|
لاهوت القوة وتجسُّده في الدولة
من أكثر المفاهيم التي تسيطر على الحقول الثقافية والسياسية في عصرنا الحالي هو مفهوم الدولة، من حيث تاريخها ووجودها وأهمَّيتها ودورها ومصادر شرعيَّتها. ولا تكاد أيَّة إيدليوجيا أو نظرية سياسية تخلو من تبنِّي مفهوم محدَّد للدولة تشترك به مع إيدلوجيات أخرى في تبنِّي ذات المفهوم، أو تطبع مفهومها الخاص عن الدولة ولا يقتصر الأمر على الإيدلوجيات التي هي حديثة النشأة نسبيًا بطبيعة الأمر، بل الأمر أعمق من ذلك فهو حديث له جذوره في جوف التاريخ. وقد يكون سابقًا للتاريخ ذاته. فقد وجدت الدولة قبل وجود النظريات المؤسِّسة أو المفسِّرة لها. وقبل وجود الفلسفة ذاتها، لذلك فإنَّ النصَّ الفكري، أو الفلسفي إن شئنا، الذي ينطوي على تأصيل أو تفسير لمفهوم الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر وجد في كلِّ الفلسفات الكبرى. ولا يوجد تقريبًا مفكِّر أو فيلسوف إلا تحدَّث أو تفلسف قصدًا أو من خلال سبيله إلى بناء رؤيته ونظريَّته الفلسفية بشكل عارض عن الدولة وقدَّم لمفهوم يتَّفق أو يختلف به مع أقرانه في فهم ما يمكن أن نطلق عليه "شأن أو حقل الدولة" في النتاج الفكري لهذا أو ذاك من الفلاسفة القدامى والمعاصرين وأقرانهم من المفكِّرين في الشأن السياسي والاجتماعي. فما الذي يجعل من هذا المفهوم محلَّ جدل والتباس وصراع أيضًا كان ولا زال حاضرًا بقوة أسطورية في كلِّ السجالات الفكرية والسياسية والدينية من بدايات التاريخ إلى عصرنا الحالي. هل من المعقول أن لا يتفق البشر على مفاهيم هذا الحقل، من حيث الشكل والمضمون، بعد ما لا يقلُّ على سبعة آلاف عام من نشأة الدولة؟ وهل المشكلة في واقع حقل الدولة ذاته وتغيره وتطوُّره وانكساراته خلال كلِّ هذه المراحل التاريخية المختلفة ممَّا جعل الفكر يحار في بناء مفاهيم ثابتة للدولة، أم أنه لا يمكن أصلاً وجود شكل ومضمون نهائي للدولة أساسًا ممَّا يجعل السجال الفكري والفلسفي والديني والسياسي مستمرًا إلى ما لانهاية؟ حتى نستطيع الحفر معرفيًا في أساسات نشأة الدولة لا بدَّ من التعريج على نظريات نشأة ومفهوم الدولة ليس بهدف مناقشتها ونقدها لكون هذا الأمر مبحث آخر ليس هذا البحث مجاله ولكن الهدف هو بيان عناصر التجسُّد والألوهة في أيِّ قراءة تاريخية لنشأة الدولة وفي نظريات نشأتها حتى نستطيع الوصول إلى الفكرة الرئيسة وهي التجسُّد الخفي أو تأله القوَّة التي هي "روح الدولة" والتجسُّد المقصود إنَّ الدولة في أساسها، رغم كلِّ البناء النظري والعملي الذي تراكم على مدى آلاف السنين، فإنَّ تبرير وجودها ونشأتها وشكلها هو في الأساس تجسيد "لروح القوة أو السلطة". فلا يمكن أن يعرف أي وجود للدولة في التاريخ دون وجود سابق للقوَّة التي هي أيضًا تمدَّنت وتهذَّبت لتصبح شكلاً راقيًا من أشكال الفاعلية، لها مدارجها ومعارجها المختلفة وقد يكون أهمُّها هو شكل "السلطة السياسية" التي هي بالمحصلة النهائية تشكُّل "الروح الأعلى للدولة" والتي بفقدها تفقد الدولة سلطة فرض شرعية وجودها وهو ما سوف نحاول تلمُّس جوانبه في الفقرات التالية. نظريات نشأة الدولة: لا شكَّ أنَّ شأنًا مهمًا مثل شأن الدولة كان موضع جدل كبير بين الفلاسفة والمفكِّرين فقد تمَّ وضع العديد من النظريات التي تفسر أصل الدولة أو أصل فكرة نشأة الدّولة وهي في أغلبها تتعارض مع بعضها البعض في إطارها العام وتتفق في بعض الجوانب ومن أبرز النظريات في نشأة الدولة كانت النظريات الثيوقراطية والنظريات التعاقدية والنظريات الاجتماعية والنظريات التاريخية وكلٌّ منها يحاول إيجاد الأصول الماقبل تاريخية والتاريخية لوجود الدولة لكون الدولة وحسب بعض النظريات قد وجدت قبل وجود "مرحلة التاريخ المدوَّن" للإنسان ممَّا يجعل الكثير من هذه النظريات تختلط أو بالأسطورة. فمرَّة يكون الله هو مصدر السلطة في الدولة وأخرى تكون الإرادة العامة للأمَّة التي تعاقدت مع الحاكم أي "السلطة" هي مردُّ نشأة الدولة، وفي اتجاهات أخرى تكون الدولة مردُّها إلى التطوُّر الطبيعي للوجود الإنساني من الأسرة إلى العشيرة إلى القبلية إلى الدولة المدينة أو التطور التاريخي للحياة البشرية الذي فرض عليها تغيُّر نمط علاقاتها وارتباطها ببعضها البعض تبعًا للمصلحة وظروف كلِّ عصر من عصور البشرية ولكن أهمَّ ما يمكن استنتاجه في كلِّ النظريّات الخاصة بنشأة الدولة أنَّ جميعها يتفق على مجموعة من الثوابت وهي وإن لم تكن بشكل مباشر إلا أنه لا بد للدولة حتى تكون دولة من اجتماع ثلاثة عناصر أساسية لا زالت لغاية هذا العصر تعرف من خلالها الدولة وهي: الشعب أو الأمة، الإقليم، والسلطة. وهذا الجانب يدخل في مباحث العلوم السياسيّة والقانونية التي تبحث في إشكال الدولة وأنواعها وسلطاتها وشرعيَّتها وهو ما يخرج عن نطاق هذا البحث أيضًا. إلا أنَّ أهمية استعراض هذه المقدِّمة تكمن في إمكانية استخلاص أهم عنصرين من عناصر الدولة وهما (الأمة والسلطة) ويقصد بالسلطة هنا شكلها المطلق وتشكُّلها وتجسُّدها، ويجب التمييز هنا أنَّ المقصود بالشكل المطلق للسلطة هو أنَّ السلطة تتبدى أو تتجسد أو تتمظهر في أشكال مختلفة في مختلف حقول الاجتماع والثقافة البشريين وليس "السلطة المطلقة" كون الأخيرة مظهر من مظاهر السلطة وليست كلَّ السلطة. ماهية السلطة أو القوَّة المتجسدة؟ "أنا الدولة والدولة أنا" أو "الدولة هي أنا" قد تكون هذه المقولة التي تنسب إلى الملك لويس الرابع عشر خير تعبير عن كيفية تجسُّد السلطة في شخص الملك، والمقصود هنا برأيي أنَّ الملك كان تجسيدًا للسلطة لا بل هو السلطة التي تجسَّدت على شكل دولة، ولا يمكن فصل هذه المقولة عن تاريخ الملكيات وحكم الفرد المقدس إن كان امبراطورًا أو ملكًا أو أميرًا في أوروبا وفي العالم بشكل عام في مراحل تاريخية مختلفة، فالملك "الحاكم المطلق" هو الربُّ أو الإله كما في التاريخ المصري نموذجًا، "فرعون" أو الإمبراطور في التراث الياباني السياسي والديني، وهو سيادة السماء، وهو "الميكادو" - إله السماء على الأرض، وأحيانًا هو تجسيد للربِّ أو ظلُّ الله في الأرض أو ممثِّله الوحيد، وكلُّ هذه المنح لشكل وجود الحاكم أو (السلطة–الفرد–الدولة) لها جذورها الاجتماعية والدينية والأسطورية التي اختلطت حقولها في مراحل مختلفة من التاريخ البشري حتى أصبح الأسطوري حقيقة والحقيقة أسطورة في بعض الأحيان. عرَّف بعض الباحثين السلطة على أنها: [...] تعرَّف السلطة على أساس القدرة على الفعل الإرادي، وهي تدلُّ في المجال السياسي على ظاهرة الأمر والخضوع التي تؤدي إلى إيجاد علاقات غير متكافئة بين الحاكمين والمحكومين. وتعتبر السلطة من المعطيات المباشرة للوجدان العام، إذ يتكلَّم الفلاسفة عن وجود ميل فطري لدى الأشخاص في المجتمع نحو الخضوع لقوَّة منظَّمة. ويمكن تحليل مفهوم السلطة إلى ثلاثة مستويات تتكامل فيما بينها، ويتمثَّل أوَّل هذه المستويات بالقوَّة أي القدرة على الإكراه، أمَّا ثانيها فيتمثَّل بالقانون إذ يجب أن تخضع القوَّة التي تحملها السلطة إلى قاعدة قانونية تقنِّنها وتحدِّد الأشخاص الذين يمارسونها، وخضوع القوَّة التي تجيزها ممارسة السلطة إلى قاعدة القانون إنما يمثِّل المنطلق الأوَّل في تحديد مفهوم دولة القانون، أمَّا المستوى الثالث فيتمثَّل في الشرعية التي تدخل مبدأ الرضا العام ضمن معطيات السلطة. والسلطة هي أحد أسس المجتمع البشري، حيث يرى مفكِّرو الأنوار، خصوصًا من تطرَّقوا للحديث عن المجتمع المدني وكيفية نشوئه: توماس هوبز، جون لوك، جون جاك روسو، حيث أنَّ حاجة الناس إلى التعاون وتغييب الصراعات القائمة على التصفية والإقصاء في سبيل التفرد بملكية شيء ما أدت إلى نشوء قوَّة يخضع لها الجميع تكون هي المرجع والحكم الذي يفصل بين الناس ويضمن حقوقهم ويقرُّ لهم بالواجبات اللازمة نحوهم، هذه القوَّة هي ما يصطلح عليه بالسلطة. ويرى كارل ماركس أنَّ "السّلطة هي حصيلة انقسام المجتمع إلى طبقات أي أنَّ نشوء ما يرتبط بالظاهرات المؤسسية والإيديولوجية الكامنة في أساس الحياة الاجتماعية، ذلك الأساس المتمثِّل واقعيًا بالإنتاج المتزامن مع نشوء الروابط الاجتماعية الرئيسية". لا تخرج هذه التعاريف ولا غيرها في أغلب الأحيان عن التوافق على مفهوم ظاهري أو باطني لا بدَّ منه لوجود الدولة إن كانت بشكل فرض سلطة تاريخية على جماعة بشرية أو سلطة دينية أو ناتج صراع فئوي أو طبقي أو نتيجة عقد اجتماعي يتنازل به مجتمع ما عن حقِّه في استخدام القوَّة لإدارة صراعاته إلى سلطة هي من تدير هذه الصراعات ويفصل بها بالقوَّة بشكل أو آخر. ولكن لا زال الأمر يكتنفه الغموض فكلُّ النظريّات تتحدَّث وتسرد كيفية نشأة الدولة وعلاقتها المتبادلة مع السلطة ولكن الأمر الذي يمكن الوقوف عليه حتى يمكن لنا استخراج عنصر (التأليه أو المقدس أو التجسُّد الخفي) هو اللحظة التاريخية التي ولدت بها السلطة–القوَّة أو انبثقت عن مصدرها المقدَّس والذي منحها صفة القدسية، وهي إن كانت على اتصال بالمقدس الديني في بعض جوانبها إلا أنها بالأساس مجال مختلف للمقدَّس وهو (المقدَّس الغير ديني) وهو نوع أو شكل من المقدس في التاريخ الانساني موجود بشكل أعراف وعادات وتقاليد وقوانين وعقائد تم إضفاء الصبغة المقدَّسة عليها إمَّا بسبب مصدرها الإلهي بشكله الغائر في القدم إبَّان مرحلة تعدُّد الآلهة قبل بزوغ العقائد التوحيدية أو حتى بعد هذه الأديان، فمازال هذا المقدس له فعله وخاصيته المميزة له عن المقدَّس الديني وإن كان كلٌّ منهم يتداخل مع الآخر بإضفاء هالة القدسية على الموجودات والنصوص والأفعال والأشخاص حتى لو اختلف مصدر كلٍّ منهما واختلف مفهوم القدسية بينهما نسبيًا تبقى نتيجة التقديس واحدة وهي في إطاره العام تصبح الثابت والصحيح والحقيقة والغير قابل للتأثر بتغير الزمان والمكان، رمز السعادة ورمز الخوف والتخويف. إنها "القوَّة" التي انبثقت من مصدرها الأعلى لتتجسَّد في المسيح، وهو هنا المسيح الرمز لقوَّة المصدر "الأب" الخالق الذي يخلق الأشياء بقوَّة الكلمة وتتجسَّد كلمته لتصبح سلطة على البشر وهي المسيح، وتنتقل هذه السلطة بشكل متوالي من المسيح إلى الرسل إلى الكنيسة وإلى القديسين بشكل لانهائي مستمر ومتغير على مدى الزمن. ليس المقصود نقد عقيدة التجسد المسيحية فهذه العقيدة ليست جديدة فقد سبقها الكثير من العقائد والديانات التي تقوم على فكرة التجسُّد ولكنها قد تكون الأكثر وضوحًا وتجليًا في فلسفة هذه العقيدة أو لاهوتها من حيث تجلِّي وظهور وتجسُّد القوَّة. الدولة الحديثة وجذور لاهوت القوَّة قد يكون العنف أحد عناصر القوَّة ولكنه لا يشكِّل كلَّ القوَّة فهو أحد تجلِّياتها إن استخدم أو لم يستخدم وبقي في مساحة التهديد باستخدامه كشكل من أشكال الردع الخاص والعام كما في فكرة العقوبة وتطبيقها في قوانين العقوبات التي تطبَّق في كلِّ الدول، فهي تهدف إلى تحقيق هدف الردع الخاص والعام. ولكن هل يعني هذا أنَّ القانون والمؤسَّسات المنفِّذة له هو التجسيد الوحيد للقوَّة. في الدولة العلمانية أو المدنية الحديثة لا يمكن اعتبار القانون والمؤسَّسات المنفذة له هي التجسيد الوحيد لمفهوم القوة أو السلطة أو "سلطة القوَّة" في الدولة، فهذا الأمر يبدو أقرب لكونه يرتبط بشكل مؤسَّسات الدولة وهو الشكل الظاهر والواقع في تماس مباشر مع الجمهور أو الشعب أمَّا ما نقصده بمفهوم القوَّة المتجسِّد هو ما يكون فاعل في أساس تكوين الدولة الحديثة التي لا يمكن فصل مؤسَّساتها وهي ما يمكن وصفها بالهيكل المؤسَّساتي الذي يحتاج إلى طاقة فاعلة ومتدفِّقة غير منقطعة تجعله السبب في حالة الهيمنة دائمة على الجمهور أو شعب هذه الدولة. هذه الطاقة المهيمنة هي في أصلها روح، ليس بالمعنى الميتافيزيقي ولكن بمعنى الفاعلية والاستمرار والتجدُّد تملئ كلَّ الأشكال التاريخية والحديثة للدولة التي بدورها تخضع لهذه الروح ولا يمكن لها أن تفلت من أسرها لأنَّ هذا الفلتان أو الانعتاق سوف يفقد الدولة ككل ومؤسَّساتها فيما بعد مصدر وجودها ومصدر قدرتها على الاستمرار، لذلك فإنَّ هذا الروح، روح "سلطة القوّة"، وجد لنفسه أشكال سريان مختلفة في الدولة إن كان في "مجتمعها السياسي" أو "مجتمعها المدني" حتى يكون هناك تعاضد بينهما في بعض الحالات أو تداور في حالة ضعف أحد الأطراف لحساب الآخر. وفي حالة ضعف وانسحاب هذا الروح بفعل ضغط وهيمنة مفاهيم وقيم طارئة أو وافدة على مجتمعي الدولة السياسي والمدني أو عوامل واقعية مثل الاحتلال من دولة أخرى أو الحرب الأهلية فإنه ينقلب إلى حالة منفلتة قد تكون مدمِّرة لكلِّ كيان الدولة بكلِّ أركانه أو عناصره مما يؤدي إلى تشكُّل حقول للعناصر متشظية من هذا الروح لا يمكن أن تتوحَّد أو تتآلف لأنَّ مهمتها في هذه الحالة تتحوَّل إلى العمل على إدخال الدولة في مرحلة الانحلال. *** *** *** الأوان، الأربعاء 10 نيسان (أبريل) 2013
|
|
|