|
نهاران للمغربية لطيفة حليم
"تخرج الثلج. تقرأ في عجل لحظة. أرغب في كتابة لحظة". هذه الكلمات وأمثالها الموظفة توظيفًا فنيًا حسنًا هي ماجعلتني أتابع قراءة الرواية. تفضلت الروائية "د. لطيفة حليم" مشكورة وبمبادرة منها بإرسال روايتها نهاران بعد أن قرأت لي مقالاً تحت عنوان موت الرواية الغربية، وكنت أظن كما في كل مرة أكتب فيها مقالاً انطباعيًا\نقديًا وتصلني على إثره بعض الروايات والأعمال أن هناك اسقاطات خاطئة حيث يتوهم الكاتب أن ما أقوله في المقالة ينطبق على مايكتبه. ومن آن إلى آخر أقرأ مايكتبه بعض النقاد الذين لا يكتبون نقدًا بقدر مايكتبون قراءة تلخص العمل الأدبي أن ذلك العمل هو عمل أدبي (حداثوي) أو مابعد الحداثوي. يطلقون هذه الصفات وأمثالها جزافًا، وكنت أذهب لاقتناء هذه الأعمال فأقرأها لأجد أن ماتكلم عنه الناقد هو شيء آخر لا وجود له في طيات الكتاب. قرأت مقالتين عن هذه الرواية لناقدين عربيين ولم تكونا مقالتين نقديتين بقدر ماكانتا قراءتين كمثل القراءات الأخرى لم تفيا حق الرواية ولم تكشفا المنابع العميقة التي أنتهلت منها. كتابة لحظة تحتاج إلى صبر وتأن كثير، وأناقة مفرطة، ظروفها لا تسمح بذلك، طبخها يحترق باستمرار، ولا تسعفها الكتابة. منى في مونتريال تطهرت، بدأت تكتب أثناء الحريق. حصل مرة أنها غرقت في الكتابة، دخلت المطبخ وجدت طنجرة الهركمة احترقت، لعنت لحظة رأت فيها عنترة يقبل السيوف. (ص 9) هذه الفقرة المأخودة من العمل تكشف الأنزياحات التي عملت عليها الكاتبة ومدى قدرتها على التوغل في المعنى واختراق المألوف الذي اعتدنا عليه بالتسلسل في الأفكار والبناء المتتالي لبنة فوق لبنة باحتراف ودقة تجعل العمل، بالنسبة لي مملاً، غير مؤهل من جهة أخرى وفي أغلب الأحوال لاكتشافات باطنية عميقة. كما هو الحال مع الشعر جاء الشعر الحر كي يكشف ويعبر عن المعاصرة التي تقوم أصلاً على التشعب والامتدادات التخيلية التي أصبحت واقعًا ملموسًا، جاءت الرواية (الحرة \الحداثوية) كي تقول ما لا يستطيع قوله النص القديم. تكرر الكاتبة كلمة لحظة والكتابة عنها. "تقرأ في عجل لحظة" واللحظة هذه ليست قياسًا للقراءة ولسرعتها بل هي كائن شفاف (مطلق) ممتلئ بمعنى الزمن الذي أراد اكتشافه مارسيل بروست ولم يهتد إليه إلا حين اكتشف الفن، باعتبار الفن هو وعاء الزمن ومنبعه، وبه يستطيع المرء أن يحركه أو يوقفه. تجيد الكاتبة بشكل ملفت للنظر السرد بطريقة تيار الوعي أو السرد الحر العائم الذي ينتقل من مكان إلى آخر حيث بهذا الانتقال استطاعت أن تتحدث عن بدايات الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وعن المآسي الأخرى التي مرت بالمنطقة ترصد ظاهرة التشرد الفلسطيني والتشتت وتؤكد على نزوح حيفا والحال العربية المتأزمة ومما كان من مهاجرين وسكان لم يُكتب لهم أن يهاجروا. التيمة الأساسية لها هي العروبة أو الوطنية والدين من حيث أنه مسلك الشرق وإيمانه والذي تصالحه الكاتبة أو الرواية مع العالم المتحضر وتلقي أضواء إنارة ممكنة من أجل التعايش والمحبة. تتأمل منى اللوحة بعمق. مي بلباس فلسطيني مطرز، شعرها موج يرقص على شاطئ حيفا. تتأمل اللوحة بعمق، احتلال الكيان الصهويني لفلسطين أكبر جريمة عرفها العالم. (ص 109) بينما كان جويس يتحدث عن يوم واحد في يوليسس كانت الكاتبة تتحدث عن يومين أو نهارين، (نهار مونتريال ونهار شيكاغو) وهذا التقسيم الزمني في الرواية ومتابعته نقديًا ومحاولة قياسه واقعيًا هو أمر مخاتل ومغلوط برأيي. لم ترصد الكاتبة يومين، فالزمن الحر يتدفق ويتم من خلاله مايتم من حركة في الذهن وحركة تقوم بها الشخصيات الرئيسة، فماهو المعنى من تحديده وتقييده بالشخصيات إن كان المجموع بالكل هو عمل تخيلي يفيض بالزمن الوهم الذي تفعله وتذهن به الشخصيات وهي بنفسها تذهب في تخيلاتها إلى أزمنة أبعد وأمد؟ في الأصل أجد أن الزمن في العمل الروائي هو مجرد وهم ولا يمكن قياسه كما نقيس الواقعي ولا يمكن من جانب آخر اسقاطه بهذا المعنى على التخيلي. النهاران في الرواية هما ليسا نهارين بل حياتات، حياة الشرق في القرن العشرين وما واجهه هذا الشرق من قضايا وأزمات وآمال. تكتب عن سباحتها في فلج الوشيل بعمان مع مونيكا وهي المقيمة في مونتريال وتتحدث عن الذي يجري لها في تلك المدينة حيث السباحة هي فعل درامي زمني ولا يهم القارئ إن كان ذلك في خيال الشخصية أم حدثًا يجري الآن. هذه الانتقالات تنثال كما رياح لا تدري من أين تأتي لكنها تيسر العالم للقارئ وتفتحه على أجوائه الواسعة ويستطيع من خلالها بقليل من الجهد أن يدخل ليس إلى حدثان العالم بل إلى انطباعاته التي هي في ذهن الراوية ويتم الانتقال بسهولة وسلاسة من وقت إلى آخر فهي تخرج من الفلج بهذه الطريقة: منى لا تريد أن تتذكر الكوارث. تغرق في الماء، الماء يجلي عنها هول وقع الكوارث المفجعة. لحظة، وقوع حدث 11 سبتمبر أين كانا يتشابكان، في الضوء؟ في العتمة؟ تمشي في شارع سان كاترين، تقف لحظة تسمع... لفهم على سبيل المثال ماتريده الكاتبة من كلمة "لحظة" التي تكررها مرارًا في العمل نجد في المقطع السابق وقد وضعت فاصلة بعد كلمة "لحظة" أي جعلتها جملة قائمة منفصلة عن جملة "وقوع حدث 11 سبتمبر..." وهذا برأيي لمحة فنية جميلة فهي تشير بذلك إلى محاولتها التقاط اللحظة المجردة، منفصلة عن الحدث، لكن ليست اللحظة المجردة إلا هي اللحظة العامة نفسها وقد أنسنتها تشير إلى وقوع حدث سبتمبر. بهذه الطريقة يتم تحطيم بناء الجملة التي كانت يجب أن تكون كما يلي ومن دون فاصلة "لحظة وقوع حدث 11 سبتمبر..." كي تفتح منابع أخرى وتشي إلى مواقف فنية متشعبة تتلاقح بين المطلق والنسبي حيث الكون في النهاية لا يقوم على مبدأ واحد، ولا سيادة قانونية وحيدة لا وجود لغيرها في التأثير والتبادل والتفاعل. لا يمكن أن يتم هذا العمل لولم يكن هناك لوثة، لوثة أدب وفن تنقل الكاتبة إلى عوالم أخرى وتجعلها ضمن سيالة تنقلها بين الوعي واللاوعي، تغوص بها مرة إلى أعماق وادي عنبر ثم تعيدها كي تتفقد النار التي أوقدتها من أجل الهركمة، ليست من أجل الهركمة بل هي من أجل تفاعل عناصر الروي وإنضاجها. هذه الرواية ولن يتم إيفاء عناصرها بمقالة قصيرة كما هذه، هي عمل أدبي عربي بامتياز. هذا النوع من الأعمال الروائية يجب الانتباه إليه وترويجه وترجمته حيث مايترجم الآن من أعمال أدبية إلى اللغات الأخرى وما يروج له لا يفعل سوى أن يؤكد فكرة الآخر عنا. *** *** *** كيكا |
|
|