عن حشرة (كافكا) ومرايا الظل

 

مؤمن سمير

 

-1-

كنتُ أقرأ مستلقيًا على السرير في غرفتي التي بلا شبابيك، عندما لمحت حشرة سوداء على السقف. تجاهلتها تمامًا لكني فوجئتُ أنني أعودُ إليها كل عشرين صفحة ثم كل عشرة... إلى أن أزحتُ الكتابَ وأغمضتُ عيني، ثم وجدتني مازلتُ أحدِّقُ فيها بقوة وأبتسم.

تمنيتُ وقتها أن أمتلك عينًا مكبرة لأتمكن من الوصول إليها والقبض على نبض الآدمي المختفي تحت جلدها، ساعتها بالضبط أيقنتُ أن انتصاري على "كافكا" كان وهمًا. لم أتخيل حشرة "كافكا" الكبيرة القبيحة مُلقاةً جواري على السرير ولم أرسم ملامحي إذا تحولتُ أنا، لكني رأيته هو، نفسه، يبتسم، ربما للمرة الأولى بانطلاق، بكل ملامحه الحادة الذكاء والمرض معًا. من أصعب الأمور أن تقضي مراهقتك بصحبة واحد مثله يحاصرك برسائله إلى "ميلينا" عندما تحب جارتك ينطفأ كل ما فيها من وهج. ثم تحلم لشهور بأن عليك عبور سور الصين العظيم لتستيقظ حيًا، أو تنظر إلى كل كلب في الطريق على أنه كائن مكتنز، ويُغضبك القدر فترى حجرات المنزل على أنها أقبية أو حتى مُستعمرات للعقاب. وهكذا حتى تتمنى أن يكون لك نفس الأصابع الدقيقة والصدر المسلول، بل والموت المبكر. إلى أن جاء اليوم الذي قررتُ فيه أن أتخلص منه أو بالأحرى أتعافى من تلبُّسه لوعيي، فأمسح عن عيني كل ما هو مُقبض وحداثي وسوداوي ومغاير وخاص ووحيد وإن كان صادقًا وحقيقيًا وعميقًا، وخرجتُ للعالم لأشتبك في أحضان رقصة "زوربا" ثم أسئلته الوجودية الجارحة ويقينه الشاك، وشكِّه الذي يؤطرُ متاهاتك مع المطلق. ويحتل "كازانتزاكس" المشهد بملحميته الفخمة، اللاهوتية، واسعة العينين والروح، وبعده "ماركيز" وضرباته للقهر خلف طيران الأجنحة، ثم "كونديرا" بتحليله للكائن وبنيته المعرفية الأفعوانية. أخرج من مغوٍ إلى ساحر، ومن قاسٍ إلى وحش. كان شبابًا كله استلاب، ولم أملك فيه واحدًا ملموسًا وندًا، ولا أصدقاء حقيقيين ولا أحلام. فقط أوراق شيطانية ومتحوِّلة، وثقلٌ يشدك إلى نفسك وأنت أساسًا سأمتها ولم تدر لماذا هي متاحة هكذا وضاغطة عند يديك، المرتعشة أغلب الوقت. كنت مؤهلاً لأن ترمي بذاتك في ملعب أي كبير: يبدأ الأمر هكذا: سحبة أولى تشبهُ الموسيقى من جهته، اصطياد فاجر وملَّون، ثم تكمل أنت الدور كأي فريسةٍ مدربة هي الأخرى على قوانين اللعبة، وتعتبر من لحظتها أن مهمة حياتك هي تجميع كل ما كتب وكل ما كتبوه عنه. هكذا تفيق بعد فترة على زحامك به، بأنفاسه وصوره ووجوهه... حتى يأتي مشهد النهاية أو بالضبط مشهد القمة: الكبير يملأ الغرفة وأنت تخلعُ جلدك وتعطيه له بخشوع وتنصرف، فارغًا، خاليًا منك. وعندها يحاصرك البرد القاسي فتجرُّ خطواتك نحو ملاذ آخر، ملاكًا في البداية وفي النهاية يملأ كل حوائطك ويشبهها.

كنا قد بدأنا هذه الكتابة بالحشرة، التي ما زالت ساكنة مطمئنة أمام روحك بالضبط، مددت يدي وثبتها في الفراغ، هل إذا طالت هذه اليد واقتربت، ستتمكن من اختراق مداها ومداعبة مجالها أو حتى الإمساك بها ودهسها بكل قسوة، نربيها لمثل هذه المواقف؟! لا أظن، فلتصل الأمور فقط للدق عدة مراتٍ بجوارها على السقف، الذي هو أرضها، واقتحام الظل الصغير المرسوم حولها، ليحميها ويحاصرها في نفس الآن. أنزلتُ يدي وأغمضت عينيَّ وفتحتهما عدة مرات لأدلل على أن يدي تعبت وأن مشاعري كما هي، ولم ترتعب. إنها حشرة "أبو الطقطاق". الأطفال ما زالوا، تحت في الشارع، يغنون كلما قبضوا عليها "الساعة كام يا أبو الطقطاق..."، وبعدد الطقطقات تُخمَّن الساعة. هي سوداء عادةً ولها شوارب وأرجل عديدة، والمهم والمتميز هو هذه الخوذة التي تغطيها بالكامل، ظهر صلب جدًا، درع لا ينفلق أبدًا مع توالي الضرب بالحذاء أو الطوب ثم فجأة تأخذ هي درعها وتنفلت، تقفز قفزات تشبه الطيران بدون إقلاع، نطَّاتٍ بهلوانية لكنها مستقيمة وزواياها دائمًا حادة وذات تأثير يكافئ العنف المتقدم. المهم أنني الآن غادرت المراهقة ومطلع الشباب منذ سنوات، وسقط مني انبهاري بأي كاتب وحلَّ محله الإعجاب البارد، الجاهز طول الوقت للخيانة، وتحولت الأرواح العظيمة إلى أفكار عظيمة اختارت أشخاصًا لترتاح قليلاً تحت مظلتهم ولا تستقر. كذلك تجاوزت تمامًا مرحلة الرعب من الحشرات والزواحف المألوفه في البيوت، من أجل هذا كان لا بد أن أعود إلى الكتاب أو أنام ثم أطرد بسرعة وحسم كل هذه الذكريات أو الأفكار التي ستكوِّن فيما بعد هذا النص. وهكذا انغمرت في السطور، حتى أحسست أني قرأت أكثر مما يجب، لهذا أصبحت مجهدًا ورأسي مُصدَّع، وكذا ضعيفًا أمام شعوري بأني لم أستوعب شيئًا مما أدخلتهُ عنوة من عيني إلى دماغي، وأني لو حاولت النوم كذلك لن أستطيع. كانت الحشرة قد ألفت المكان وألفتني فقررت ألا تجعلني أراقب عيني وهما تتسللان لإلقاء نظرةٍ على ثباتها الواثق، تسلَّلت هي إلى عيني وذاكرتي القريبة فأصبحت أراها دون أن أضطر لرفع الرموش وتحريك الجفون والتحديق. كانت تود لي ألا أرتعب لكن النتيجة صارت أشد وطأة، صارت مرآة ترسمني أمامي وتذكرني بحدَّة بما تجاهلته تحت وهم التجاوز، كانت تكبر فيضيق المكان وتقترب وتقترب لتثبت أنني ما زلت الأصغر، القابل للاستلاب، بل والباحث عنه وراء يافطة رفضه والسخرية منه، والذي قسم نفسه قسمين واحد في الصدارة، مكتفٍ، يفتح عباءته لتفرش مساحة تكفي للعديد من الصغار، ويعطف عليهم ويُمطر توجيهات ونصائح وكتبًا، وآخر يخشي النظر في المرآة لكيلا يأسى على أحضانه الباردة وعظامه المرتعشة وانتظاره الوحوش خلف الطرقات أو الخطوات المتسللة أو الهصر في الأحضان أو الصعق في المصافحة أو السم في كل قبلة. قمت من سريري وأنا ممتلئ بالواجب الذي لا فكاك منه، وهو أن أقدم التحية لهذه الملتصقة الأبدية، بكل احترام وتقدير وتبجيل، واحترتُ في شكل هذه التحية إلى أن هززت رأسي وكأنني فهمتُ وأغلقتُ الإضاءة حتى تتمكن هذه الصديقة من فرض ظل كبير غامق، يتسع لكل صغار العالم.

-2-

لي صديق يملك محلاً صغيرًا، اعتدت أن أجلس معه أمام محله هذا قبل المغربية، ليحكي لي أخبار البلدة أو بالأحرى الشائعات والفضائح التي زينت سماء حكي الناس في الفترة الماضية، فيما أتابعُ الغاديات والرائحات. ثم يتركني ليُصلي في المسجد على أن أرش الطريق لنستقبل "الطراوة". حتى كان يوم كنتُ أقرأ فيه مقالةً لأحد الكُتَّاب الذين أتابعهم، منشورًا في إحدى الصحف المتخصصة، وفوجئت أن اسم الكاتب الثلاثي يتطابق مع اسم صديقي بالضبط، والغريب أني لم أنتبه لهذه المصادفة قبلاً. سرحتُ قليلاً ثم أحضرتُ مقصًا وقصصتُ المقالة وتوجهت إلى محل صديقي وابتدرته قائلاً: "أنت، هتفضل عديم الملاحظة كده علطول؟!". تعجَّب فأفهمته أنني مررتُ به صباحًا منذ عدة أيام وكنتُ أحمل مظروفًا في طريقي لمكتب البريد، وتعمَّدت أن أتلكأ عنده ليلمح اسم المرسل الذي هو اسمه هو، لكنه لم ينتبه حتى يئست وأرسلت الخطاب. وهو ليس أي خطاب ولكنه الحاوي لمقالة كتبتها باسمه وبعثت بها لإحدى الصحف وهاهي قد نشرت، وهذا الفعل هدية مني أو تعبير بسيط يدلِّل على شكري له على دعائه لي في صلواته، تلك الصلوات التي لا تقلِّل أبدًا من إخلاصه الدائم فيها عدم استجابة أي دعاء، بصدده أو بصددي! صمت فترة حتى استوعب الأمر ثم فتح المقالة بوجل ورفعها أمام عينيه، نظر إلى اسمه طويلاً ثم أسكن فرحة مهووسة قاع عينيه وقام واحتضنني وهو يقهقه. لكنه سكت فجأة وبدأ يقرأ، ثم صمت وارتبكت خلجاته واقترب مني وأمسك ذراعي وتهدج صوته: "اوعدني ماحدش يعرف إنك اللي كتبتها مش أنا". قلت: "أوعدك برحمة أبويا الغالي". قال: "مش كفاية، اقرا معايا الفاتحة على الخاين وابن الحرام". قرأتها بخشوع وصدق حتى هدأ قليلاً وجلس وعادت الفرحة ترعي في وجه ثم قال: "أول حاجة تفهمني معناها كلمة كلمة، وتاني حاجة متجيش عندي فترة". ورددت مبتسمًا: "أفهمك المقالة ماشي لكن ما اجيش ليه؟". نظر بغموض وقال: "اللي يعمل جميل يتمه". ولم أرد أن أفسد سروري بأي تساؤلات بعد أن أفهمته كل حرف، حيث أن الجميل الذي أسديته سيضمن ضحكًا وفيرًا عند كشفه.

مرَّ وقت طويل كنت خلاله أحاول تقصي أخباره وأجد ردودًا عجيبة تُجمع على أنه تغيَّر، لهذا ذهبت إلى المحل وأنا متلهف، أول ما صادفته كان المقالة وهي مُحاطة بإطار جميل جوار آية الكرسي وصورة والده. كل هذا في قلب مكان صار أكثر نظافة وترتيبًا، ربما بفضل الولد الذي فوجئت أنه أصبح يعمل هنا وأخبرني أن "الأستاذ" على وشك الوصول. هلَّ صديقي في ملابس أنيقة وخطوات متئدة ونظرات كلها ثقة. رمى بنظرة للولد فأحضر كرسيًا حديثًا. جلس بينما أكملت جلستي على الكرسي القديم المعتاد. تجاذبنا أطراف الحديث ولاحظت بجلاء كيف أصبحت كلماته في موضعها الصحيح وكيف أنه بالفعل شخص عاقل تمامًا، متفهم لكل ما يجري حوله، بل وذو بصيرة وقدرة على ربط أحداث التاريخ بما يجري وما سيجري! بدأت أرتبك وأمعن النظر في ملامحه الهادئة عليَّ أجد صديقي القديم، إلى أن دخل علينا جاره الطبيب، الذي كان طول الوقت يتجاهل صديقي بحجة جهله، اقترب منه وأصبح يسرُّ له بكلمات نجحت في اقتناص بعضها وفهمت أن الطبيب يستشيره في مشاكله مع زملائه في العمل! إلى هنا وقفت ولوَّحت لهما وانطلقت وأنا في غاية الحيرة. هل كان صاحبي يخفي عني كل هذه الرزانة والقدرات المنطقية والعمق طيلة السنوات، تحت قناع البساطة والطيبة والجهل، أم أنه هو الذي قضى عمره في انتظار لعبة خبيثة مثل لعبتي حتى يضع نقاط وعيه فوق حروفها، أو أنه فقط يستأنف ممارسة وجوهه المتعددة في حياة أخرى غريبة عني، عن بصيرتي وغروري. هل يصلح فعل ما ليكون ضربة المعول الأخيرة في البوابة التي تحجب انفتاح الرؤية واندماجها بالعالم وقدرتها على الاختراق وإعادة الرسم والتشكيل؟ لماذا لا يكون هذا الشخص بالأساس ليس صديقي، إنه ممثل مأجور؟ أم أن القديم هو الذي ليس صديقي أو... أو...

عند هذا الحد من دوران متاهة الاحتمالات رميت ببصري للوراء لألمحه، بساقه المرتاحة على الأخرى وشاربه المنهدم ونظرته الحاوية ويده المدودة للأمام ليقبلها ولده الذي كبر فجأة في الأيام الماضية. غضضت بصري واستسلمت لمحاصرة رعبي القديم وهو يكبر ويكبر ويملأ الفضاء، ومشاهدة كل هذه المرايا التي أرى فيها صديقي ويرى هو نفسه أيضًا. أخذت أتساند على الحائط مستقبلاً طقوس ضآلتي التي بدأت في الوصول، بعد معاناةٍ وصلتُ إلى حجرتي الذي بلا شبابيك وقبعت ألهث وأراقب المصباح الذي يبتسم ويرمي ظلاً صغيرًا يقترب من ظل كبير ويقضم جزءًا من سواده. الكبير انقضَّ عليه وحبسه في جوفه الضيق، الضيق كأنه جوف حشرة هائلة.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود