"ظل الأفعى": عن زمن الأسئلة في بلاد الإجابات
حربي
محسن عبدالله
أن
تضيف جديدًا من المعرفة، وأن تساهم في التراكم المعرفي لدى القارئ، في
الوقت الذي يستمتع فيه باللغة وبمجازاتها واستعارتها،
يعني أنك تنقله بين أشجار غاباتها برشاقة القرود وطيران بعض السنجاب
الأذكى ومهارة القطط بالتشبث بمخالبها المخفية وهي تتسلق للأعلى. ويعني
أيضًا أنك وصلت وتواصلت مع القارئ الحصيف الذي يميِّز بين اللغو
والحشو، ويفرِّق بين الاختصار والابتسار، ويدرك لطيف العبارة، ويشير
إلى الإسفاف - إن حصل- في الجملة المختارة. يعني أنك أدخلت القارئ
طرفًا فاعلاً ومتفاعلاً مع الأحداث التي تكتب، خصوصًا إذا كان الذي
تضعه بين يديه، رواية. الأمر الذي يثير الاهتمام هو البحث أصلًا عن
مدارات جديدة للمعرفة ومسارات صالحة للوصول إلى تلك المدارات والمساهمة
فعليًا في التفاعل، فليس ثمة معرفة غير خاضعة للتفاعل يمكنها الصمود
أمام شلال الأسئلة اللامتناهية. بين أيدينا رواية على صغر حجمها الذي
لا يتجاوز مئة وبضع وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، إلا أنها تضعنا تحت
سيل من المعرفة اللغوية والتاريخية والأسطورية دون أن تنسى في طريقها
التوقف عند ملمح صوفي هنا وبيت شعر هناك، توظفها لخدمة مسارها الممتع
والمثير والمشحون بعدة مستويات من الخطاب الذي تريد أن تقوله. ظل
الأفعى ليوسف زيدان، تكرِّس الحب مفهومًا أنجبتْ به الأنثى العالم،
لتؤكد على أصالة الأنثى، رغم أنها حظيتْ بنصيبها من التقديس والتدنيس.
ولأن الإنسان الأول في أزمنة الحضارات الأولى كان يعتقد أن الدم هو
السائل المقدس الذي يرقى لأن يُراق على مذبح الآلهة. ولأن الأنثى تريقه
من باطنها بانتظام، كل شهر، فهي بطبيعتها مرتبطة دومًا بهذا الفعل
المقدس. لكن أول ما يتبادر لذهن القارئ هنا هو السؤال التالي: لماذا
الأفعى؟ وماهي رمزيتها؟ والجواب نجده في ثنايا الرواية بدءًا بتعريف
الأفعى واستطرادًا بحكايتها التاريخية كرمز وضعتها الأنثى أولًا في زمن
التقديس قبل أن تنزلها التوراة الذكورية من عليائها لتضعها هي والأنثى
في خانة التدنيس. من أشهر مترادفات الأفعى هو لفظ الحيَّة "وهو اللفظ
الذي اختاره كل مَن ترجموا التوراة إلى نسختها العربية". والأفعى في
متون لغة العرب: نوعٌ من الحيَّات، سُميتْ بذلك لأنها تلتَّف ولا تبرح
مكانها. تمتاز الحية في وعي العرب اللغوي، بأنها مشتقة من (الحياة)
ومنها سُميتْ أم البشر، بحسب اعتقادهم: حواء. وللحية والحيا في العربية
معانٍ كلها خطيرة ودالة. المعنى الأول، الألصق بالمرأة، هو أن الحيا
فَرجُ المرأة وفي لسان العرب: الحيا فرج الناقة. والحيُّ فرج المرأة،
وحية وحواء وحيا، ألفاظ اقتربت أصولها ومعانيها. والحيا أيضًا المطر
والخصب. الرواية بأبطالها الذين لا يتجاوزن أصابع اليد الواحدة عدًا،
تحكي عن صراع بين العادي المبتذل والطموح، بين التقليد والتجديد، بين
من أعتاد أن يزحف بطينه الرغائبي والغريزي على الأرض ومن يطير بأجنحة
العقل والروح إلى سماء المعرفة. تؤكد على أن "المكان الذي لا يؤنَث لا
يعوَّل عليه" كما يقول الشيخ الأكبر وسلطان العاشقين محي الدين بن
عربي، الذي يستشهد به الكاتب. من هنا يكون الانطلاق نحو الإرث الأنثوي
الذي تزخر به الأساطير البابلية والمصرية والإغريقية.
من أول جملة في الرواية وهي (آخرتها إيه يا عبده ياغلبان) إلى دراما
الأحداث التي تتوالى ندرك أن ثمة هوة تتسع رويدًا رويدًا بين عبده
وزوجته سليلة الحسب والنسب حفيدة الباشا الذي أغفل الكاتب أسمها لصالح
"نواعم" وهي صفة أحب عبده أن يطلقها عليها لأسباب تخص النعومة التي
تلفها من رأسها حتى القدم "فكل شيء فيها ناعم". لنصل إلى نقطة اللاعودة
التي وصلت إليها العلاقة بين الطرفين وذلك بسبب وصول خطي الحياة لديهما
إلى التوازي. عبده محدود الطموح الغارق في توقه وشوقه للجسد النواعم،
والأنثى التي اجتاحت خلاياها ترنيمة الآلهة القديمة:
أنا
عشتار
النار الملتهبةُ التي استعرتْ في الجبال
الاسم الرابع من أسمائي الخمسين المقدسة، هو:
نار المعركة المحتدمة
فاجعلني، وحدي، كخاتم على قلبك... لأن المحبة قوية كالموت.
وعندما
شعرتْ
بالكون كلهُ يمورُ بباطنها، فأغمضتْ عينيها وغابتْ في أزمنةٍ سحيقة
شعرتْ بأمها، اشتاقتْ إليها، جرفها نحوها التياعٌ لا محدود.
ثم عرفتْ الأنثى أن سرَّ الإبحار في الأنوثة قد يكون بمجداف أي رجل،
وعرفتْ أن النقطة/السرَّ، إنما هي بداخلها. من هنا تتفجَّر الأسئلة
بدءًا من سؤال: "منْ عبده أو عبودي هذا؟". ولِمَ الصبر على كل ترهات
الذكورة الغبية الطامعة والطامحة لإشباع رغائبها وشهواتها على حساب
الأنثى روحًا وجسدًا وعقلًا حتى الأسئلة الكبرى عن الحياة والموت
والانعتاق والحرية، وعن الإرث الذكوري والتراث الأنثوي المطمور تحت كم
هائل من الأكاذيب والتناقضات الذكورية التي لم تجلب سوى الحروب والدمار
والرغبة في السيطرة وفرض السلطة بالقوة الغاشمة. تنتقل بنا الرواية في
لحظة الخلاف الذي قطع كل حبال الوصل بين الأنثى النواعم وعبده، إلى
رسائل الأم التي طردتها حياة الباشا جد ابنتها خارج الدائرة المغلقة
المحافظة للتقليد ما أن وضعتْ جلد الأفعى في نعش زوجها. تلك الرسائل
التي تشكل المسار الأهم للرواية لما تحويه من معارف كانت الأم النائية
تزق بها ابنتها من بعيد. تلك الرسائل التي تطرح أسئلة لا تمتلك بلاد
الإجابات الجاهزة ردًا عليها. بداية نجد سؤالًا هامًا هو كيف يئد العرب
الأنثى التي عبدوها قبل الإسلام فاللات أنثى ومناة أنثى؟ وكيف يستقيم
أمر كهذا مع ما ورد في القرآن؟ ثم تنقلنا الرسائل إلى ملاحم الأمم
القديمة لتتوقف عند نصوص خالدة بابلية وفرعونية ويونانية. لتناقش بعض
ما ورد في ملحمة تُكرَّس لأكاذيب تراكمت وشكلتْ في النهاية وعيًا
زائفًا يقلب الحقائق، عبر واحد من البحوث التي قامتْ به الأم ونشرته
بلغات عديدة، غير العربية، تحت عنوان أثار وقتها حفيظة الكثيرين (كما
جاء في رسالة من الأم لابنتها)، جاء العنوان على الشكل التالي:
الحرب وتحولات
الأنوثة من المقدَّس إلى المدنَّس!
وهي التحولات التي رصدتْ بداياتها في سومر القديمة، الحضارة المجيدة
التي انتهت نهاية رخيصة، وربطتْ أدبياتها المتأخرة لأول مرة في تاريخ
الإنسانية، بين المرأة والأفعى والشيطان... وهو ما تلقفته اليهودية من
بعد، وأذاعته في (سفر التكوين) أول الأسفار الخمسة بالعهد القديم.
وهكذا تزحزحت الإنسانية عن (الإنسانية) التي امتدت ثلاثين ألف سنة
سابقة، ليتم خلال ألف سنة تالية لاندثار سومر، عمليات معقدة تم خلالها
الانتقال التدريجي من اكتشاف الزراعة، إلى الاستيطان، إلى الحياة
الزراعية الواسعة؛ فتراكمت الثروة... ومن الإتاحة الجنسية، إلى الأسرة
النواة، إلى العائلة الممتدة ونظام القرابة، فتأكدتْ هرمية السلطة...
ومن الحماية والدفاع، إلى المبادرة لدرء الخطر، إلى استدامة الجيوش
الغازية وإعلاء العسكرية باسم حماية أمن وثروات الجماعة. وبهذه الجدلية
الثلاثية، انتقلتْ الإنسانية يا ابنتي، من روح الحضارة الأنثوية، إلى
أزمنة السيادة الذكورية... انتقلت من الولادة إلى الإبادة.
ختامًا نود الاشارة إلى أن الرواية دعوة لطرح الأسئلة عبر مستويات
متعددة وليستْ معنية تمامًا بالإجابات الجاهزة التي تبلدتْ من فرط
تكرارها وغادرتها الحياة لفقدانها للروح منذ أن أزيح الأصل لحساب
الصورة.
*** *** ***