبيض. كانت يدا النادل الذي دخل العربة تخبطان الهواء وهو يبحث عن شيء ما يصد به ذلك الانهمار الضوئي العاصف الذي آلم عينيه، فيما كانت السهول المحاذية للسكة بعمقها الذي لا يحده البصر قد كشفت وخلال تلك اللحظات قوة الجمال الكامن في ذلك التنوع المدهش من النباتات والزهور والتي امتدت مثل سجادة رائعة ونادرة بجمال وطول خرافي تحتفي بمرور القطار العتيق، وكان هناك صدى لآذان يرفع من بعيد وأجراس وصلنا فعل تأرجحها على برج كنيسة ريفية صغيرة، وموسيقى وأغاني شعبية صاخبة تتفتح تحت الضوء، ثم دهمتنا عبر النافذة المحطمة رائحة الشواء والخبز الساخن الخارج توًا من باطن التنور. كانت هناك حياة غنية متعددة وعذبة استيقظت حالما لامسها النور.

لم توقظ ومضات الضوء المتقطعة وكل الأشياء الرائعة التي مرت وتكررت لبضع دقائق موظفي الحكومة الغافين على جهة اليمين. لقد خيِّل إليَّ أنهم فوتوا فرصة الاكتشاف الآسر لذلك النور الأتي من مصدر ما في السماء كاشفًا الحجب عن جزء حي ونابض من الشرق الذي يحاول الفصل الليلي سَتره. لقد تمكنت وأنا أقف محدقًا في العمق أن اختطف لحظات صغيرة تفحَّصت خلالها الرتب العسكرية الصدئة وأنواط المعارك الوهمية المغبرة ووجوههم التي شوهتها الغضون العميقة التي حفرتها سنوات الخدمة التي أنتجت كل هذه الملامح الكئيبة، ولا أعرف على وجه التحديد كيف أمكنني أن أعرف أو حتى أقدر حجم اليأس واليباب الذي يغمر أرواحهم الراقدة في بركة الخدر تلك.

-       أنت حتمًا بحاجة إلى شيء ما سيدي! قال النادل.

جفلت. ارتد رأسي إلى الخلف بسرعة. كان منحنيًا وقريبًا مني حتى إنني شعرت بحرارة أنفاسه. لا أعرف بالضبط كم مضى من الوقت وكم بقي من فصل الليل. كنت مشوشًا ولم أحدِّد ما الذي أحتاجه بالضبط.

-       بوسعي أن اقترح بضعة أشياء ما دمت غير قادر على التحديد فأنت محق لأنها سفرتك الأولى.

تضمن اقتراحه العديد من الأغذية المعلبة والساندويتشات والعصائر والمشروبات الكحولية القوية التي تجعلك تغفو طوال الفصل دون حراك. قبلت بعض المواد التي اقترحها ورفضت البعض الآخر، وقبل أن ينسحب عرض علي بعضًا من خدماته.

-       سيشرف الفصل على نهايته حين نصل، بوسعي أن أكون دليلك وأجعلك تستمتع بالعديد من الحفلات الحية والغريبة، هناك حفلات خاصة بالبتر التناسلي، فما زلنا نمارس ختان الإناث في هذه الأنحاء ونفتي بزواج القاصرات... سيدي!

رفضت دعوته الغريبة وأضفت أقراصًا مسكنة على قائمة طلباتي. شعرت بضعف ودوار خفيف. كنت بحاجة ماسة إلى هواء نظيف. تركت مقعدي واتجهت صوب النافذة المهشمة، مسني هواء البراري الشرقية ولسعتني برودته. تشبثت بحافة النافذة بقوة وأخرجت رأسي متطلعًا إلى السماء حالمًا أن يهبط ضوء ما من أي كوكب أو مجرة ليهدَّ هذه الظلمة المتجبرة ويختزل فصل الليل.

*** *** ***

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني