|
تداخل لغة القص ولغة الحلم:
لعل هذه أول قصة – على حد علمي المتواضع – تستطيع أن تضعنا في مواجهة التداخل الحاصل بين لغة الحلم ولغة القص بنحو قصصي، إذ إن من الصعب أن نتصور وجود تداخل بين الأمرين، فإما أن يكون المتلقي في داخل عالم القصة، أو لا يكون، بيد أن براعة القاص في توليف الفكرة الأساسية هي سمة الإبداع الغالبة في هذا المنحى في أقل تقدير. تبدأ القصة بانقطاع الكلام واللاقدرة على تذكر الحلم. هذه الجملة لا تزودنا بالكثير مما نحن بحاجة إليه في بنية ذلك التداخل، إذ يشعر المتلقي منذ الوهلة الأولى بغرابة الموضوع على الرغم من بداهة الجملة. فالحلم يبدأ من حيث يكف الوعي، والوعي يقرره الكلام. هنا "إشارة التتابع" مقطوعة منذ البداية، وأظن أن القاص متعمد في هذا المنحى لأنه لا يريد أن يقدم لنا الحدث بنحو مسبق، أو أن يدخلنا في جو القصة العام منذ البداية، غير أنه يدفعنا في اتجاه التحرر من قيد الزمن الفلكي الذي نحن فيه بواسطة ضخ مجموعة من الافتراضات من أجل أن يقول لنا إن عالم القصة ليس مما هو في عالمنا، بيد أنه – في الوقت نفسه – مطابق للحياة في شموليتها، أي أن المدلول الذي نبحث عنه في القص أبعد مما هو في اليقظة وأقرب مما هو في الحلم. تبدأ القصة بالدال اللساني "ربما" وهو حرف خافض يختص بالنكرة وتدخل عليه "ما" ليدخل على الفعل. هنا حصلنا، منذ البداية، على مسألتين مهمتين هما: - إن الحدث الحاصل حدث غير معروف، على الأقل، لنا كمتلقين. - دخول "ربما" على الفعل "حدث" يعني لا ثبات الفعل، أو الحدث، فالفعل يميل دائمًا إلى الحركة واللاسكون. يتشكل مما سبق في وعينا كمتلقين وجود علاقة متأرجحة بين صيغة الحدث وزمنها وهذا ما يقودنا إلى أن الأحداث العقلية غير مكتسبة إلا أن ما يمكن أن يجسدها هو التلميح على أن القضية، برمتها، قضية عطب في العقل "هل الخلل في ذهني، صارت تفلت منه كل الأحلام الليلية". إن القاص قد أكد، في البداية، على توالي الجمل أكثر من توكيده على تعاقبها بسبب من وجود خلل من دون علم الوعي اللاإرادي الذي هو وعي مكثف ومصدر أولي يمنعنا من كشف (المركز) منذ الوهلة الأولى لدفعنا، كمتلقين، باتجاه المركز للكشف عن حقيقة الأمر. فعملية طمر الحقيقة بداية بواسطة الحرف الخافض "ربما" هو الذي يدفعنا ويدفع السارد إلى طرح افتراضات لما حصل والمتمثل في سؤال السارد "هل الخلل في ذهني؟". إن ما سبق يقودنا إلى استنتاج واحد هو أن الرجل لا يستطيع التفوه بما يجري في داخله بدليل أن السارد لم يزودنا بجواب عن السؤال آنفًا إلا أنه انتقل فجأة إلى الصراخ بوجه الزوجة. هنا المعلومة منتقاة بدقة ومركزة بدرجة عالية، وقد تضعنا إزاء ما يستنتج عنها، إلا أن القاص يعود ليداخل زمن القص مع زمن الحلم في مستويين متداخلين "قلت كمن ينهي معركة أو ينهي قصة طويلة". إذًا إنهاء المعركة غير إنهاء القصة، فالأولى بحاجة إلى ما هو مادي لكن الثانية بحاجة إلى ما هو مجرد. لكن اجتماعهما في جملة واحدة يولد عندنا استجابتين أحداهما وجدانية والأخرى ادراكية. نعود إلى الواقعة، مرة أخرى، التي صاغها القاص في ضوء واقعة ثانية "إضافة أبعاد غراب آخر: حكيم، كاهن، منبىء، حذر لكنه قرين الغربة والغرابة". إذًا صياغة الواقعة جاءت مرة من الحلم الواعي ومرة من الوعي الحالم، ولهذا يتبادل السارد والغراب الأمكنة والأزمنة والفضاءات ثم يتداخلا في التعبير عن الإرادة الإنسانية. هنا، تلعب الذاكرة دورًا مهمًا، فهي مصدر للحلم من جهة، ومصدر لمعلومات السارد من جهة أخرى في ضوء المرتسم الآتي: رؤية جمع شتات ← رؤية ليلية ← سرد للرؤى. إن الفعل الثاني الذي يعقب الرؤية هو الذي يدفع الشخصية إلى البحث عن نمط آخر من السرد خارج واقعه الذي يعيش به وفيه. والسارد، أيضًا، لا يتمكن من رؤية الوجه الآخر "زوجته" إلا بواسطة ذاكرته، فهو يستحضر الوجه الغائب الذي ينام في مخيلته ليسقطه على الوجه الموجود فعليًا، وغياب مثل هذا الوعي والوصف كما هو في حقيقته لا يلغي حضوره في آن واحد حتى لو كان هذا الافتراض حاصلاً على أرض الواقع إلا أنه يتعزز بواسطة الرؤى. بل إن هذا الخيال الجامح الذي يشرئب من عمق الذاكرة هو الذي يحفز السارد للبحث عن أدوات قديمة واستذكارات مهمة. فالشخصية الحقيقية للزوجة لا يسلط عليها الضوء إلا من خلال التراكم الحلمي، فكلما انحسر الحلم انحسرت الذكريات، ومن ثم انحسر الحديث عنها وعن كل ما يحيط بها في زمن القص، إذ يتحكم السارد بالنشاطات الخارجية عبر وعيه الداخلي ويعكسها على ما يراه، ويحلم به. وهذا هو سر اللعبة القصصية وبراعة تقديمها على النحو الذي هي عليه. إن امتلاء الإنسان بالحلم لا يعني أنه غير يقظ، إذ إن الأحلام تولِّد لنا مثل هذه الصلة، فعالم اللاوعي يستدرج إليه البطل بواسطة مقترب الواقع العاطفي الذي تمليه الزوجة، وهذا ما يؤكد عليه "كيركيغارد" بقوله: "الاستنتاجات النابعة من الميول العاطفية هي الأمر الوحيد الجدير بالإيمان". من هنا تتمركز معاني القصة ودلالاتها في عمليتي البوح والكتمان، فكلما انخفض الصوت عادت الذاكرة لتستجمع شتاتها، ويأتي الشتات بقوة ليدفع الكلام من أعلى منطقة فيه "صوت اللسان" ليصب معلوماته الذاكراتية على الزوجة المنصتة لفعاليات الحلم والمشاركة في فعاليات القص-الوجود، فالعملية تنحصر كالآتي: الزوجة (الماضي) + الزوجة الحاضر ← حلم + قص إن التحام هذه الأطراف التي تكوِّن القيمة الرئيسة ضروري فهم التماسك والفصل بين الحلم والقص في ضوء الاحتمال الذي يتداخل فيه العاملان آنفًا، أما نقطة التحول بين الحلم واليقظة فيجسدها "الغراب" الذي يقع في منطقة متوسطة بين الأسطورة والواقع في المرتسم الآتي: الحلم ← القص الحقيقي + علاقة بين الذاكراتي والحقيقة ← القص الذاكراتي ← بناء جديد للقصة. إذًا عملية القص تبدأ من عملية الحلم نفسها، بمعنى من عمق الذاكراتي، ثم يعاد بناء هيكله على أرض الواقع، لأن الذاكراتي بما هو متعلق بالحلم غير موجود في ذهن السارد حيال الزوجة، لذلك نجد أن النص ينحو منحى دقيقًا في التركيز على عمليتي القص والحلم من دون إدخال ما يضعف العمليتين في تحصيل الحاصل الفعلي على القصة كمنجز إبداعي، وفي هذا يكمن إبداع القاص، فما لم نعرفه عن المتخيل بواسطة الحلم أصبح معلنًا، وما يمكن أن نستنتجه من القص قد يكون مدفوعًا في اتجاه ما هو مثالي على الرغم من أن ذلك كله محصور بين الرجل وزوجه. فالتوكيد والحرص على "الصوت الذابل" هو حرص على إبقاء التواصل والمواصلة بين ما يجري في الحلم وما يجري على أرض الواقع "صباحات وأنا أضع وهج الدهشة الملون بأشكاله وتماثيله وطيوره...". هذا هو التوكيد على نقل الزمن من صيغة الحلم إلى صيغة القص من دون أن يفقد حلميته الواعية "إذ بدت لي السنوات العشرون حصيلتها ثلاثة أولاد"- ص 97. يستعمل القاص، هنا، الصورة الخلفية ويعكسها على منطقة السرد، وهذا خاضع بطبيعته لمنطقة اللاوعي من أجل إحداث انحراف في سيرورة السرد "أو كان بمقدورها أن تبيض رقمًا أو رقمين إضافيين". هذا هو رد الفعل على الواقع داخل عملية القص، بمعنى الانتقال من حالة القلق إلى حالة الهدوء الساكن، واستمرار الحياة على الرغم من مفرداتها التي لا تساعد على الإنجاب "انتقال من الحلم إلى مشهد القص": "لا حاجة للمرء أن ينام في الهواء الطلق ما دام لديه مفردات تمكنه من الحصول على أدنى رقم من أرقام المغفلين" – ص 97. ينزع الكلام نزوعًا يحمل الألم ويفضي إلى حقائق واقعية هي جزء من عملية القص التي هي الوجه الآخر للحلم الجماعي الباحث عن تغيير مثل هذه الواقعات الحياتية، فأمنيات الحلم المنخفضة "مدفوعة بالرغبة بتلاقي رفض العقل ورفض المجتمع وجبرية الواقعي"، لكن ليس بالإمكان أن تحيل الخيال إلى قضية تحكمها الحقيقة إلا أن هناك قصص خيال تعد حقيقة. *** *** ***
|
|
|