|
دولة طبيعية
لا معنى للربيع العربي إذا لم يفتح الباب لقيام دول طبيعية. لا معنى له إذا أحلَّ فكرة مستبدَّة مكان حاكم مستبد. ولا معنى له إذا توسل صناديق الاقتراع لتجويف الديموقراطية وفرض الزي الموحد على غرار ما كان يفعل القائد الملهم من زاوية أخرى وبأساليب أخرى. أقصد بالدولة الطبيعية تلك التي تولد الأكثرية فيها من انتخابات نزيهة وشفافة. وتمثل الحكومة أمام البرلمان لتحاسب ليس فقط على مواقفها القومية والشعارات البراقة بل قبل ذلك على حصيلة عملها في ميادين التنمية وتوفير فرص العمل والتعليم والصحة. دولة لا تكون صحفها ملحقة بمكتب الأمن القومي ومكافحة التجسس. ولا يكون القضاء فيها ملحقًا برئيس الاستخبارات وطوع بنانه. ولا تتكلس على جدران زنزاناتها دماء المعارضين ودموعهم. اشتقنا إلى دولة طبيعية. إلى مدرسة تُعلِّم ولا تُقولِب. إلى جامعة عصرية. إلى أستاذ محترم عُيِّن بسبب كفاءته لا بسبب ولائه. إلى صحافي لا يرابط الضابط تحت أظافره وفي أوردة رأسه ولا يخيَّر يوميًا بين السجن والعلف الرسمي. تعبنا من الرعب والإكراه والمدائح والتعذيب والبخور. اشتقنا إلى دولة طبيعية لا ترغم المواطن على السير يوميًا على جبهته لضمان لقمته أو سلامته. إلى دولة طبيعية في الداخل والخارج. دولة تحترم الحدود الدولية. والمواثيق الدولية. وقرارات الأمم المتحدة. وحقوق الإنسان. دولة لا تزعزع استقرار جيرانها. ولا تحاول مصادرة قرارهم. دولة تدافع عن نفسها بإنجازاتها وثقة مواطنيها ولا تحاول فرض نموذجها وراء حدودها تحت دخان تصدير الثورة متذرِّعةً بأنها مؤتمنة على مصالح العرب أو المسلمين. دولة لا تتسلل إلى الدول الأخرى عبر استقطاب مذهب أو جهة ممزِّقة النسيج الاجتماعي والوطني في الدولة المستهدفة. تعبنا من القادة الملهمين الذين يخاطبون التاريخ وينسون شعوبهم. تعبنا من المتسلطين المغامرين المولعين بإضرام الحرائق وتوزيع الأوسمة والشهادات. لا مبالغة في هذا الكلام. قبل أعوام روى لي رئيس الأركان العراقي السابق الفريق الركن نزار الخزرجي حكاية مذهلة. قال إنه استُدعيَ ذات صباح إلى مقر القيادة العامة وتولى ضابط إبلاغه أن الجيش العراقي اجتاح الكويت قبل ساعات. وأضاف أن وزير الدفاع سمع أيضًا الجملة نفسها. جيش يرتكب مغامرة مجنونة من دون علم وزير الدفاع ورئيس الأركان مكتفيًا بتوجيهات السيد الرئيس القائد. هذا مخيف. قبل سنوات بعث إليَّ كارلوس الشهير برسالة من سجنه الفرنسي يقول فيها إن قرار خطف وزراء «أوبك» في 1975 اتخذه رجل اسمه معمر القذافي. وفي الشهور الماضية سمعت من رفاق القذافي روايات مخيفة تكشف كيف كان باستطاعة رجل واحد أن يتصرف بالأعناق والأرزاق وأن يرعب شعبه ويقلق العالم. دفعت المنطقة ثمن ما سمِّي سعي هذه الدولة أو تلك إلى انتزاع دور إقليمي بارز. دافعت الأنظمة عن نفسها خارج حدودها. لم يخف ياسر عرفات في الحلقات الضيقة «أن لبنان دفع ثمن إصرار سورية على الإمساك بالورقة الفلسطينية» وأن الانشقاق في حركة «فتح» كان «مجرد قرار سوري موَّلت ليبيا تنفيذه». وقعت سورية أيضًا في إغراء تطويع النظام اللبناني في حين كانت تحتاج إلى استلهام شيء من انفتاحه وتعدديته وازدهاره. إيران أيضًا حاولت تغيير الإقليم وقيادة انقلاب على التوازنات التاريخية فيه. إصرارها على أن تكون المرجعية السياسية والدينية للشيعة العرب ساهم في إيقاظ التوتر السنِّي–الشيعي في مجموعة من الدول. أغلب الظن أن النظام الإيراني سينوء ذات يوم تحت ثقل التزاماته السوفياتية. لو كانت إيران اليوم دولة طبيعية ومزدهرة لاستطاعت تقديم نموذج جاذب لأهل الإقليم. لا حل لهذا الإقليم المتعدد الأديان والمذاهب والقوميات غير قيام دول طبيعية. ليتنا نقرأ تاريخنا وتاريخ الآخرين. تجربة فرنسا وبريطانيا. وتجربة فرنسا وألمانيا. وملايين القتلى والمدن المتفحمة. لقد انتهى عهد الكسر والخلع والقسر. الشعب يريد دولة طبيعية. لا معنى للربيع العربي إن لم يُخرجنا من أقبية التوتر وأحلام السيطرة إلى رحاب دولة القانون والمؤسسات واحترام الأرقام بدلاً من إدمان الأوهام. *** *** *** الحياة |
|
|