|
كل عام والماضي بألف خير
- 1 - ولدت في بداية العقد الرابع من القرن العشرين المنصرم 1930. بعد أقل من عشر سنوات من موت الخلافة الإسلامية في صورتها العثمانية، 1924. في نهايات الحرب العالمية الأولى، ومقدِّمات الحرب العالمية الثانية؛ في زمن الانتداب الذي تصرَّف بالأرض العربية وحقوق شعوبها في فلسطين وأنطاكية والإسكندرون، وفي بدايات الثورات والطموح إلى الاستقلال. زمني، عربيًّا، انفكاك عُقَد، وانهيار أسوار، وتهدُّم سجون، وانفتاح آفاق. ثمَّ يجيء العالم: المآسي البشرية. الآمال. الاشتراكية. الرأسمالية. الليبرالية الجديدة. النازية الفاشية ومعسكرات الاعتقال. الحرب الجزائرية. الماركسية، الشيوعية، الاغتراب والهجرة. فلسطين. اسرائيل. الناصرية. البعثية. حرب 67. القومية العربية وأحزابها وأنظمتها والكوارث التي أنتجتها، على جميع الصعد. النفط واستراتيجياته اللاتنموية. تفكُّك المجتمع العربي. تحوُّل السياسة إلى شركات. تحوُّل الدين والثقافة إلى مجرَّد أدوات. ثروات فردية ضخمة، وفقر جماعي مهين وفتَّاك. ولا ثقافة إلا الطقوسية من كلِّ نوع، وبخاصة ما يرتبط منها بكلِّ ما رفضه العرب الأحرار القدامى، بدءًا من نشوء الدولة الأموية. الظلام غامرٌ، شاملٌ. نحن الآن فيه، نيامٌ قيام. وعندما يخيَّل إلينا أننا نبدأ شيئًا آخر مختلفًا، سرعان ما يصرخ بنا الواقع: أنتم واهمون. وها هي اليوم، تعود أحلام «الخلافة العثمانية» أو شكلٌ آخر لها باسم التحرير، وبعد أن هيمنت أكثر من أربعة قرون، وفعلت بالإسلام والعرب ما فعلت. أهذه السنة 2013 جديدةٌ حقًا؟ هل انهيار الديكتاتورية التونسية والليبية والمصرية واليمنية، والانفجارات المتواصلة المزلزلة في بلدان عربية أخرى – ستؤدي إلى تدمير الطغيان حقًا، أم إلى تدمير شكلٍ من أشكاله، لكي يحلَّ محلَّه شكلٌ آخر «أكثر شعبية» عند العرب والمسلمين ومعظم العالم، وأكثر تلاؤمًا مع الدورة الجديدة للمهرجان الذي يستضيفه العرب، مهرجان «لعبة الأمم»؟ سوف نرى. - 2 - ربما كان في العمل على تحقيق المستحيل كثيرٌ من الحماقة. لكن، من المستحيل ألاَّ يحاول الإنسان القيامَ بهذا العمل. - 3 - يقول الفيلسوف الرواقي: "ما يناسبك أيها العالم، يناسبني". من أين تجيء القدرة عند الإنسان على القبول بهذا القول، أو الإيمان به، والحياة وفقًا له؟ أوه، كلاَّ. كلُّ ما يلائمك أيها العالم، لا يلائمني. - 4 – وضع الأمبراطور الروماني فيسباسيان قانونًا ضدَّ التهتُّك والدعارة جاء فيه: "كلُّ امرأة تمارس الجنس مع عبد شخص آخر، ستُعدُّ هي نفسها عبدة". وجاء أيضًا: "المرابون الذين يقرضون المال لأبناء الأغنياء (الداعرين المتهتكين) لا يحق لهم المطالبة بأن يسترجعوا أموالهم أبدًا، حتى بعد موت آبائهم". أليس في القانون الروماني بُعدٌ إنسانيٌّ حضاريٌّ نفتقده في حياتنا العربية، وربما في العالم كلِّه؟ - 5 - كان الرواقيُّ يشعر أنه في بيته حيث تنقَّل، وأيًّا كان البلد الذي يستقرُّ فيه. لم يكن هناك منفى، بالنسبة إليه. العالم كلُّه عالمُه، وهو مدينته الكونية. أن تكون بالنسبة إلى الرواقيِّ، مواطنًا في جمهورية، فذلك يعني أنك مواطنٌ في جمهورية كونية. الأخوَّة الكونية عنصرٌ أساسٌ في الفكر الرواقي. لكن، قل لنا، أيها الرواقيُّ، ماذا نفعل نحن «إخوتك» اليوم؟ الأخوَّة السائدة في العالم هي أخوَّة «العقيدة»، لا الأخوَّة الإنسانيّة. وفي «أخوَّة العقيدة» يتفنَّن البشر المختلفون في «عقائدهم» في قتل بعضهم بعضًا. ذلك أنَّ «القاعدة» التي تحركهم وتوجِّههم هي: «قَتْل المختلف». هؤلاء يفترضون أنَّ «الإنسانيّة» ليست مشتركة بين أبناء الإنسان. والاختلاف في العقيدة هو إذًا اختلاف في الإنسانية ذاتها. هكذا يجب إلغاء «الكثرة»، وإقامة «وحدة العقيدة». ومن يشذُّ، يجوز قتله، شرعًا. ما رأيك أيها الرواقيُّ، في هذا التطوُّر، بعد ألفي سنة من التجارب الإنسانية الكبرى، في مختلف الميادين؟ ألكَ الآنَ رأيٌ تَجهرُ به؟ لكن حذارِ: قد تكون الضحية الأولى! - 6 – كان فالاريس، الأمبراطور الطاغية (القرن السادس قبل الميلاد) يأمر بإحراق ضحاياه في إناء فولاذي له شكلُ الثور. عندنا لا تُحرَق الضحية. بدلاً من ذلك، تقطَّع بالسكاكين إربًا إربًا، بعد أن تُذبح! قيل لي، لإقناعي أو لإفحامي: إنها طريقةٌ أكثر متعةً، وأكثر إرضاءً للغرائز، من كلِّ نوع! - 7 – ربما كان النضال الأفضل، والأعمق إنسانيةً، والأكثر فعاليةً، هو ألاَّ تحارب من يحاربك مستخدمًا لغته نفسها، وألاَّ تقاتله بالأسلحة ذاتها التي يقاتلك بها. - 8 – هل يمكن أن نتخيَّل ثورةً ضدَّ اللذَّة؟ مارك أوريل، الأمبراطور، والفيلسوف الرواقي، يجيب: نعم. ويضيف: ذلك هو «الاعتدال». - 9 – اخطفيني، خذيني أيتها اللذة، واقذفي بي حيثما شئتِ. - 10 – أتنفَّس هواء الطبيعة التي هي نفسها لا تتوقَّف عن التهام أنفاسي. - 11 – كلاَّ، لا أجد مكانًا لي، حيث يتجمَّع القطيع ويتراكم، حتى لو عُرِض عليَّ بالإجماع أن أكون أنا نفسي الراعي. كلاَّ معاذ الشعر، معاذ الإنسان. - 12 - أفضل كلمة في معجم السلطة العربية، اليوم، هي: الاستقالة. وفي الأغلب، خصوصًا عندنا نحن العرب الذين لا نملك ثقافة الاعتراف بالخطأ، أنَّ الاستقالة تبدو شكليًا، أنها تضمر الهزيمة، على الصعيدين الفردي والجمعي. لكنها عمقيًا تمثِّل نوعًا من الاستبصار، وإعادة النظر، والاعتراف بأخطاء النظام الكبرى، خصوصًا على صعيد الحريات وحقوق الإنسان، وعلى الصعيد الثقافي العام. وهي إذًا، نوعٌ من الدخول في حركية التاريخ، يتخطَّى مستوى السلطة والحكم، إلى المستوى الإنساني-الثقافي، ويتجاوز المصالح المرتبطة بالسلطة والحكم، إلى مصالح الوطن ومستقبله. الاستقالة تضمر شكلاً من أشكال الثورة الشخصية التي يقوم بها الفرد، في إطار عمله السياسي ومسؤولياته وإخفاقاته، لكي يثبت أنَّ له رؤيته الخاصة، وهويته الخاصة، وأنَّ له صوابه الخاص وخطأه الخاص. إنها جزء أساسي من المسؤولية. وفي بعض الحالات قد تكون جزءها الأفضل والأكمل. - 13 - المستقبل؟ تثبت الممارسة العربية أنَّ هذه الكلمة ليست أكثر من مجرَّد لفظة. لم ندرك في ماضينا غير الحاضر الذي يقوده الخليفة، ولا ندرك في حاضرنا، اليوم، غير الماضي الذي نمذجته سياسة الخليفة. أمَّا الأبعاد التي تتصل بالتغيُّر والتقدُّم، بالإبداع والبناء، بالديمومة واللانهاية، فغائبة كليًا في لغتنا السياسية والفلسفية والاجتماعية. لا معنى للمستقبل في ثقافتنا السائدة–الموروثة خارج المعنى الذي يضفيه عليه التقليد الديني: الموت والآخرة – إمَّا إلى «النعيم»، وإمَّا إلى «الجحيم». أن يكون المستقبل الهاجس الرئيس عند الشعب، يعني أنَّ الحرية هي هاجسه الرئيس أيضًا: حرية كلُّ فرد. وإذا كانت الحرية هاجسه الرئيس لا يمكن أن يكون في فكره وسلوكه طغيانيًا أو عدوانيًا أو وحشيًا. إنَّ الأساليب التي استُخدمت في العراق، وتُستخدَم في سورية وفي بلدان عربية وإسلامية كثيرة، ضدَّ البشر والعمران تدفعنا إلى التعمُّق في دراسة هذا الكائن الرهيب: الإنسان. - 14 - تُعاش الكارثة يوميًا، في المدن العربية. في معظمها، على الأقلِّ. أحدُ أشكالها – الموتُ قتلاً. موتٌ يُغنَّى ويُمجَّد في هذه الأرض الواسعة الجميلة التي تبسطها اللغة العربية بين قارتين. لكن هل هذا الموت هو الذي سينقذ المبشِّرين به، ويخلِّص بلدانهم مما تشكو منه؟ هل هو ما يفتح لهم في هذا العالم طريق الحضور الخلاَّق، ويهيِّئ لهم عتبة المصير العظيم؟ وإلى أيِّ معيارٍ نحتكم؟ إلى الخطاب أم إلى التجربة؟ إلى الأسباب أم إلى النتائج؟ تقول التجربة التي تتواصل منذ خمسين عامًا إنَّ هذا الموت لم يغيِّر شيئًا لا في الحياة، ولا في الفكر. إنه كيفما نظرت إليه، لا يمكن أن يسير بأصحابه ومؤيِّديه نحو الأفضل. إنها تجربة، تقول، على العكس، هذا الموت لم يكن إلاَّ تآكلاً وتفتُّتًا على الصعيد الاجتماعي، وإلاَّ تمزُّقًا وانهيارًا، على الصعيد الإنساني - الحضاري. الأكثر دلالةً، على الصعيد الثقافي بحصر المعنى، أنَّ هذا الموت، كما توضح التجربة، لا يبدو أنه موتٌ بقدر ما يبدو أنه تدميرٌ ذاتيٌّ. وأنه تدميرٌ مزدوج – مادِّي ومعنوي. هو، من الناحية الأولى، فقدانٌ للطاقة. وهو، من الناحية الثانية دليلٌ دامغ على سبات المجتمع. فهو يقابله ويقابل صنَّاعه، ببرودة ولامبالاة. لا يتبرَّأ منه أو منهم، ولا يتبنَّاه أو يتبنَّاهم. كأنَّ لا علاقة له بهم – سلبًا أو إيجابًا. وكأنهم هم ليسوا إلا مجرد ظلال أو أرقام، مجرد أشكال أو أشباح. * ألا تكمن، إذًا، في هذا الموت-الانتحار علامةٌ قويَّة أخرى يتعذَّر دحضها؟ وهي أنَّ المجتمع الذي يتمُّ فيه وباسمه، لا يعنى بالإنسان، بوصفه فردًا، ولا يُعنى بالحياة الإنسانية، بوصفها الهبة الكبرى للوجود. كأنَّ الأفراد مجرَّدُ أشياء، مجرَّد «آلات»، تُصنَّع وتُسَوَّق، وتُستَهلَك. * الناظرُ إلى الآخر، بوصفه مجرَّد شيء، ليس هو نفسه إلا شيئًا. الذاتُ تتشيَّأ إذا تشيَّأ الآخر. في مثل هذا المجتمع تبدو الفلسفة والعلم والفنُّ والطبيعة مجرَّد ألفاظٍ، مجرَّدَ هوامش. ويبدو البعد الوجودي الإنساني-الحضاري، كأنه غائبٌ تمامًا. كأنَّ آدمَ في هذا المجتمع ليس إلاَّ أديمًا. - 15 - يستقبل العالم عامًا جديدًا، ويحتفي به، بوصفه وعدًا لتحقيق ما يحلم به، ويعمل له. أمَّا نحن العرب، فلا يعني لنا العام الذي ينتهي والعام الذي يبدأ أكثر من مجرَّد رقم في روزنامة ما خُطِّط لنا وما قُدِّر مسبَّقًا. عام 2013 هو، بالنسبة إلينا كمثل العام الثالث للهجرة، أو الثالث عشر، أو العشرين لا فرق. واسمعوا وعُوا: كلُّ عام مقبل، والماضي بألف خير. *** *** *** الحياة، الخميس 3 يناير 2013
|
|
|