|
مات الإله٭
ما معنى كلمة الإله في عبارة "مات الإله"؟ لا يمكننا في هذا الصدد الانطلاق من أي بداهة للإجابة عن هذا السؤال. لا يمكننا ذلك خصوصًا إذا كان الإله قد مات فعليًا. وكما يحدث مع الموتى الذين لم يعد قبرهم إلا شاهدة ممحية أو متربة، فمن المحتمل أن ذكرى هذا الذي يتعلق به الأمر تحت اسم "الإله" متوارية ومبددة ومهملة. هنا على أية حال يكمن الفرق كله بين مقولة "الإله غير موجود" والمقولة التاريخية والواقعية "مات الإله". المقولة الأولى، على شكل نظرية (كقولنا إنه لا وجود لعدد صحيح يعبر عن العلاقة بين ضلع المربع وقطره)، تفترض أن الإله عبارة عن مفهوم، ونظرية عدم وجوده التي يمكن البرهنة عليها بشكل لامتناه تعيد المعنى لهذا المفهوم في كل مرة. في المقابل تجعل مقولة "مات الإله" من الإله اسم علم، كما نقول عن الجد كاسمير دوبوا إنه مات، وذلك ربما من دون أن نفهم شيئًا خارج موته من هذه الفردية الحية اللامتناهية التي تنتظم تحت التركيب اللغوي المحكم "كاسيمير دوبوا". تزداد المسألة حدة عندما نعلم أنه يجب دعم مسألة موت الإله، إذا افترضنا أنه مات، بمسألة حدوث هذا الأمر منذ زمن بعيد. ربما حدث بعد رؤية القديس بولس، عندما قتلنا ما كان يشكل الحياة الوحيدة الحقيقية للإله، أي انبعاث المسيح الذي شكَّل الانتصار الفذَّ والحاسم المسجل أبدًا ضد الموت كصورة للذات وليس كموضوعية بيولوجية. على أية حال، يفرض عصر النهضة على الإله الحي التعددية المريبة للآلهة الميثولوجية التي سيقول عنها رينان مؤخرًا إنها لم تكن بهذا القدر من الحضور والعري في الفن الكلاسيكي العظيم إلا لكونها ملفوفة ضمن الكفن الأرجواني حيث تنام الآلهة الميتة. وإنْ لم يحدث هذا مع عصر النهضة فقد حدث مع غاليليه أو مع ديكارت. بالنسبة لديكارت، يضع الكونُ – الذي هو نوع من رسم رياضي مادي – الإله ضمن الانتظام الرياضي المرحلي للامتناهي الواقعي. وهذا يعني أن لا وجود للحياة إلا في الموت بمعناه الحرفي. وحدث مع فلاسفة عصر الأنوار الذين يرون أن السياسة هي من شأن البشر بلا منازع، فهي وجود محايث ينتج عن الممارسة وعلينا أن نستبعد منه كل لجوء إلى التنظيم الإلهي الكلي القدرة. أو حدث مع كانتور الذي يطرد الإله من تعيُّنه الموضعي اللانهائي ليقيم مكانه العدد والحساب. ربما يأخذ الإله وقتًا طويلاً في احتضاره، لكنْ لنعلم أننا ومنذ عصور عدة لم ننشغل إلا بالأشكال المتتالية لتحنيطه. لهذا فإن سؤال ماذا يمكن أن يكمن تحت اسمهِ يزداد غموضًا. و لن يسعفنا بشيء أن نعطي هنا الوظيفة لاسم الأب. كان فيورباخ يؤكد أن الإله مسيحي وكل تراكيبه لم تكن إلا إسقاطات للتنظيم العائلي ولرمزيته المؤسِّسة. إلا أن فيورباخ لم يستطع أن يقول هذا إلا لأن الإله كان قد مات مسبقًا، أو لأنه كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. إن هذه الأطروحة حول الإله أسهمت في عملية موته وفي نسيان ما كان يعيش تحت اسمه. فالمماهاة بين عمل اسم الإله وعمل اسم الأب ما هي إلا طريقة لإخفاء فردانية الإله الحي تحت اسمه وتحت نموذج العلم. هنا تكمن النقطة الحاسمة بما يخص المدى الذي تحمله مقولة "مات الإله". فهي بسيطة وصعبة في الآن معًا. تقال على النحو التالي: إن أكدنا أن "الإله قد مات" هذا يعني أن الإله الذي نتكلم عنه كان حيًا، أي كان ينتمي إلى مجال الحياة. وبالتالي فهو ليس مفهومًا أو رمزًا أو وظيفة دالة. هذه الكلمات أصبحت في هذه الحالة مهجورة، متناقضة وغير فعالة لأنه حينها لا يمكننا أن نلصق صفة الموت على الإله. هذا هو السبب في أن كل تصور لمسألة الإله وفق الرموز الأولية ينتهي باستنتاج أنه لم يمت، بل أنه خالد. وفي المآل، ومن وجهة النظر هذه، يقيم التحليل النفسي مع مسألة الإله علاقة غامضة. لهذا السبب وضمن خط فيورباخ (الاسم الرائع لواحدة من الوظائف حيث تزداد الرغبة حدة) فالتحليل النفسي يتابع الإماتة العلمية للتعالي. لكنْ، طالما أنه يفهم ثبات هذه الوظيفة وأن لا وجود لأي بنيان ذاتي يمكن أن يضع لها حدًا، فهي تضمن للإله ومن داخل موته المفترض ديمومة مفاهيمية لا سابق لها. نستطيع أن نعطي كبرهان تجريبي لهذا عدة محللين نفسيين حاليين وموهوبين، مثل فرانسواز دولتو أو ميشيل دو سيرتو، لا يرون أي تناقض حاد بين نسبتهم إلى فرويد وبين معتقدهم الديني. بل على العكس، وكما الأمر مع لاكان الذي لا يمكننا أن نتهمه بالمجاملة الإكليروسية، فقد كان يدعم النظرية القائلة بأنه من المستحيل تمامًا الانتهاء من الدين. إلا أن اعتقادي في هذه النقطة هو النقيض تمامًا. فأنا افهم هذه المقولة ("مات الإله") بمعناها الحرفي. هذا حدَثَ، أو كما يقول رامبو ذلك قد مضى، الإله انتهى. والدين أيضًا، هو كذلك انتهى. يوجد هنا – كما عبَّر بقوة جان لوك نانسي – أمر لا رجوع عنه. ومن الأهمية بمكان أن نفهم هنا بأي آلية ذاتية نرتبط كي نستطيع الظن بهذا القدر من السهولة أنه لم يحدث شيء من هذا القبيل. أي الظن أن الدين يزدهر، أو حتى كما جرت العادة أن نقول إنه يعود. لكن لا. لا شيء يعود، وعلينا ألا نثق بالأشباح. فالميت يترنح وحيدًا ومنسيًا في قبره المجهول والضائع. هذا بشرطٍ واحدٍ طبعًا: لا يمكن أن يموت من دون أي إمكانية لانبعاثٍ ما إلا إله حي. فماذا يكون الإله الحي؟ الإله الحي ككل حي هو من يجب على أحياءٍ أخرى العيش معه. هذا ما فهمه باسكال بعظمة. هذا الفيلسوف هو واحد من آخر المدافعين عن هذا الإله المحكوم. فالإله الذي يمكن أن يموت ليس ولا يمكن أن يكون إله ديكارت المفاهيمي المقيم في اللامتناهي، نقطة تلاقي الحقائق الرياضية مع كينونتها. ولا يمكن أن يكون ضمانة الأحكام تحت شكل الآخر العظيم. إنه إله إسحاق وإبراهيم ويعقوب، أو هذا المسيح الذي يتحدث مباشرة إلى باسكال في حديقة الزيتون الداخلية. الإله الحي هو على الدوام إله شخصٍ ما. الإله الذي يتقاسم معه شخص ما (اسحاق، بولس، يعقوب أو باسكال) قدرة العيش في الحاضر المحض لانتشاره الذاتي. وحده هذا الإله الحي هو من يُغذي عقيدة دينية على وجه الخصوص. على الذات أن تكون على علاقة به كقدرة خبيرة في الحاضر. يجب أن يُقابَل، وأن يُقابَل انطلاقًا من ذاته. كما الأمر مع إله كيركجارد – مدافعٌ آخر متأخر عن الإله المحتضر – عندما يعلن في محنته مع شعور اليأس: في صلتها بذاتها، وهي تريد أن تكون ذاتها، تغوص الأنا من خلال شفافيتها الخاصة في القدرة التي أوجدتها. أن يكون الإله قد مات هذا يعني ما يلي: إنه لم يعد ذلك الحي الذي نستطيع لقاءه عندما يغوص الوجود في شفافيته الخاصة. وأن يصرح هذا أو ذاك إلى الصحافة أنه رآه تحت شجرة أو في معبد صغير نائي لا يغير في الأمر شيئًا، لأننا نعلم علم اليقين أنه لا يمكن لأي فكر أن يدافع عن حقوقه انطلاقًا من هذا اللقاء، بالقدر ذاته الذي لا يمكن أن نعطي فيه للذي يرى أشباحًا أكثر من الاعتبار الإيجابي لظهورٍ طيفي. بهذا المعنى علينا إعلان أن الدين قد مات أيضًا، وأنه حتى ولو ظهر بكامل قدراته، فهذا ليس إلا لينوب عن حفل التأبين حيث يحضر الموت بقوة. ما تبقَّى ليس الدين وإنما مَسْرَحُهُ. ففي المسرح فقط – كما في هاملت – تظهر الأطياف فعالة. في هذا المسرح العنيف بعض الشيء يُمثَّـل لنا ما نتخيله عن الدين وماذا يمكن أن يحدث إذا كان الإله الذي لا نعلم عنه شيء لم يمت بعد. تتغذى الاعتراضات الشائعة ضد فكرة الموت الحقيقي للإله الحي من منبعين اثنين. أولاً، من مذهب المعنى، وثانيًا، من المتطرفين الذين يعملون على بث عقيدة عودة الديني. لا أعتقد أن هذه الاعتراضات سديدة. مما لا شك فيه أن إحدى وظائف الدين هي إعطاء معنى للحياة، وبشكل أخص إلى ظلها الملازم: الموت. لكن ليس من الدقة القول أن كل منح للمعنى يكون دينيًا، أي يتطلب وجود إله حي، وبالتالي إله قادر على الموت تاريخيًا. في هذه النقطة يجب التمييز بين ما تشير إليه كلمة الإله في المقولة "مات الإله" من ناحية أولى (ذلك الذي يتعلق بمسألة الدين)، وبين ما تشير إليه هذه الكلمة في الميتافيزيقا التأملية من ناحية أخرى. في هذا الصدد تأتي أطروحة كانتان مياسو المهمة (اللاوجود الإلهي) والتي برهنت، لغايةٍ أنطولوجية وأخلاقية وبأصالة غير معهودة، أن إله الميتافيزيقا كان على الدوام القطعة الأساسية لآلة الحرب العقلانية ضد إله الدين الحي. بالنسبة للميتافيزيقا، لا يتناسب معها (كما كان باسكال يعترض على ديكارت) إلا إله ميت، إله ميت مسبقًا ومنذ الأزل، إله لا يمكن لأي دين أن يستخدمه منبعًا لإيمانه حتى ولو حاول هذا الدين – ليروض بذلك النفس الشغوفة بالعقل – الإعلان عن نفسه باعتباره لا يتناقض مع فكرة الإله الميت. وهذا بالطبع غير صحيح، لأن الخطر الذي يمكن أن ينتج عن الدين هو في جعل الإله حيًا بحيث نستطيع العيش معه وبالتالي إنتاج معنى للحياة الكلية وبضمنها الموت. بينما يكمن الخطر الميتافيزيقي في ألا نفهم من كلمة الإله إلا الرسوخ الحاسم لمفهوم، والانطلاق من هذا الرسوخ لضمان أن للحقائق معنى. إن كلمة الإله متعددة المعنى لما يشمله، بما هو حي، من معنى كلي للحياة، وبما هو ميت مسبقًا ودائمًا، من معنى ممكن للحقائق. بما يخص الإله، يصحُّ القول إن الدين يبعث فيه الحياة والميتافيزيقا تسلبها منه. بدأت الإماتة الميتافيزيقية الضخمة بوضوح منذ الإغريق. صحيح أن هذا العمل ارتهن بمنح المعنى وجعله شموليًا، لكن – خلافًا لكيركجارد الفيلسوف المضاد – تمَّ ذلك من خلال اختزال كل انفعال وكل خوض وجودي في هذا المنح. إن إله أرسطو في هذا الخصوص نموذجي إذا نظرنا إليه من ناحية الميتافيزيقا، فهو الوجهة القصوى للحركة باعتباره المحرك الأزلي الذي لا يتحرك. لكن من سيتوقع أن الحياة يمكن أن تكون سكونًا أزليًا؟ هذا هو تعريف الموت، بالإضافة إلى أن إله أرسطو يحرك الأشياء جميعها ليس بفعل نفعي أو بتبادل ذاتي وإنما عبر الانجذاب التام لسموه الفائق. وبالتالي فإن هذا الإله يبقى لامباليًا بالأشياء التي يحركها. من يستطيع القول إن هذا الإله اللامبالي والذي لا يتحرك هو إله حي؟ إذا نظرنا إلى هذا الإله من وجهة نظر الميتافيزيقا (إلا إذا كان إلهًا آخر، من يعلم؟) سنرى أنه باعتباره فعلاً محضًا ليس لديه من عمل آخر إلا التفكير بذاته من دون أن يكون هنالك أي سبب آخر ممكن ليفكر بشيء آخر إلا خالصيته الخاصة. هنا أيضًا يوجد ضربٌ من منح المعنى طالما أننا لا نستطيع حل تعقيدات نظرية الجوهر المركب الغامض كفرد من مادة وصورة أو من القول والفعل إلا بافتراض عقل مفكر منفصل عن كل مادة ومتصل بشكل كامل بكماله المحض. ذلك أن المبدأ الذي تنتج عنه الفردية – الذي هو إما فعل أو صورة – يجب في النهاية أن يُعطى كفردية مطلقة؛ كفعلٍ صادر عن فعله أو صورة منفصلة بشكل كامل. إن كلمة "إله" تختتم هذه التعقيدات وتجد لها حلاً سحريًا. بالإضافة إلى ذلك، ينظم هذا الحل المعنى على شكل برهان: برهان وجود الله والذي هو تمامًا النقيض التام لإثبات حياته. إن إله الميتافيزيقا ينشئ معنى وجوده وفق برهان بينما ينشئه إله الدين من خلال لقاء. ينتج عن ذلك أن موت إله الدين لا يؤثر في مسألة مصير إله الميتافيزيقا الذي لا صلة لهُ لا بالحياة ولا بالموت. مما يعني من وجهة نظر الحياة، أي الدين، أنه ميت تمامًا. كما ينتج عن ذلك أيضًا وفيما يتعلق بالمعنى أن عدم قابلية اختزال أثر المعنى يمكن أن تقتصر تمامًا على عمليات يستبعد فيها وبشكل كامل كلُّ انخراط ذاتي للإله الحي. هذا يشرح لماذا لا يمكن لهيدغر أن يجعل من مقولة نيتشه "مات الإله" ولا حتى لجميع اللعنات والتجديفات ضد المسيحية جزءًا من تفكيك مسار الميتافيزيقيا الأنطولوجية التي ستأتي فيما بعد. فهما حقيقة شيئان منفصلان. والأمر بعيد كل البعد عن أن ينتج آليًا عن غياب الديني، كما هو غياب للأساس الميتافيزيقي الأكثر مقاومة وصلابة، طالما أن الميتافيزيقيا لا تشير إلا لمبدأ لا يمكن أن يموت بالمعنى الذي تحدثنا عنه سابقًا. إذن، وحدها عملية إنتاج المعنى هي الاعتراض الحقيقي على مقولة موت الإله الحتمية. إلا أن هناك، كما تشهد الميتافيزيقيا منذ بدايتها، معنى غير حي، معنى حرفي، معنى مبرهن، وقولاً واحدًا، معنىً رياضيًا. هذا المعنى يحدث قطيعة في العمق مع كل إرجاع ديني للمعنى إلى عناية الإله الحي. وبما يخص المتطرفين المعاصرين، أقول إنه لا يفيدنا شيئًا أن نتناولهم كعلامة لعودة المعنى الديني، فهم بالحقيقة تكوينات معاصرة وظواهر سياسية خاصة بالدولة في وقتنا الراهن. هم قولاً واحدًا عبارة عن اختراعات لاحظنا منذ وقت طويل أنها عقيمة بشكل كامل على الصعيد الديني خصوصًا. ينحصر إنتاجهم في الفضاء الذين ينخرطون فيه، أي البحث عن السلطة. علينا حقيقةً أن نفكر في ما ندعوه اصطلاحًا المتطرفين كشكل من الأشكال الذاتية أو نموذج من النماذج الذاتية يُعلن فيها وبدقة أن الإله قد مات فعلاً. هذا النموذج يقابل ما اسميه الذات المبهمة، لأن الحقيقة التي تعمل وفقها ليست فاعلة، فهي مشطوبة، مخبأة وغير واعية. وبالتالي ليس لها من وسيلة إلا أن تقوم بإعدام ما يؤسسها. هذه العملية ليست غريبة على التحليل النفسي، من هنا التأكيد البائس والمدمي لدين مصطنع ومميت. والمبدأ الحقيقي لهذا الدين المتواري على الصعيد الذاتي هو أن الإله قد مات. إن مَسْرَحة هذه الحقيقة المبهمة تقدم نفسها بشكل عفوي في إعادة الإنتاج من دون هدنة لهذا الموت تحت أنواع موت المتهمين البشر بموت الإله. كما تقدم نفسها أيضًا في زيادة تواتر الطقوس الدينية ووَسْمِ الأجساد التي شكلت على الدوام استعراضات لهشاشة فكرة الإله الحي. أضيف، لأكون عادلاً، أن بين الجسد الأنثوي المخبَّئ تحت الحجاب وبين الجسد الأنثوي المعروض والمتداول بشكل تجاري، أو كما يقول غيوتا، الجسد الرأسمالي الدعاري، يقوم السؤال ذاته: طالما أن الإله قد مات، تحت أيِّ عين حية تُعرض هذه الأجساد كلها، ووفق قاعدة مَنْ تُوزَّع حصص المرئي؟ من سيقول لنا ما الذي يجب أن يبقى مستترًا؟ فيما يخص الجسد الأنثوي – الذي يتم التعامل معه كالقضيب إذا ما أخذناه بأكمله – نستطيع أن نجيب بالكثير أو القليل من الإخفاء دون أن نُرضي أبدًا ما هو مطلوب. فاليوم وفي المناخ السامِّ لما يشبه الحرب الدينية – التي يغيب عنها الدين الحقيقي – يجب التسليم أن موت الإله يمكن استشفائه بشكل دقيق من خلال الأثواب القصيرة والشفافة في العالم الغربي، وكذلك من خلال الحجاب الأسود السميك حيث لا تلمع إلا العيون. ذاتٌ مبهمة في كل الأحوال، لكن حقيقتها القابلة للتميز بسهولة هي دون أدنى شك أن الإله الحي قد مات. لا ينتج عن ذلك كما قلت موت إله الميتافيزيقيا. يجب في هذه النقطة البدء عبر ما أسميه معضلة هيدغر. كيف يمكن للمفكر الذي يحدد الميتافيزيقيا كأنطوثيولوجيا (حجب مسألة الوجود عبر مسألة الموجود الأسمى) أن يقول في إعلانه الأخير أن إلهًا فقط يمكنه إنقاذنا؟ هذا بالطبع ليس ممكنا إلا إذا – مرة أخرى – كانت كلمة "الإله" تعمل ضمن تعددية المعنى. الإله الذي هو وحده من يمكنه إنقاذنا ليس الإله المبدأ الذي يرتبط بنسيان الوجود في الميتافيزيقيا الغربية. لا يمكن أن يكون إلا إله الأديان الحي الذي يوافق هيدغر على موته مع نيتشه وإن كان ذلك بطريقة مراوغة. وبالتالي إلى جانب الإله الحي الخاص بالأديان والميت تاريخيًا، وإله الميتافيزيقيا الذي يمكن تفكيكه والذي فضلاً عن ذلك يمكن أن يأخذ اسم الإنسان في النزعة الإنسانية بعد-الديكارتية، يجب أن يتقدم إلى الفكر إله ثالث أو مبدأ إلهي من طبيعة أخرى. هذا الإله أو هذه الآلهة موجودة فعلاً. إنها من خلق الرومانتيكية، وبشكل خاص هولدرلين. لذلك سأسمي هذا الإله إله الشعراء. هو ليس ذات الدين الحية على الرغم من أنه يجب العيش معه، وليس مبدأ الميتافيزيقيا على الرغم من أن الأمر مناط بإيجاد المعنى المدبر للكلية. هو ما انطلاقًا منه يوجد بالنسبة للشاعر سحر للعالم. ضياعه يعرِّض هذا العالم إلى العطالة. لا نستطيع أن نقول عن هذا الإله إنه ميت أو حي أو يمكن تفكيكه مثله كمثل مفهوم صدئ، مشبع أو راسب. التعبير الشعري الأساسي في شأنه هو التالي: هذا الإله انسحب تاركًا العالم في قبضة الكآبة. مسألة القصيدة تتعلق إذًا بانسحاب الآلهة ولا تتلاءم بذلك مع المسألة الفلسفية ولا مع المسألة الدينية. إن مهمة الشاعر – أو كما يقول هولدرلين، شجاعته – هي أن يجعل في اللغة فكر الإله المنسحب وأن يصوِّر مشكلة عودته كقطيعة مع ما يستطيع الفكر فعله. إن العلاقة مع الإله الشعري ليست علاقة حداد كتلك العلاقة الغامضة مع الإله الميت، ليست أيضًا علاقة نقد أو عيب مفاهيمي في الكلية كتلك العلاقة الفلسفية مع الإله المبدأ. إنها علاقة حنين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ تطلعٌ إلى فرص إعادة سحر العالم والخروج من السوداوية عبر العودة اللامحتملة للآلهة. نستطيع انطلاقًا من ذلك إيجاد حلٍ لمعضلة هيدغر. إذا وجب التمسك بنهاية الأنطولوجيا وانتظار الخلاص عن طريق حدث إلهي في الآن ذاته، فهذا لأن تفكيك الميتافيزيقيا والرضا المعلن عن موت الإله المسيحي يترك الفرص أمام إله القصيدة مفتوحة. هذا هو أيضًا السبب وراء أن كل فكر رهنٌ بحجم العودة كما بالإيماءة التي يمكن أن يَعِدَ من خلالها، إذ إن هيدغر، ضمن التراث الألماني، يجعل من آلهة الإغريق الشعار أو الرمز لإلهٍ يمكن أن يعود. أدعو إلحاديةً معاصرة كل قطيعة مع نسق فكري كهذا. علينا أن نكفَّ عن أن نَعْهَدَ إلى الإله – موضوع حنين العودة – الثمن الناتج عن موت الإله الحي وعن تفكيك الإله الميتافيزيقي، علينا باختصار أن نتخلى عن كل وعد. إن هذه الإلحادية هي أمامنا كمهمة للفكر. فما يُبقي حتى اليوم قدرة الوعد والنسق الشعري/السياسي لعودة الآلهة أو لإعادة سحر العالم هي فكرة التناهي المجمع عليها. أن يكون وجودنا متناهيًا جوهريًا، وأن يتوجب العودة على الدوام إلى وجودنا الفاني، هو ما انطلاقًا منه لا نُبقي على موت الإله إلا بالتمسك تحت أشكال متعددة بالوعد اللامتمايز لمعنى منسحب. لكن مجيئه تحت شكل "العودة" مسألة غير مقصية. حتى العالم الذاتي للسياسة يوظَّف على الدوام عبر استسلام سوداوي مبهم لعودة معنى ما، أو اليسير من اللامعنى. على أساس هذه العودة وبشكلٍ تنافسي تستند مقولة أن سياسة ما وحيدة من بين سياسات أخرى تستطيع في الاستحقاقات الرئاسية أن توهم أنها ستكون مختلفة. جوسبان، من وجهة النظر هذه، هو الشكل الرثُّ لإله الشعر. فمن الضروري إذن من أجل الإقامة بطمأنينة ضمن المكوِّن الذي لا رجوع فيه لموت الإله التخلص من فكرة التناهي التي تشكل في حقيقة الأمر أثرًا لنجاةٍ ضمن الحركة التي ننتقل عبرها من إله الدين وإله الميتافيزيقيا إلى إله القصيدة. يرتبط هذا العمل من دون شك في جزءٍ من أجزاءه بمصير الشعر ذاته. فعلى القصيدة اليوم أن تبحث جاهدةً عن إلحاديتها الخاصة بها. لهذا يترتب عليها أن تهدم ومن الداخل قوىً خاصة باللغة: الأسلوب اللغوي الحنيني الطنَّان، ومكانة الوعد، وأخيرًا الوجهة التنبؤية بالمطلق. ليس على القصيدة أن تكون الحارس السوداوي للتناهي، ولا ترنيمة لصوفية الصمت أو احتلال لعتبة غير أكيدة. عليها أن تنذر نفسها إلى سحرٍ ما يكون بمقدور العالم كما هو؛ أن تُظهِرَ بما يخص المستحيل البروزَ اللامتناهي للممكنات المرئية. هذا دون شك ما يريد لاكو-لابارت قوله بالصيرورة النثرية للقصيدة. هذا من دون شك أيضًا ما يقدمه لنا شعر كايرو (الاسم المستعار لـ بيسوا كما تفهمه جوديث بالسو)، أي ميتافيزيقيا بلا ميتافيزيقيا. كايرو الذي يعلن كتابة "نثر أبياته" على حد قوله، كايرو الذي – بما يخص الإلهة – يعلن أنهم ليسوا بأحياء ولا بأموات (وسيكون هنا سابقًا للأوان الإذعان للعاطفة)، لكنهم، وبرزانةٍ وبعلاقة لا مبالاة متبادلة مع البشر، نائمون. على أية حال من الأحوال سيقوم الشعر – لا بل إنه يقوم الآن منذ بداية القرن العشرين على الأقل – بإعدام إلهه الخاص. أما الفلسفة، فمهمتها التخلص من فكرة التناهي ومن حاميتها الهيرمينوطيقية. النقطة الأساسية التي يجب أن نركز عليها هي إزالة تحالف اللاتناهي الأزلي مع الواحد وإرجاعه كما تدعونا إلى ذلك الرياضيات منذ كانتور إلى بساطة الوجود المتعدد. ذلك أن التعالي المفترض للإله الميتافيزيقي يتشكل وفق التئام اللامتناهي مع الواحد، ومن هذا الالتئام يتغذى – حتى ولو هُجِرَ كل تعالي – الأثر البينذاتي المتبقي الذي يربطنا بالموضوعات المقترنة بالهجران؛ بالوجود من أجل الموت؛ بالذعر من الواقعي والتناهي. يجب أن نقابل بفرح فكرة أن مصير كل حالة هو أن تكون التعددية اللامتناهية للمجموعات، وأن لا وجود لعمق يمكن أن يتأسس فيها، وأن تجانس المتعدد يبرز أنطولوجيًا على حساب لعبة القوى، وأننا نسكن بالنتيجة اللامتناهي بعيدًا عن كل تناه، كدارنا المنبسطة تمامًا. وبهذه الطريقة، عندما بالتقاطع مع حدثٍ ما تتلقفنا حقيقةٌ ما وفق اللاتناهي غير المكتمل لمسارها، يكون مبحث المعنى بالنسبة إلينا مقتصرًا على ترقيم هذا اللاتناهي فقط، أو على ما كان يسميه اسم آخر لـِ بسوا، الفارو دو كامبوس، رياضيات الوجود. زماننا هو بلا أدنى شك زمان اختفاء الآلهة من دون رجعة، إلا أن هذا الاختفاء يتجلى عبر ثلاث سيرورات متمايزة مرتبطة بالآلهة الثلاثة الأساسية: إله الدين، إله الميتافيزيقيا، إله الشعراء. إله الدين يجب فقط إعلان موته. المشكلة ذات الطبيعة السياسية هي التخلص من الآثار الكارثية الناتجة عن العملية الغامضة التي تجعل من هذا الموت مسألة ذاتية. الحل هنا يكمن بشكل كامل في فصل السياسة عن خفايا سلطة الدولة وإلحاقها التتابعي في ما هو ذاتي محض ضمن الإلزام. فهنا فقط تبقى السلطة الطيفية للإله الميت التي تستطيع دائمًا التعلق وبشكل إجرامي بأطراف الدولة الخاصة بالأنا الأعلى من دون أثر أو تأثير على الضمائر. فيما يخص إله الميتافيزيقيا يجب متابعة الطريق عبر فكر اللامتناهي، ليتشتت أصله على طول التعدديات المتنوعة. أخيرًا وبشأن إله الشعر، يجب على القصيدة أن تفك عقدة اللغة، أن تجتث منطوق الفقدان والعودة. ذلك أننا لم نفقد شيئًا وأن شيئًا لن يعود على الإطلاق. للحقيقة فرصة في عملية الإلحاق، وحينها فقط شيء ما سيطرأ. لكن سيطرأ هنا، من دون عمق ومن دون امتداد. نستطيع أن نقول، نحن المسؤولين عن إقالة الآلهة، سكان هذه الدار اللامتناهية للأرض، أن كل شيء هنا، ودائمًا هنا، وأن مصدر الفكر هو في السطحية المتجانسة اليقظة بحزم، المعلنة بحزم لما يحدث لنا، هنا. هنا مكان صيرورة الحقائق، هنا نحن لامتناهين، هنا لا وَعْدَ لنا إلا الإخلاص لما يطرأ علينا. شاعرٌ مولودٌ بعيدًا عنا في لغةٍ قريبةٍ منا أكثر من أية لغة أخرى، تغنَّى الشاعر Aigui بهذه الـ"هنا" في نشيد يمجِّد فيه ما لا بديل له هنا ومن دون أي ضمانة إلهية، "هنا". يقول لنا إننا نمتلك هذه الـ"هنا" عندما نكفُّ عن البحث في مكان آخر وتحت اسم آخر عن ظلِّ الإله الميت. نشيد يعتبر فيه موت الإنسان ذاته (إعادة تشكيل انتقالي للامتناهيات المبعثرة) كإبقاء وضمانة لهذه اللامتناهيات. أُنهي بهذا النشيد مستعينًا بترجمة لـ ليون روبيل:
هنا
لكل شيء جواب
هنا
في الأقاصي المجعدة لأغصان الحديقة الساكنة
ولا
وجود لكلمة أو علاقة
ومبتعدةً عنا
لكي
لا تُستبدل بأمكنة البشر ترجمة: د. جلال بدلة *** *** *** ٭ المصدر: رسالة مختصرة في الأنطولوجيا الانتقالية Court traité d'ontologie transitoire (1998) ٭٭ آلان باديو (1937-) Alain Badiou: فيلسوف فرنسي معاصر، من مؤلفاته L'Être et l'Événement (1988) (الوجود والحدث)، Logiques des mondes (2006) (منطق العوالم). مناضل سياسي لا يخفي انتماءه لليسار الجذري في فرنسا.
|
|
|