|
المقدَّس/أفول المقدَّس٭
تشير الكلمة اللاتينية sacer التي اشتق منها مصطلح sacred (المقدَّس)، إلى التمييز بين ما هو متعلق بالآلهة وما لا علاقة له بها. وفي أسلوب ليس بالبعيد عن هذا، فإن الأساس العبري لكلمة k d sh التي تترجم عادةً بـ Holy "القدسيّ"، يقوم على فكرة الفصل بين المقدَّس والمدنَّس فيما يتعلق بالإلهي. أيًا كان التعبير المحدَّد للمقدَّس، فإن هناك تقسيمًا ثقافيًا شاملاً إلى حدٍّ ما يشكل المقدَّس وفقًا له ظاهرةً مميزةً ومبجلةً ومختلفةً عن كل الظواهر الأخرى التي تشكل المدنس أو الدنيوي. مع ذلك، فإن هناك اعتقادًا قديمًا في الديانة الهندوسية يرى أن كلاً من المقدَّس والنجس ينتمون إلى مقولة لغوية واحدة. وهكذا، فإن الفكرة الهندوسية عن التدنيس ترى بأن المقدَّس وغير المقدّس ليسا بالضرورة متضادين تمامًا؛ بل من الممكن أن يكونا في مقولتين مترابطتين؛ فما هو طاهرٌ بالنسبة لشيء ما قد يكون نجسًا بالنسبة لشيء آخر، والعكس صحيح. إن اهتمام علماء الاجتماع بدلالة المقدَّس الاجتماعية مستمد بشكلِ كبير من مسائل علم اجتماع الدين الذي هو أحد فروع علم الاجتماع. وعلى أي حال فإن هناك خلاف كبير حول الأصول الاجتماعية الدقيقة لما يُدعى بالمقدس. من هنا، فإن فهم المقدس يرتبط بقوة عادةً بمجموعة محدَّدة من تعاريف الدين نفسه، وبعملية تصنيف بعض النشاطات الاجتماعية بوصفها نشاطات دينية، وبمقاربات اجتماعية خاصة للموضوع. إن مثل هذه الاعتبارات قد أكدت فيما بعد أن التصورات الاجتماعية لما يُكوِّن المُقدَّس كظاهرة اجتماعية تخضع لتغير دائم وتؤدي إلى تشعب في طبيعة الفكرة. ليس البحث في التصور الثقافي للمقدس حكرًا أبدًا على ميدان علم الاجتماع. هكذا فإن نظرية التحليل النفسي والأنثروبولوجيا قد قدمتا كذلك اسهاماتهما الفريدة الخاصة التي نادرًا ما كانت تلتقي مع التصورات الاجتماعية السابقة. فمن ناحية اعتبارات التحليل النفسي، تمت مناقشة المقدس في نظرية فرويد عن الطوطمية كما أن المُقدَّس كان محورًا رئيسيًا في تحليله المشهور للدين في كتابه الطوطم والتابو (1938). بالنسبة إلى فرويد، فإن الرابط بين الطوطمية والمقدس يبدو واضحًا في نواحي معينة من تطور الدين وقد بقيت آثاره في الأسطورة التاريخية والخرافة. يعتقد فرويد أن أسطورة أوديب ترمز إلى رغبة الابن في امتلاك أمه وقتل أبيه. فسر فرويد أضاحي الحيوانات المقدسة في القبائل الهمجية بأنها، في جزء منها، إعادة تشريع للقتل الأصلي للأب وفي جزء آخر تكفير عن ذلك حيث أن الحيوان الطوطمي هو البديل الرمزي للأب أو للذكر المسيطر. إلا أن فرويد يعتقد أن التضحية تخسر قدسيتها في مجتمعات أكثر تحضرًا حيث يذبح الحيوان الطوطمي ويؤكل، وتصبح الأضحية بذلك هبةً للآلهة بدلاً من كونها تمثيلاً لها. أما في المصطلحات الأنثروبولوجية فقد حدَّد روبرتسون سميث (1889) الاختلاف الرئيسي بين التحريم البدائي وقواعد المقدَّس بوصفه اختلافًا بين الآلهة الودودة وتلك غير الودودة. إن الفصل بين الأشياء والأشخاص المقدَّسين والمبجَّلين من جهة وبين أولئك المدنَّسين من جهةٍ أُخرى، والذي يمثل جزءًا أساسيًا في العبادة الدينية، هو أساسًا كالفصل المُستلهَم من الخوف من الأرواح الحاقدة. في كلتا الحالتين يكون الفصل هو الفكرة الأساسية، الفارق الوحيد يتمثَّل في سبب الخوف، فالآلهة الودودة كالآلهة غير الودودة تُخيف أحيانًا. أكد روبرتسون سميث بأن التمييز بين المقدس والنجس يمثل ارتقاءً حقيقيًا على الهمجية. وبهذه الطريقة فإنه يقدِّم مقياسًا لتصنيف الأديان بوصفها أديانًا "متقدمة" أو "بدائية". فإذا كانت بدائية، فإن أحكام القداسة وأحكام النجاسة تكون متعذرة التمييز؛ أما إذا كانت متقدمة، فإن أحكام النجاسة تختفي من الدين. في الوقت الذي كانت فيه بعض النظريات الأنثروبولوجية المبكرة حول طبيعة المقدس تساهم في التنظير الاجتماعي، فإنها كانت قد تأثرت بشدة واحدة تلو الأُخرى بعمل دوركهايم. في الفصل الافتتاحي لكتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية (1915) لخص دوركهايم التعاريف السابقة للدين ورفضها. فقد رفض تعريف تايلور (1903) "الجوهري" للدين بوصفه "الإيمان بالكائنات الروحية". إذ ارتبط هذا التعريف بوضع تايلور للأصول الدينية في نسقٍ للتفكير كان يسميه بـ"الأرواحية" أي الإيمان بأن كل الأشياء، عضويةً كانت أو غير عضوية، تحتوي روحًا أو نفسًا تدمجهم بطبيعتهم وبصفاتهم المقدسة الخاصة. أصر دوركهايم على أن هذا التأكيد كان خاطئًا كونه أهمل الممارسات، أي الجوهر الحقيقي للدين، والتي هي أكثر أهميةً من الاعتقادات. كما رفض دوركهايم افتراض ماريت بأن يكون جوهر الدين تجربةً لقوَّة أو لطاقة غامضة خفيَّة مقدسة مترافقة مع عواطف عميقة متضاربة من الرهبة والخوف واحترام الظواهر الطبيعية والتي تسبق عملية مَفْهَمة الأرواح، والآلهة، وما شاكل ذلك. ومن ثم مضى دوركهايم في تبني معيارين افترض أنهما سيوجدان متوافقين: التنظيم المشترك لدين الجماعة وفصل المقدس عن المُدنَّس. كان المقدس، بالنسبة إلى دوركهايم، هو هدف العبادة فقواعد الفصل بين الديني والدنيوي هي العلامات المميزة للمقدَّس، النقيض المباشر للمدنَّس. وفقًا لدوركهايم، كثيرًا ما يُصوَّرُ المقدس على أنه كيانات دينية مجردة، لكن هذه هي مجرد أفكار جمعيَّة وتعابير عن الأخلاقية الجمعيَّة. علاوةً على ذلك، فإن المقدس يحتاج لأن يُدّعَّم بشكل مستمر بالموانع؛ فيجب النظر إلى المقدس دائمًا وكأنه ناقل للعدوى لأن العلاقات معه مقيدة بشعائر الفصل والتحديد وباعتقادات فحواها خطورة تجاوز الحدود المحظورة. قدَّم دوركهايم تعريفه "الوظيفي" الخاص للدين الذي وصل إلى حدود التمييز بين المقدس والمُدنَّس، فكان الدين برأيه "نظامًا موحَّدًا من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء مقدسة، أي أشياء يجري عزلها وتحاط بشتى أنواع التحريم، وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين بها في جماعة أخلاقيّة واحدة تُدعى الكنيسة" ( دوركهايم 1915: 47). ولذلك، فإن المعتقدات والممارسات المتعلقة بالمقدَّس هي العوامل المحدِّدة لكل الأديان. أفسحت طريقة دوركهايم الاستنتاجية المجال لامتحان ما اعتبره الدين الأكثر بساطة وبدائية، ذلك هو دين سكان استراليا الأصليين، والذي يعتقد بأنه سيزودنا بأفكار ثاقبة حول أصول الدين التي هي اجتماعية أساسًا. قدَّم دوركهايم وصفًا لتنظيم القبيلة في مجتمع سكان استراليا الأصليين وكذلك لارتباط كل قبيلة بطوطم مقدس سواء أكان من الأنواع الحيوانية أو النباتية. لقد تم تجسيد هذه الطواطم بصور أسلوبية رُسمت على أحجار أو أجسام خشبية تدعى churingas والتي كانت مقدسةً هي أيضًا لأنها تحمل تمثيلاً للطوطم المقدس. ففي تجمعات السكان الأصليين كانت الأحجار أو الأجسام الخشبية التي تدعى churingas محاطة بالمحرَّم وتُعامَل بأقصى الاحترام. ألحَّ دوركهايم في أن هذه الرموز الطوطمية هي شعارات للقبيلة تمامًا مثل العَلم بالنسبة لبلد ما. في شعائر السكان الأصليين تُعتَبَر Churingas من أكثر الأشياء قداسة فهي الشكل الخارجي المرئي للمبدأ الطوطمي أو الإله. حاجج دوركهايم بأنه لا يجب أن نفهم ببساطة أن الأشياء المقدسة هي تلك الأشياء التي تدعى الآلهة أو الأرواح – كالصخرة، أو الشجرة، أو النهر، أو الحصاة، أو المبنى – التي كثيرًا ما كانت قدسيتها تقاس بمقدار ما كانت تَعْرض من الصفات المقدسة المتأصلة فيها. إن الطوطم هو شعار القبيلة، لكنه أكبر مما تمثله الـ churingas. فهذه الأخيرة هي رمز للمقدس وللمجتمع بنفس الوقت، وعليه فإن المقدس والمجتمع هما شيء واحد. وهكذا، فإنه عبر عبادتهم للإله أو للطوطم، فإن البشر يعبدون المجتمع – وهو الهدف الحقيقي للتبجيل الديني. إنها علاقة خضوع وتبعية. وحاجج دوركهايم بأنه من الأسهل للبشر أن يجسدوا ويوجهوا مشاعر الرهبة نحو رمز ما على أن يوجهوها نحو شيء معقد كالقبيلة وهذا ما يعطي الرمز الروحي، وحتى المجتمع، خاصيته المقدسة. كما استكشف دوركهايم كيفية اشتراك البشر في المقدَّس: يقوم أعضاء المجتمع، على أحد المستويات، بالتعبير عن إيمانهم بالمعتقدات والقيم المشتركة ففي الجو المشحون جدًا بالعبادة الجماعية يكون تماسك المجتمع أقوى. إن أعضاء المجتمع يعبِّرون، ويتواصلون، ويعترفون بالروابط الأخلاقية فيما بينهم، لكن بنفس الوقت وبما أنهم أعضاء في قبائل لها طواطم مقدسة ويعتقدون أنهم ينحدرون من مثل هذه الطواطم، فإنهم مقدسون أيضًا. من خلال التمثيل الطوطمي لما ينتمون إليه، فإنهم بمعنى ما من نفس جوهر الأنواع الطوطمية، وبالتالي فهم مقدسون. ينطبق هذا الشيء على نسق الأفكار الطوطمي، فبما أن كل الأشياء مرتبطة بطوطم قبيلة أو بآخر، فإن الظواهر الطبيعية كالمطر، والرعد، والغيوم تصبح مقدسة كذلك. في الطوطمي تتشارك القبائل بمبدأ عام وهو أنها جزء من قوة غير شخصية مجهولة تكوِّن المجتمع بوصفه كلية أكبر من أجزائه وله خاصية مقدسة. هذه القوة غير الشخصية تمتلك خاصية خفية معينة تتعلق بالطوطم وبالوحدة وبالوعي الاجتماعي الذين تمثلهم. هذه القوة قد يوضحها اللفظ البولينيزي mana الذي يقابله لدى القبائل الهندية لأمريكا الشمالية فكرة orenda، وفي بالفارسية القديمة maga. ثمة مشكلات عديدة كثيرًا ما تطابقت مع تعريف دوركهايم للمقدَّس. أولاً، إن تعريفًا كهذا هو مشتق من سياق غربي وهو لا يتلاءم بسهولة مع وجهات نظر عدد من المجتمعات غير الغربية لأنه يُلزم ثقافات متنوِّعة بمضامين مُحدَّدة. وهكذا، فإن إصرار دوركهايم على ارتباط الدين بالمقدَّس وتأكيده أن هذا المفهوم عام في المجتمع الإنساني هو أمرٌ عارضه بعض علماء الأنثروبولوجيا: فعلى سبيل المثال وجد إيفانس بريتشارد (1937) أن التمييز [بين المقدَّس والمُدنَّس الذي أجراه دوركهايم] هو غير ذي معنى في قبيلة أزوند Azunde التي قام بدراستها. وعليه فإن فكرة المقدَّس هي من ذلك النوع الذي قد يوجد في ذهن المُلاحِظ وليس بالضرورة في عامل الاعتقاد أو في العامل الاجتماعي. مع ذلك يمكن القول بأن التمييز يظل تصوُّرًا تحليليًا مفيدًا يستطيع علماء الاجتماع من خلاله العمل على دراسة الدين. أيًا يكن، تظل هناك صعوبات مع مثل هذه المنهجية حتى ولو كانت تمييزًا تحليليًا يُركِّز على المعيار الذي يميز المقدَّس عن المُدنَّس. يشير علماء الأنثربولوجيا إلى عدم جدوى مثل هذه المنهجية في التمييز بين مجالي المقدَّس والمُدنَّس في بعض المجتمعات على الأقل؛ ففي حين أن بعض الثقافات لديها أشياء تُعزل وتُحرَّم، إلا أن هذه الأشياء لا تتجلى دائمًا في المعتقدات والشعائر الدينية، كما أن الأشياء التي تظهر في المعتقدات والشعائر الدينية قد لا تكون معزولة ومُحَرَّمة بالضرورة. يتكلم دوركهايم أيضًا عن موقف الاحترام الذي يتطلَّبُه المقدَّس، إلا أن ذلك لا يقدِّم معيارًا ثابتًا عامًا، ففي العديد من الأنظمة الدينية لا تحظى الموضوعات والكيانات الدينية بالتبجيل دائمًا إذ قد تُعاقَب الأصنام، والآلهة والأرواح التي تمثلها، إذا لم تقم بالمساعدات المطلوبة منها. لقد دفعت مثل هذه الصعوبات بـ غودي إلى التخلي عن محاولة تعريف الدين انطلاقًا من المقدَّس. يؤكِّد غودي (1961) على أنه من غير المشروع أن يُقيم الباحث تعريفه للنشاط الديني على أساس تصورِ شامل لعالَم المقدَّس – تمامًا كما أنه لا يمكن تقسيم الكون إلى مجالي الطبيعي والخارق للطبيعي. رغم مثل هذه الانتقادات لتمييز دوركهايم بين المقدَّس والمُدنَّس، إلا أن عمله قد ألهم مدارس مهمة للفكر الأنثروبولوجي، فعلى سبيل المثال نظر رادكليف براون إلى طبيعة المقدَّس بوصفها عبادة مشتركة. ففي بحثه التقليدي سكان جُزر أندامان (1933)، كان براون متأثرًا بشدة بدوركهايم وتجلَّى ذلك في إصراره على أن الشعائر تعطي قوة تماسك اجتماعي تعوض عن الافتقار للبنية السياسية الموحَّدة. ورغم إدراك براون أن الشعائر ليست كلها مقدَّسة، إلا أنه رأى فيها فعلاً رمزيًا متعلقًا بالمقدَّس وهي تُعبِّر أساسًا عن عواطف اجتماعية. فمثلاً، تعبِّر شعائر التحريم المرتبطة بالمقدس عن أهمية محرمات الولادة بين سكان جزر الأندامان مؤكدة بذلك على أهمية قيمة الزواج والأمومة إلى جانب تأكيدها على الخطر على الحياة في أثناء عملية الولادة. هناك ملامح لهذا التأثر كذلك في عمل ماري دوغلاس التي وإن ابتعدت بدورها بشكل ملحوظ عن عدد من آراء دوركهايم الأساسية (دوغلاس 1966)، إلا أنها طوَّرت أيضًا بعض الأفكار الرئيسية لفرضيته. ومثل دوركهايم، عرَّفت دوغلاس المقدَّس والنجِس بوصفهما قطبان متعارضان، لكنها لاحظت أن المقدَّس في بعض الثقافات البدائية هو فكرة عامة جدًا تعني ما هو أكثر من المحرم بقليل. بهذا المعنى يصبح الكون مقسَّمًا بين أشياء وأفعال تخضع لقيود وأشياء وأفعال متحرِّرة منها. من بين مثل هذه القيود هناك ما هو موكَّل بحماية الإلهي من التدنيس، وهناك ما هو موكَّل بحماية الوثني من التجاوز الإلهي. وعليه فإن أحكام المقدَّس هي مجرد أحكام لحماية الألوهية، بينما النجاسة هي الخطر ذو الحدين الناجم عن الاتصال بالإلهي. رسخت دوغلاس المقدَّس بوصفه نقيضًا مباشرًا للنجاسة، فعلى الرغم مما يكوِّن كل منهما إلا أنها فهمت بأن هذا المُكوِّن محدد اجتماعيًا وبالتالي فهو يتنوَّعَ بين الثقافات. وبالنسبة إلى دوغلاس فإن الدين غالبًا ما يُقدِّس حدودًا مُرتبطة بالطعام، والجنس، واللباس إلخ، بوصفها حدودًا مُكمِّلة لأنظمة الطائفة، وعلاقة الأجناس، والجماعات المميزة. وأمثلة ذلك عدد من أحكام التدنيس في "المكروهات" كما لخَّصتها الكتب المقدسة اليهودية في سفر اللاويين التي ترافقت مع أشياء غامضة من قبيل: "وجَمِيعُ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَهَا ظِلْفٌ وَلكِنْ لاَ تَشُقُّهُ شَقًّا أَوْ لاَ تَجْتَرُّ، فَهِيَ نَجِسَةٌ لَكُمْ. كُلُّ مَنْ مَسَّهَا يَكُونُ نَجِسًا" (لاويين 11/26). هناك منظور قلما لوحظ في عمل دوركهايم شكَّل أيضًا دراسة في علم اجتماع المعرفة؛ فقد كان دوركهايم يرى أن المفاهيم الاجتماعية الأساسية ومقولات الفكر والزمان والمكان والسببية، بالإضافة إلى التمييز بين المقدَّس والمُدنَّس قد ولدت كلها في الدين بوصفه مشروعًا للجماعة. فمن خلال المعتقدات المشتركة والقيم الأخلاقية التي تشكل الضمير الجماعي، جُعِل النظام الاجتماعي ممكنًا وفُهم العالم الطبيعي والاجتماعي الذي أُعطيَ معنىً من قِبل أولئك الذين يشكلون المجتمع "المقدَّس". لقد دأب دوركهايم على إظهار كيف كان النظام الطوطمي نظامًا كوزمولوجيًا أيضًا وكيف أن مثل هذه المقولات الأساسية لها أصول ضمن الطوطمية وضمن بنية القبيلة. قدَّم بيتر بيرجر معالجة ظاهراتية أكثر صرامة للمقدَّس من قِبَل عبر سلسلة من الأعمال المؤثرة كُتبَت منذ أواخر الستينات (ومثال على ذلك: بيرجر 1967). يعتبر بيرجر أن الدين مستمد أساسًا من تفسير ذاتي للواقع تم من خلاله إعطاء معنى للعالَم (بما في ذلك العالَم الاجتماعي)، بل وللكون بأكمله. وهكذا فإن الدين هو أحد أهم الوسائل التي يقوم البشر من خلالها بتصنيف وجودهم وفهمه. إن مشروعًا كهذا هو مشروع جماعيٌّ وعبر تأسيسه لعالم المعنى، يدرك البشر "البنية المعقولة" للفهم التي ستعود بدورها لتدعم النظام الاجتماعي. إن هذه البنية المعقولة، وفقًا لبيرجر، تشكل "مظلة مقدسة" لا تتضمن فقط أنظمة المعتقد الديني بل أيضًا أفكارًا فلسفية عن الكيفية التي يوجد عليها العالم كما أنها تفرض المعرفة البديهية اليومية. وبقيامها بذلك، تدعم المظلة المقدسة هشاشة الوجود الإنساني، ولذلك، فإن الدين في معظم المجتمعات التاريخية قد ساعد في بناء وتشريع عالم المعنى وحافظ عليه كما وقدَّم أجوبة جوهرية عن أسئلة جوهرية. لقد تم الوصول إلى ذلك من خلال الإيمان بالقوى الخارقة للطبيعة التي أوجدت كل الأشياء بل وعملت على تشريع المؤسسات الاجتماعية من خلال إطار مرجعي كوني ومقدَّس. ولما كانت المظلة المقدسة مستمدة من قاعدة اجتماعية فقد اعتُبرت "حقيقيةً" وشرعيةً؛ إنها حقيقية وشرعية فقط في أذهان البشر الذين فهموها. وهكذا، من خلال أفكار المقدَّس كبنية غير محدودة المصدر، فإن أي نظام اجتماعي معطى يرى نفسه مركزًا للعالم وللكون. وفي وصف أكثر حداثة، يقدم دمراث (1999) مساهمة في نقاش العلمانية حيث يميز بين مفهومي الدين والمقدَّس. ويحاجج بأن الدراسة الاجتماعية للدين عملت لمدة طويلة تحت ضغط وافتراض مضلل لمفاهيم الدين، ولم تنشغل بالمقدَّس بما يكفي. وهكذا فهو يؤكِّد بأن على الدين أن يعرَّف "جوهريًا" بينما على المقدَّس أن يعرَّف "وظيفيًا"، وبهذا يُعالج التوتر طويل المدى في التعاريف السابقة لكلٍّ منهما. إن الدين وفقًا لدمراث هو صنف من أصناف النشاط، بينما المقدَّس هو بيان عن الوظيفة. ويلاحظ دمراث بأنه ليس للنشاطات الدينية نتائج مقدسة دائمًا وقد يكون ذلك على الأغلب لأن الدين يَعْرض مرارًا تعابير منظمة وأعباء بيروقراطية. مع هذا، فإن التعريف الجوهري للدين يقترح توجهًا نحو العالم الخارق للطبيعة ونحو أنظمة أخلاقية مفروضة "خارجيًا". على النقيض من ذلك، فإن "المقدَّس" هو نوع من الظواهر الاجتماعية غير الدينية، وفق المصطلحات التقليدية، على الرغم من أن الظواهر المقدَّسة قد تعرض لبعض الأوجه الدينية. ولذلك يرى دمراث أن الأديان "الشعبية"، و"الضمنية"، و"شبه الدينية"، و"القريبة من الدين" هي جزءٌ من "علم اجتماع المقدَّس"، وهي المفاهيم التي تضررت إلى حدٍّ ما من استعمال صورة تقليدية للدين ذات عواقب مؤسفة، كان أحدها هو تضييق نطاق البحث في المقدس ليتضمن تلك الأشياء ذات الملامح الدينية. هناك رموز وكيانات مقدسة تمتلك قوة إلزامية دون أن تكون دينية بالضرورة. ولما كان لأي نشاط اجتماعي وظائف مقدسة مُمكنة، فقد يكون هناك قائمة ضخمة لما يشكل المقدس في المخزون الثقافي لأي مجتمع. أفول المقدَّس إن أطروحة أفول المقدَّس التي بنيت على التجربة النفسية للمقدس ومقاييس انحداره، تتحرك في فضاء مختلف عن كثير من النظريات الأخرى للعلمانية التي – وفقًا للعلماء الذين يدافعون عن نظرية الأفول – تعطي أهمية أقل لمشكلة مستوى التجربة ومن ثم لحضور المقدَّس وتركِّز بدلاً من ذلك على التحليل البنيوي والثقافي. تنشأ نظرية الأفول من تعريف المقدَّس بوصفه تجربةً (موجودة عند كل الأفراد تقريبًا). وهذه التجربة المقدسة توجد عندما يتم إدراك مظهر من مظاهر الواقع بوصفه "مظهرًا آخر تمامًا" إذا ما قورن مع الواقع الطبيعي. وهناك شروحات متعدِّدة لتجربة المُقدَّس تختلف وفقًا للمجتمعات والثقافات. وقد اعتُبِرت هذه التجربة – المعاشة كواقع نفسي فردي وكنواة مركزية للتديُّن وللدين – على أنها المركز الذي تدور حوله حقائق وأفعال اجتماعية ذات دلالة دينيًا. إن المقدس، الحاضر (حضورًا قابلاً للقياس) بطرق مختلفة تتراوح بين علم النفس الفردي والحياة الاجتماعية، يتراجع إذا كان هناك انسحاب تدريجي من أشكال المقدس في التجربة الاجتماعية والفردية. تم تحدي هذه المقاربة عن طريق الادعاء بوجود دين خفي يتعالى على المعطيات العملية لممارسة الدين والقيمة الدينية للأحداث الاجتماعية ولذلك فإن أفول المقدس ليس إلا مجرد ظاهرة شكلية. تحاول هذه المقاربة دحض نظريات العلمانية المعترف بها على نحو واسع عن طريق الإدعاء بأننا لا نستطيع تجاهل (أو أننا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار بشكل كافٍ) التجربة الفردية للمقدس كتعبير عن الخصائص الحيوية والنفسية للرجال والنساء. يستند الافتراض النظري الأساسي للنظرية على حقيقة أن هناك علاقة صارمة ما بين التجربة الدينية (أو المقدَّس) من جهة والاحتياجات الإنسانية من جهة أُخرى. إن تحليل نظام الاحتياجات والطرق التي تتصعَّد بها عندما لا يتم إشباعها هو بهذا المعنى أمرٌ أساسيٌ بالنسبة للنظرية: كالأساس الجيني لحاجة الفناء، والحاجة لأن يُحِب المرء ولأن يُحَب (باعتباره لكلٍّ من الله أو الآلهة موضوعات وذوات للحب، يمكن للمرء أن يشبع حاجاته النفسية والجينية بأن يُحِب ويُحَب)، والحاجة لأن يعرف (وهو ما يدعى بالغريزة الاستكشافية)، والحاجة لإعطاء معنى. يحفز الافتقار إلى إشباع تلك الاحتياجات وغيرها من الاحتياجات النفسية الحيوية آليات التصعيد، بما في ذلك التصعيد الديني. يرى أولئك الذين يتبنون نظرية أفول المقدس أن النظريات التقليدية المتعلقة بأزمة الدين تتحرك بالدرجة الأولى ضمن الفضاء التحليلي للأنظمة الثقافية والدينية التي تكمن خلف التصعيدات، التي تُترجم فيما بعد بسلسلة من التأويلات للظواهر التي تناقض بعضها بعضاً في أغلب الأحيان ولهذا السبب يغدو من الضروري إحداث تحولٍ منهجيٍّ. في مرحلتها الأولى فسَّرت نظرية الأفول العناصر النفسية، لكن ربما ليس بشكلٍ كافٍ وذلك بسبب افتقارها إلى المعطيات التجريبية. وقد تعرضت صياغتها الأولية،التي تطورت بين عامي 1960-1961، للانتقاد. بعد عدة سنوات من النقاش وردًا على بعض هذه الانتقادات، أُدخل تمييز بين تجربة المقدس والاستعمال السحري له. وعلى أية حال، فإن هناك تحليلاً آخر (تم العمل عليه ضمن إطار علم نفس الدين) يبدو أنه يُصادقُ على إثبات الأطروحة الأساسية لنظرية أفول المقدس. يظل هذا الأمر صحيحًا بالنسبة لأوربا على نحوٍ خاص، ولكنه أقل صحة بالنسبة للقارات الأخرى التي كانت محمية من التغييرات المعبرة عن الثورة العلمية الاستهلاكية والتقنية. تغيرت الحالة خلال السبعينات والثمانينات مع التطورات الكبيرة في علم النفس التجريبي للدين التي جعلت التحقق من أطروحة أفول المُقدَّس أمرًا ممكنًا. سمحت الاكتشافات التجريبية لهذه الأطروحة بأن تترسخ حيث أن نطاقًا واسعًا من التجربة الدينية يوجد خارج الكنيسة، بل إن حضور التجربة الدينية – وذلك من خلال المعطيات المتاحة – يكون في مستوى عالٍ بين أولئك الذين يمارسون واجباتهم الدينية، ويكون أقل بين أولئك الذين لا يلتزمون بهذه الممارسات وهو أقل من الحالتين السابقتين بين اللاأدريين والملحدين. لقد تناقص في مجتمع اليوم – خاصة في أوربا والصين – عدد ممارسي الواجبات الدينية بشكل كبير جدًا، بينما تزايد عدد من لا يمارسها وكذلك عند اللاأدريين، وبذلك تناقص حضور تجربة المقدس عمومًا بشكلٍ خطير. والنتيجة أن أنصار أطروحة أفول المقدس يدَّعون بأن من الممكن البرهنة على نظريتهم ومن ثم فإن الأزمة التي نوقشت في أوائل الستينات تستمر على طول المسار نفسه. إن المنهجية التجريبية لعلم نفس الدين قد جعلت من الممكن قياس حضور التجربة الدينية وأدت إلى تحول منهجي ومنطقي في صياغة المشكلة وتحليلها. إن هذه المنهجية، وفقًا للكثيرين، هي أداة تحليلية قوية قادرة على إثبات النظريات، والبيانات، والاتجاهات والتي سيكون من الصعب فهمها وتحديدها بدون تلك المنهجية، كما أن من الممكن تعزيز الحجم (المتزايد) لأفول المقدس. وإذا كان التطبيق التجريبي لنظرية التدين الإسلامي غير مكتمل في الوقت الحاضر، إلا أن بعض الاكتشافات البسيطة تجعل من المعقول نشوء ظواهر مشابهة لتلك التي وجِدت في أوربا وغيرها من البلدان المتطورة. ترجمة: ريم النبواني *** *** *** ٭ The Blackwell Encyclopedia of Sociology (2007), Sacred by Stephen Hunt, Eclipse of Sacred by Sabino Acquaviva.
|
|
|