المالينخولي
السَّعيد... أو كيف يحتمل السُّوداويُّ مُكوثه في العالم؟
ياسين عاشور
المالينخوليا، هي السَّعادة في أن تكونَ حزينًا
فيكتور هيغو
ثمَّة
من النَّاس من اختار انتهاج السُّوداويَّة رؤيةً للعالم ومقاربةً من
مقارباته المتعدِّدة ومسلكًا جماليًا يعبُر تفاصيل الحياة وأفانينها،
والمالينخولي في الأصل إنسانٌ يائسٌ من العالم ومن النَّاس، ليس يأسهُ
يأسًا رومنسيًا ساذجًا أو حالة انفعاليَّة عابرة، بقدر ما هو كينونةٌ
تُنحتُ وتُؤَصَّلُ طيلة مكوثه في العالم.
تعرَّض ابن سينا في كتابه القانون في الطبِّ إلى المالينخوليا
باعتبارها حالةً مَرضيَّةً مُحدِّدًا أعراضها قائلًا:
علامة
ابتداء المالينخوليا ظنٌّ رديء، وخوفٌ بلا سبب، وسرعةُ غضبٍ، وحبُّ
التخلي واختلاجٌ، ودوارٌ ودوىٌّ وخصوصًا في المراق. فإذا استحكم،
فالتفزغُ وسوءُ الظنِّ، والغمُّ، والوحشةُ، والكَرب، وهذيانُ كلام،
وأصنافٌ من الخوف مما لا يكون أو يكون.
وإذا كان تعامل ابن سينا وسائر النفسانيين مع المالينخوليا تعاملًا
طبيًا اكلينيكيًا فإنَّنا نُقاربها خارج الفضاء الصحِّي، لذلك نختلف
معهم في الرُّؤية العامَّة للحالة
السُّوداويَّة-التَّشاؤميَّة-المالينخوليَّة من حيث اتِّفاقنا في تشخيص
الأعراض.
حسم المالينخولي أمره مع مفردات من نوع: قصد، غاية، هدف، معنى، مطلق...
ولم يعد يهمُّه ماذا يقع في الضفَّة الأخرى من العالم، ولا ما وقع في
غياهب الماقبل، ولا ما سيقع في سرمد الماوراء.
كيف للإنسان أن يحتمل مكوثه في هذا العالم، لولا تلك الأضرب من الوهم
الجميل (الفنُّ، المُثل العليَا، شرائع الخلاص المزعوم...)، عدا ذلكَ
فإنَّ الحقيقة لا تُؤدِّي إلا إلى ثلاثة طُرق: اللَّامبالاة المطلقة
(وهي درجة عُليا من الحصافة) أو الجُنون (وهو عينُ الوعي بالعالم) أو
الانتحار...
ينتمي المالينخولي إلى سجلِّ اللامبالاة المطلقة، حيث الانتماء إلى
اللاانتماء، وليس ثمَّة ما يدفعه إلى الانتحار، لأنَّ الانتحار عادةً
ما يكون نتيجة خيبةٍ متأخِّرة. يقول إيميل سيوران في شذرة خاطفة:
لا
ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على
الاستمرار في التفاؤل. أما الآخرين فلماذا يكون لهم مبرر للموت وهم لا
يملكون مبررًا للحياة.
المالينخولي كائنٌ سعيدٌ من شدَّة الحزنِ لأنَّ الحزنَ مصْلٌ مضادٌّ
لنفسهِ، لا خشيةَ من شيءٍ إذنْ ولا أمل في شيءٍ، لا انتظارات ولا
خيبات. يكفي الالتذاذ بما هو متاحٌ، لأنَّ اللِّذَّة مصدر كلِّ خير وفق
المعلِّم "أبيقور"، والخيرُ كلُّ الخير في تجنُّب كلِّ ما يسبِّب
الألم. تُعدُّ الإيتيقا الأبيقوريَّة وصفةً مثاليَّة لحياة المالينخولي
السَّعيد: الالتذاذ في حدود المتاح، تجنُّب كلِّ ما يشكِّل مصدرًا
للآلام، عدم الخشية من الموت ولا من القوَّة المفارقة، القدرة على
تنسيب الألم والمصالحة معه.
يحاول المالينخولي الفكاك من كلِّ الارتباطات المحدَّدة بصفة قبليَّة،
إذْ لا معنى للوطن فهو من قبيل المصادفة الجغرافيَّة، ولا معنى للعائلة
لأنَّها مُؤسَّسةٌ على حتميَّات بيولوجيَّة، ولا معنى للعلاقات
المبنيَّة على الانفعالات الطَّارئة والعرضيَّة. لذلك فإنَّه جازمٌ
حازمٌ في مقاطعته لفكرة الزواج والتَّناسل؛ ففي زيادة النسل زيادةٌ في
عدد الأشقياء. جاء في مصنَّف الدّراري في ذكر الذّراري لابن
العديم الحلبي أنَّ فيلسوفًا سُئل: لم لا تطلب الولد؟ فقال: من محبَّتي
للولد. وقيل لآخر: لو تزوَّجت فكان لك ولدٌ تُذكر به، فقال: والله ما
رضيت الدنيا لنفسي فأرضاها لغيري.
لا يذهبنَّ في الظنِّ أنَّ المالينخولي السَّعيد داعية كراهيَّة أو
صاحب نزعة تصفويَّة إباديَّة، فهو يفقد القدرة على الحبِّ والكره
تدريجيًا خلال حياته القصيرة، لا شيء يستحقُّ الكره، كذلك بالنسبة إلى
الحبِّ، كلُّ الموجودات سواسيَّة لأنَّها باطلةٌ بالأصالة وقبضٌ
للرِّيح. الحياة عديمة الجدوى، وإذا وضعنا لها هدفًا على سبيل التجوُّز
فإنَّه حتمًا سيكون الموت، لم يعد الموت مصدر خوف، بل هو صديق طيِّب
للمالينخولي السَّعيد، وطيبته تكمن في حكمته المُعرِّيَّة للحياة.
يسخر المالينخولي من النَّوع الإنساني، بل ويشعر بالعار إذا تذكَّر
انتماءه إلى هذا النَّوع، لذلك فهو محكومٌ في تمثِّله للعالم بـ"إرادة
الفناء"، وتنزع هذه الإرادة إلى الإنهاء الوجودي للنوع الإنساني بعامة،
حتَّى يعود النَّظام الطبيعي إلى مجراه، فالإنسان كائنٌ ناشزٌ، وقد
تسبَّبَ نشوزه في إفساد العالم رغم التقدُّم الحضاري الظاهر. يقول جان
جاك روسو في مقالته الرَّائدة في العلوم والفنون:
...
وأنفسنا ازدادت فسادًا بقدر ما ازدادت علومنا وفنوننا كمالاً. أن يقول
بعضهم إنَّها نكبة خاصَّة بعصرنا؟ كلَّا، يا سادتي، فالشُّرور الناجمة
عن فضولنا الباطل إنَّما هي قديمة قدم العالم...
هل في نفس المالينخولي السَّعيد رغبةٌ في إصلاح ما قد فسدَ؟ كلا، إنَّ
الضَّررَ هائلٌ وجبره صار محجوبًا عن الأفق. المالينخولي عدمي في
المستوى الإيتيقي العام وفي مستوى السِّياسة. كلُّ تدبير للشَّأن العام
هو تدبيرٌ للألم، وكلُّ سلطة تبدع مسخها الفرانكشتايني من حيث تدري ومن
حيث لا تدري، فالأنظمة المجرمة كما يقول ميلان كونديرا:
لم
ينشئها أناس مجرمون، وإنَّما أناس متحمِّسون ومقتنعون بأنَّهم وجدوا
الطريق الوحيد الذي يُؤدِّي إلى الجنَّة.
قد يبدو المالينخولي السَّعيد متناقضًا في كثير من مزاعمه، فهو سعيدٌ
من حيث حزنه، وموجودٌ من حيث إرادته للفناء، وعلاقاته الإنسانيَّة
والعائليَّة طيِّبةٌ من حيث عدم إيمانه بأيِّ ضرب من الارتباطات!
لكن التناقض الظَّاهر بالنسبة إليه
ليس "نقصًا، أو خطأ، أو ضعفًا. إنه حركة حياة وكينونة. ورؤية عقلية
متجددة" على عبارة عبد الله القصيمي، إنَّه حالة من القلق الدَّائم
والارتياب اللَّامتناهي.
في ختام هذا المانيفستو، يريد المالينخولي السَّعيد بيان أنَّ
لامبالاته غير ناجمة عن طيش أو فراغ وإنما هي حصافةٌ ورؤية للعالم
واكتناه مباشر للألم الإنساني، فلا عزاء لهذا الألم إلا في فكرة فناء
الإنسان ذاته باعتباره كائنًا مسيئًا إلى نفسه فضلاً عن إساءته إلى
بقيَّة الموجودات.
صدق محمود درويش – وهو أحد الكائنات المالينخوليَّة السَّعيدة - إذ قال
في سطرٍ شعري جميل جليل:
في
اللَّامبالاة فلسفةٌ، إنَّها صفة من صفات الأمل.
*** *** ***