تجديف
دارين أحمد
في
افتتاحية سابقة تحدثتُ عن النهر كتجلٍّ شعري لفهم الحياة أو كمثال له
حيث يمكننا الاقتران بالطبيعة الفكرية دون أن نبتعد عن الطبيعة الحية[1]،
ثمَّ في افتتاحية لاحقة تحدثت عن نرسيس ومرآته السائلة التي هي سطح
الماء في تعارض مع المرآة الكتيمة التي نعرف، وفيها كان الغرض هو
الوقفة أمام أنفسنا إنما مرة أخرى دون الابتعاد عن الطبيعة الحية
وأمثلتها التي يمكن أن تهدئ من سورة تجريدنا الفكري[2].
ولكي يكتمل الموضوع لابد من التفاتة إلى الجانب الآخر المكمل للوقفة
أمام الذات، وهو الحركة أو الفعل ممثلاً بالتجديف في النهر؛ إذ لا يصح
للمرء إطالة الوقوف خاصةً إذا كان يتأمل تأرجح صورته وحركتها على وجه
الماء!
التأمل والفعل نشاطان متلاصقان إنما كل من مكانه وظروفه وما يحدث في
التحقق الفردي هو تطابق المكانين والظرفين بحيث يغدو العملان عملاً
واحدًا. إنما قبل هذه الدرجة هناك مسافة لا تتلاشى إلا باقتراب
الطرفين. وهذه المسافة ليست سهلة التلاشي إذ يحافظ عليها "الوعي" ذاته
في تجليه المنجز المُعبر عنه بالفكر أو الذاكرة الممتلئة بمعطيات
الثقافة التي تنظر إلى التأمل كاسترخاء مؤقت - يطيب للبعض ولا يطيب
للبعض الآخر، كلٌّ حسب تعقيده وتوتره وظروف حياته - يتم تمثيله بنزهةٍ
تُجدِّد الطاقة المجبرة على التبدُّد في اليومي وفي زخم عمل ما لا
نطيق. و"عمل ما لا نطيق" ليس إلا تسمية أخرى للحياة التي نحب ولكن
المنفلتة دومًا من بين أصابعنا في زحمة اليومي. وهنا يأتي التأمل، وفق
الفكر، كنزهة لا تبتعد كثيرًا عن سلطة "الواجب" و"الضروري" و"الملِّح"؛
فمن الضروري والملح أن يفتح الإنسان نوافذ عقله من حين إلى آخر حتى
يتمكن هذا العقل من استيعاب المكرور مرة تلو أخرى. ثم لا يلبث التأمل
أن يصبح مكرورًا آخر نضيفه إلى واجباتنا حتى نسأمه ولا يعود لدينا إلا
حلُّ إيجاد نافذة أخرى جديدة. وفي هذه الحلقة الدائرة لا يحضر التأمل
ولا يحضر التجديف إنما يحتل التحكم حياتنا: تحكمنا بالآخر وبأنفسنا،
وتحكم الآخر والذاكرة بنا؛ ما يمنحه التحكم الأول من "سرور" وما يثيره
التحكم الثاني من ألم.
بعيدًا عن هذين النوعين القاسيين، بالدرجة نفسها، من التحكم يأتينا
التجديف بفعل ثالث جوهره الخبرة لا السلطة، الاتساق لا القسر؛ فعل
ينبثق منا ويعود إلينا، إذ تكون يدك ومجدافك وماؤك وذاتك كل واحد متحد
مع الكل الأساسي الذي أسميناه نهرًا أو حياة.
هي لحظة تسمى "هنا والآن"، لحظة الحاضر، عندما ينعتق المرء من أناه
ويحضر في ذاته، ينعتق من صوره عن الواقع ويحضر في الواقع. هي اللحظة
التي يكون فيها الفعل فعلاً كليًا يوصف لاحقًا بالمبهِج والحقيقي من
أثره على الفاعل وعلى من حوله من أشياء وأشخاص. كل إنسان اختبر هذه
اللحظة وما الحنين إلى الطفولة وعشقها إلا حنين إلى أنفسنا عندما كنا
في قلب الحياة الحقة، أحرارًا من التحكم القاسي الذي استولى علينا فيما
بعد بفعل التربية، أحرارًا من الحكم الفكري الثنائي حول الصالح والطالح
عندما يتعارض هذا الفكر مع الصالح والطالح الحقيقي الذي يعرفه كلٌّ
منا. الخير كالجمال كالفعل التجديفي العظيم يمرُّ بلا ثقل في العالم،
إنه يحرر العالم من ثقله، يرمي كل موازين الفكر ومبرراته حتى تصبح
الحركة رشيقة مكتملة اكتمالَ انحناء غصن أو سقوط ورقة ميتة عن أمها.
وكما لكلِّ فعلٍ أثرٌ موجيٌّ مستمر يتداخل ويترابط مع الأفعال الأخرى
بما يخلق شبكة تعقيد هائلة عبَّرت عنها الفيزياء الحديثة التعبير
الأمثل في مبدأ الريبة (هايزنبرغ)
بدلاً من الحتمية التي يعتاش عليها الفكر والدين والأيديولوجيا،
الحتمية التي يعتاش عليها مبدأ الوصايا والوصاية، مُقيِّدًا الفرد
بمنتجه وحاكمًا عليه به؛ فإن للفعل التجديفي أثره أيضًا الذي يدخل في
شبكة الحياة المعقدة إلا أنه أثر يُوقظ الوعي لا ينيِّمه، يُفتِّح
الفرد لا يغلقه، يبني العلاقة مع العالم لا يقيد العالم بالوصف. تدل
على هذا الفعل البساطة والحب والابتسام، تدل عليه السعة والهدأة
والجمال، يدل عليه الآخرون بما يصل إليهم من كل ما سبق.
في هذا الفعل لا يكون التأمل انعزالاً ولا الانخراط في العالم نفيًا،
ومن طبيعته دمج الاستمرار والقطع معًا، فهو فعل فيه ما يجعله لحظيًا
متفردًا كمثل قمة موجة يستوي الماء قبلها وبعدها، وفيه ما يجعل هذه
الفرادة مستمرةَ الأثر كمثل حركة الموجة السابقة ذاتها.
في لغتنا العربية يشترك في التجديف الحركةُ والكفرُ ويختلفان في حرف
الجر؛ فـ"جدَّف بـ" كفر و"جدَّف" سَيَّر في إحالة إلى الفكرة المكررة
عن أن أية مشاركة في الفعل الكوني من قبل الإنسان الفاني هي مشاركة في
الخلق والخلق خلق الله فقط لا غير، وإذا تجاوزنا صالح وطالح العقيدة
التي هي في جوهرها جثة الحيِّ التي تم تحنيطها سنفهم كيف يكون قسر
الإنسان على التقولب أساس العقيدة وكيف يكون كسر هذا التقولب أساس حرية
الإنسان. الحياة دون خلق متجدد هي تكرار منظم لنموذج مشوَّه نراه في كل
مكان أقام فيه الإنسان نظامه الاجتماعي والديني والسياسي والاقتصادي
حتى الآن، لا فرق بين مجتمع متدين أو علماني، فالتراتبية هي ذاتها
والهيمنة هي ذاتها والقولبة هي ذاتها رغم اختلاف مستوى الحقوق الفردية
بين المجتمعين، ولهذا تدور المحاججة القائمة على المقارنة بين
المجتمعين في حلقة مفرغة لا تنفع أحدًا ولا تقوم إلا في إطار الفعل
الصغير ورد الفعل، بعيدًا جدًا عن الفعل الثوري الجامع الذي نتحدث عنه،
الفعل الذي يقوم على منطق جديد يعبر عنه منطق الثالث المشمول الفيزيائي
الفلسفي[3]،
والذي يسعى إلى العلاقة واستكشاف وجوهها لا إلى العكس المتمثل في تعزيز
الانفصالية وتسميك الأقنعة.
ماذا نفعل؟ أين نحن من كل ما يجري وقد بلغ الهَذْي حدًا يقف فيه المرء
عاجزًا عن الكلام، عاجزًا عن الصمت؟ إنَّ العالم الذي مرَّ في القرن
الماضي بحربين عالميتين قضى خلالهما الملايين من البشر وتشوَّه
الملايين سيجترُّ ما يُحدِثه من تعميمٍ للإرهاب بكل إشكاله زمنًا
طويلاً دون أن يُحدِث هذا الخطأ الواضح الفاضح في مسيرتنا البشرية أي
تغيير. إننا عالقون في شباكنا التي صنعناها من دمِّ وآلام الآخرين،
عالقون في المجازر التي تتحضر في العقل أولاً قبل أن تحدث في الواقع،
عالقون في نموذج فكري عنفي قائم على الهيمنة والتحكم والسلطة ونفكر في
الحرية والحق وتداول السلطة كحلٍّ سياسي ممكن دون أن نطالب أنفسنا بأي
تغيير يجعلنا نقترب مما ندعو إليه. إننا عالقون في عدم الاتساق، في نقض
البديهيات الإنسانية البسيطة التي يمكن اختصارها بجملة: "ما أنت عليه
هو عالمك"، ولا يمكن لأي تغيير حقيقي أن يحدث إن لم يحدث أولاً وأساسًا
في من يدعو إليه، في الفرد.
كتب جدّو كريشنامورتي عن هذا التحول الآني، اللحظي، المتحرِّر من الفكر
ونماذجه، اللازم للخروج من دوامة التكرار العنفي للماضي وتوقع نتائج
مختلفة. يقول:
نحن نتنازع على أفكار، فنسوِّغ القتل؛ في كل مكان من العالم نسوِّغ
القتل كوسيلة إلى غاية صالحة، وهو أمر في حدِّ ذاته لم يسبق له مثيل.
كان الشر، من قبلُ، يُعترَف به كشرٍّ، والقتل يُعترَف به كقتل؛ أما
اليوم فالقتل وسيلة لبلوغ هدف نبيل. القتل – قتل شخص واحد كان أم قتل
مجموعة من الناس – مبرَّر، لأن القاتل، أو الجماعة التي يمثلها،
يسوِّغه كوسيلة لبلوغ نتيجة تكون نافعة للإنسان. أي أننا نضحِّي
بالحاضر من أجل المستقبل – ولا تهم الوسيلة التي نستخدمها ما دام
قصدُنا المُعلَن هو جني نتيجة نحسب أنها نافعة للإنسان[4].
كتب فريتيوف كابرا عن هذه الأزمة بلغة العلم وعن المخرج الوحيد منها
وهو تغيير نظرتنا إلى العالم تغييرًا جذريًا:
أن الخطوة الأولى في التغلب على الأزمة هي الإقرار بأن الانقلاب
الثقافي العميق قد بدأ، في الواقع، يتم. ولهذا الانقلاب سمات عدة؛ وفي
صميمه نقلة نوعية في النظرات إلى العالم؛ نقلة من رؤية آلتية
mechanistic
للواقع إلى رؤية كلانية
holistic
وإيكولوجية. لقد هيمن النموذج الذي بدأ بالانحسار
على ثقافاتنا عدة مئات من السنين، أثَّر طوالها على نحو بالغ الشأن على
بقية العالم. وتتألف هذا النظرة إلى العالم من عدد من الأفكار والقيم،
من بينها الاعتقاد بأن الكون منظومة آلية مكوَّنة من لبنات بناء أولية،
والنظرة إلى الجسم البشري كآلة، والنظرة إلى الحياة في المجتمع كصراع
تنافسي من أجل الوجود، والاعتقاد بالتقدم المادي غير المحدود الواجب
إحرازه عبر النمو الاقتصادي والتكنولوجي، والاعتقاد بأن مجتمعًا تكون
فيه الأنثى خاضعة في كل مكان للذكر مجتمع يمتثل لقانون أساسي في
الطبيعة. لقد تبيَّن إبان العقود الأخيرة أن جميع هذه الافتراضات شديدة
المحدودية وتحتاج إلى إعادة نظر جذرية[5].
وتبقى الحجة القائمة في أن هذه الثورية الفكرية الإنسانية هي رفاهيةٌ
مثالية، وأن الإنسان يحتاج إلى ظرف موضوعي مناسب ليتمكن من الوصول إلى
أصل الخير في نفسه والتعبير عنه بمثل هذه النوعية من الحياة الخلاقة له
ولغيره؛ إذًا تبقى هذه الحجة-المشجب لرفض أية نقلة في عقل معتنقها،
قاصرةً عن تفسير كيف لم يتمكن الإنسان المرفَّه - على اختلاف درجات هذه
الرفاهية - من هذا بعد عقود تراكمت فيها الرفاهية والكسل والاستهلاك
والعطالة في نفسه عوضَ اكتشاف الخير وعيشه؛ عن تفسير كيف يكون الإنسان
الرازح تحت الحرب أكثر إنسانية من منظِّر الحرب ومبررها ممن يعيش
بعيدًا عن القتل اليومي متجاهلاً التشوُّه الحاصل يوميًا في الأجساد
والأرواح ليُبرِز الثأر ويعلي من شأنه تحت قناع العدالة.
إننا مطالبون اليوم ونحن نعيش هذا الهذي الدموي المخيف أن نعي مكمن
الخطأ، أن نتوقف عن إعادته والترويج له؛ مطالبون باكتشاف الحب: حب
أنفسنا وحب الغير؛ مطالبون بكسر قيد الثنائية الأخلاقية عن الخير والشر
كما هي عليه، وتقسيم البشر وفق طوائفهم أو ثقافاتهم إلى أخيار أو أشرار
مع تجاهل الشرِّ الفعلي الكامن في هذه الانفصالية وفي هذا التقسيم؛
مطالبون بالتجديف الذي هو نقضٌ للعطالة، ونقضٌ لأقنعتنا وهي تتمرأى في
مراياها المصطنعة دون أن ترشح قطرة ماء واحدة من الاثنين.
*** *** ***