المأساة السورية: أزمة اقتلاع الجذور

 

مصطفى الصوفي

 

قليلون الذين تناولوا ظاهرةَ الثورات العربية الحالية مِنْ دونِ أنْ يتَّخذوا موقفًا مع طرف ضد طرف آخر فيُجَـرِّموا أحدَ الأطراف، مُلْقين باللائمة إما على سلطةٍ وإما على معارضةٍ وإما على إسلاميين وإما على أصوليين وإما على جماعات مسلَّحةٍ مرتبطةٍ بأجنداتٍ خارجية لا يعرِف أحدٌ كيفَ فرَّخَت هذه الجماعاتُ ولا مِن أين جاءت، وإما يلقون اللومَ على شعب كامل، بل ربما على أغلب شعوب الأرض.

قليلون الذين تناولوا ظاهرةَ الثورات العربية هذه بعيدًا عن الانفعالات والعواطف والمَخاوف والأفكار المسبَّقة.

فهناك من رأى أنَّ الأزمةَ معرفيةٌ، وهناك من رأى أنها سياسية، وهناك من رأى أنها دينية، وهناك من رأى أنها اقتصادية. ويبدو أنها جميع ما ذُكِرَ وأكثر من ذلك. إنها أزمةُ تجذُّرٍ فيها الجميعُ خاسر. وما التعصُّبُ الديني والإيديولوجي إلا دليل على اقتلاع الجذور؛ فالغريق الذي تتقاذفه أمواجُ الاقتلاع ورياحُها يحتاج لأنْ يتمسَّكَ بقشَّة، بريشة، بفكرة، بكرسي.

إذا تناولْنا هذه الظاهرةَ، ظاهرةَ الثورات العربية، بعمقٍ وبقليل من الحياديةٍ من دون أنْ نتحيَّزَ إلى فئةٍ دون فئة، متحرِّرين من كل انفعال فإننا سنرى أنَّ المشكلة ليست في رأس النظام السياسي وحدَه ولا في الشعب وحدَه، بل في بُنْية المجتمع الذي تحدثُ فيه الثورةُ أولاً وفي المنطقةِ العربية ثانيًا وحتى في العالَم ككل ثالثًا. إذا كان مسؤولو النظام مُجْرِمون فجذورُ أفعالهم تمتد عميقًا في المجتمع، فهُمْ أبناءُ مجتمعهم، ومنه خرجوا، حتى وإنْ لم يعودوا إليه. ينبغي ألا ننظرَ إلى رأس الدولة على أنه المسؤول الأوحد عما يحدث في المجتمع، بل إنه يتحمَّل مسؤولية أكبرَ بقليل من أي فرد في المجتمع. وإذا كان رئيسُ البلاد مريضًا فإنَّ جذورَ المرض تكمن في البلاد كلِّها. رئيسُ الدولة إنسانٌ مثلنا دفعَه إلى المنصب وإلى الأمر بالقتل شعورٌ بالخوف وبالاقتلاع. يجب، إذًا، عدمُ جعلِه كبشَ فِداء وعدمُ إلقاء جميع أخطاء البلاد عليه. ما الفَرْقُ بين الرئيس الذي يأمر بقتل المتظاهرين وبين المتظاهرين الذين يطالبون بإعدام الرئيس؟ الطرفان تُسيِّرُهما مَخاوِفُ وانفعالاتٌ. عندما نرى الحاكمَ يتمسَّك إلى هذا الحد بالسلطة ويسفك الدماءَ تحت أية ذريعةٍ كانت ندرك إلى أي حد هو مقتلَع الجذور. وهو إذْ يتمسَّك بعصا السلطة والمال التي تتقاذفها رياحُ التغيير يظنُّ أنها تعطيه الإحساسَ بالأمان. وقد حال عماه بينه وبين رؤية مصير الطغاة قبلَه فصار ذهنُه وبِطانتُه يقدِّمون له التبريراتِ والذرائعَ. وإذا كان الحاكِمُ مقتلَعَ الجذور فما بالُ الشعب؟ إنَّ مِنْ علامات حالة الاقتلاع التي يعيشها كبارُ المسؤولين في الأنظمة العربية تهريبَهم لكل هذه الأموال خارجَ بلادهم، نظرًا لانعدام ثقتهم بأنفسهم أولاً وببلادهم ثانيًا ونظرًا لانعدام شعورهم بالأمان ولانعدام انتمائهم لوطنهم.

ولكنْ لا يفيد في شيءٍ تجريمُ الحاكم المستبدِّ وتحميلُه كلَّ المسؤولية. يجب النظر إليه على أنه امتدادٌ لنا وعلى أنه ضحيةٌ مثلنا. فالآخرُ، في الواقع، ليس غيرَنا، بل هو وعيُنا وامتدادُنا واستطالتُنا في الزمان والمكان. ورؤية الآخر منفصلاً عنا إنما هي وهْـمٌ أو نوعٌ من الإيهام البصري يعانيه وعيُنا، كما أكَّدَ ذلك ألبرت أينشتاين، وكما تؤكد أيضًا تعاليمُ جِدُّو كريشنامورتي حول وحدة الوعي البشري. وقد أوضحَ تلك الفكرةَ ذات يوم صديق قديم بقوله:

كما أنَّ بصرَنا يخدعُنا، فلا يرينا الأشياءَ على حقيقتها دومًا، كذلك فإنَّ وعيَنا الشخصيَّ يوهمنا أننا منفصلون بعضنا عن بعض وعن الكون. إنَّ ما يحولُ بيني وبين الشعور بعدم انفصالي عن الآخرين وعن الكون هو الصورة الوهمية التي أُشَكِّلُها عن نفسي وأضعها في مركز الوجود؛ فهذه الصورة هي التي تقيم علاقتي مع الآخر، وتصنِّفُ هذه العلاقة بحسب ما تجلبُه من لذة أو ما تتسبَّب فيه من ألم، فتريني صورَ الأشخاص والأشياء من منظار اللذة (=جذَّاب) أو الألم (= منفِّر). إذا وعيْتُ استحالةَ إقامة علاقة حقيقية مع "صورة"، يتبدد وهْمُ هذه الصورة، وأكتشف أنَّ الآخر موجود فيْ معزلٍ عن صورتي الإيجابية (الجذَّابة) أو السلبية (المنفِّرة) عنه، فأستطيع – أخيرًا – أنْ أرى أنَّ الآخر فيَّ وأنِّي فيه، أنني في الكون وأنَّ الكون فيَّ.

السؤال هو لماذا يرتكبُ الحاكمُ المستبدُّ بشعبه هذه الجرائمَ؟ والسؤالُ الأهمُّ هو كيف وصلَ مثلُ هذا الكائن إلى سدة الحكم؟؟ فإذا كان المهمُّ الآنَ إسقاطَ الحاكم المستبدِّ، فإنَّ الأهمَّ الآنَ وغدًا هو معرفةُ وتفكيكُ البنيةِ والآليةِ التي أنتجَت وأوصلَت هذا الحاكمَ إلى التحكُّم برقاب المواطنين. ما هي القيمُ والمُثُلُ والبُنى التي أدَّى غيابُها أو ضعفُها إلى صعود مستبدٍّ إلى قمة هرم السلطة؟ فالمسؤولُ الحقيقيُّ عن الاستبداد ليسَ الحاكمَ المستبدَّ وحدَه، بل أيضًا البُنى الاجتماعيةُ والسياسيةُ والتربويةُ التي فرَّخَت هؤلاء الإِخْوةَ المستبدِّين والآلياتُ التي أوصلَتْهم إلى مقاليد حُكْمِ البلاد. لا يكفي إزالة أعراض المرض، بل القضاء على أسبابه وجذوره.

في الحالة السورية، ربما أدَّت حالةُ الاقتلاع الشديدةُ التي تراكمَت عبر التاريخ بين الفلاحين وبين الأقليات إلى تفريخ دكتاتورٍ اجتاحَتْ رياحُ اقتلاعِه أبناءَ المدن وعاثت فسادًا في جميع أنحاء البلاد.

ما هي تلك البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي أنتجَت مثل هؤلاء الإِخْوةِ الحُكَّامِ الذين اقتلعوا من نفوسهم القيمَ الأخلاقيةَ والإنسانيةَ أو الذين كبَّلَتهم العصابةُ الحاكمةُ بقيودها فحَرموا أبناءَ وطنهم من حاجاتهم النفسية الأساسية لحياتهم؟

ليست هذه الثوراتُ العربيةُ سِوى محاولةِ بحثٍ عن انتماءٍ حقيقيٍّ لوطنٍ حقيقيٍّ يشعرُ فيه المواطنون جميعًا بالأمان النفسي، محاولةِ بحثٍ عن انتماءٍ يتجاوزُ القائدَ الملْهَمَ والعشيرةَ والطائفةَ والدينَ، عن وطنٍ يجمع الكُلَّ وللكُلِّ. هذه الثوراتُ محاولةٌ لاسترجاع الثرَوات المنهوبة والكرامة المهدورة.

إنَّ ما يدفعُ وحوشَ الغابة إلى الخروجِ من أوكارِها والقتلِ هو السعي إلى إشباع حاجة أساسية مُلِحَّة هي الجوع إلى الغذاء المادي الذي يُبقِي الجسدَ حيًا. قياسًا على ذلك، فإنَّ ما يدفعُ شعبًا إلى ثورةٍ أو احتجاجٍ هو السعي إلى إشباع حاجةٍ أو حاجات أساسية هي الجوع أيضًا، ولكنْ ليس بالضرورة جوع الجسد إلى الطعام، بل جوع النفس إلى طعامِها. فحركةُ المجتمعات أشبهَ بحركة الوحوش. المجتمعُ، كما الوحشُ، كتلةٌ من الطاقات تُحرِّكُها قوانينُ بيولوجيةٌ وسيكولوجية. لقد استخدمَ الكِتابُ المقدَّسُ في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 13 الوحشَ رمزًا لروما أو للمجتمع ككل.

يُحكَى أنَّ المنصور (712/714 - 775) قالَ، ذاتَ يومٍ، لقُوَّادِه: "لقد صدقَ الأعرابيُّ حيث قال: جوِّعْ كلبَكَ يتبعْكَ." فقال له أحدهم [في روايةٍ، هو حميد الطّوسي]: "يا أميرَ المؤمنين! أخشى – إنْ فعلْتَ ذلك – أنْ يُلَوِّحَ له غيرُكَ برغيفٍ فيتبعُه ويترككَ." فأمسكَ المنصورُ ولم يُحِرْ جوابًا [أيْ: لمْ يدْرِ ما الجواب][1].

وهكذا، عندما تعمل السلطةُ على اقتلاع شعبِها من جذوره فتُفقِدُه الإحساسَ بأمانِ الانتماءِ إلى وطنٍ، فإنَّ هذا الشعبَ، أو لنقلْ هذه الطاقات الكامنة والمكبوتةِ في الشعب، أو لنقُلْ هذا الوحشَ لا بدَّ أنْ يسعى، بعد صبْرٍ، للبحث عن انتماءٍ آخر يعطيه الشعورَ بالأمان النفسي، فيلجأ أكثرُ الأفراد إحساسًا بالجوع النفسي إلى التطرف الديني أو الثورة أو الإدمان أو الجريمة، أو يلجؤون إلى الكبت بانتظارِ فرصةِ تفريغٍ قادمة. لكنَّ هذه النتائجَ من غليانٍ شعبي وتطرُّف لا تعني أنَّ السلطةَ القائمةَ هي المسؤولة الوحيدة عنها، بل على العكس هي الأخرى ضحيةٌ أيضًا وفي الوقت نفسِه مسؤولةٌ جزئيًا عن الاقتلاع ومساهِمةٌ فيه. إذْ إنَّ إحساسها بالاقتلاع هو ما دفعها، لكي تلبِّيَ حاجتَها للتجذُّر، إلى الاستيلاء على حقوق شعبها وحرمانه من حقوقه وتعميم الاقتلاع. فهي كعطشان يشرب من بحرٍ أُجاجٍ فلا يرتوي ولو شربَ المحيطاتِ كلَّها وجاؤوه بمثلِها.

قد تدفعُ شدةُ الاقتلاع إلى القتل أيضًا، فيصبح عندئذٍ المقتلَعُ أحَـطَّ من الحيوان، لأنَّ الحيوان متجذِّرٌ في بيئته، وأخونا المجرِمُ مقتلَعٌ من إنسانيته أولاً ومن بيئته ثانيًا، فيجب العملُ على إعادته إلى إنسانيته وبيئته، ولكنْ ليس بقتله. من هذه الزاوية يمكنُ أنْ نفهمَ أحدَ معاني الآية: "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً."[2] قد يصبح المقتلَعُ أذلَّ من الحيوان. بهذا المعنى نفهم أيضًا ما قاله نزار قباني: "ويصبحُ الإنسانُ في موطنه أذَلَّ مِن صِرْصارْ"، وذلك

حينَ يصيرُ الفكرُ في مدينةٍ
مُدَوَّرًا كحدْوةِ الحِصانْ،
مسطَّحًا كحدوة الحصانْ،
وتستطيعُ أيُّ بندقيةٍ يرفعُها جبانْ
أنْ تسحقَ الإنسانْ؛
حينَ يصيرُ الفكرُ في مدينةٍ جريمةً يمنعها القانونْ؛
ويصبحُ التفكيرُ كالبغاء واللواط والأفيونْ
جريمةً يطالُها القانونْ.

فالاقتلاع درجاتٌ قد تصل إلى مستوى البهيمية أو ما دونها، حتى وإنْ كان المقتلَع يمتلك سمعًا وعقلاً وعِلْمًا وقَصْرًا وخدَمًا وحشمًا. فالذي يخرجُ في مظاهرَةِ احتجاجٍ سِلْميةٍ يطالبُ بحقوقه بدون استخدام أي سلاح أو التسبُّب بأي أذىً هو مقتلَعٌ مازال واعيًا وعاقلاً؛ ولكنْ من يطلق الرصاصَ عليه ومن يأمرُ بإطلاق النار عليه قد وصل إلى مرتبةٍ أدنى من الحيوان بكثير. فالأسدُ الحيوانُ أرقى منه بكثيرٍ لأنه لا يقتلُ إلا لضرورةِ وحاجةِ الأكل ولا يقتل أبناءَ جنسه، فهو متجذِّرٌ في الغابة وفي الطبيعة.

إنَّ السلطةَ المستبدَّةَ التي هي ضحية الاقتلاع أيضًا بلغَ بها المرضُ حدًا أصابها بعمى البصيرة فأصبحَت تعزو سببَ هيجان الشعب لا إلى حاجة أو حاجات أساسيةٍ لوجوده بل إلى أيدٍ خارجية تثيرُ الشغَبَ في الشعْب. ونسيَتْ هذه السلطةُ أنَّ الذي يمكن أنْ يدفعَ كلبَ المنصور (في القصة المذكورة أعلاه) إلى ترك صاحبه ليس رغيف الأجنبيِّ (الخارجي) بل حاجةُ الجوع (الداخلية) التي تلعبُ على وَتَرِها أصابعُ الأجنبي. ونسيَت تلك السلطةُ أيضًا أنَّ الأشجارَ المتجذِّرة لا تثور مهما كانت قوةُ الرياح الغريبةِ الآتيةِ من بعيد. الأشجارُ المقتلَعةُ هي وحدَها التي تتقاذفها الرياحُ.

بالمقابل، فإنَّ الشعْبَ الذي هو الآخر ضحية الاقتلاع بلغَ به المرضُ بسبب نقص الغذاء النفسيِّ حدًا جعلَه يواجه الموتَ لأنه لم يعدْ لديه شيءٌ يخسرُه ولأنه أَصبحَ، لشدَّةِ مرضِه، قابَ قوسين أو أدنى من الموت. وقد أكَّدت ذلك الفيلسوفةُ الفرنسيةُ سيمون ﭭـايل (1909 – 1943) مشيرةً إلى وجود حاجات جسدية وحاجات نفسية ضروريةٍ للحياة على هذه الأرض، بمعنى أنه إذا لم تُشبَعْ يقع الإنسانُ شيئًا فشيئًا في حالةٍ أشبهِ إلى حد ما بالموت وأقرب إلى حد ما من الحياة النباتية الخالصة. حالةُ المرض العامة هذه حالَت دون أنْ تُـمَكِّنَ الشعبَ مِن رؤيةِ أنَّ المسؤول عن انتشار الوباء ليس حاكِمَ البلادِ وحده بل جميع أفراد المجتمع وبُناهُ الإيديولوجية والاجتماعية. ولكنْ إذا اختزل الحاكمُ الشعبَ في شخصه وابتلعَه فصارَ هو الشعبَ وصار الشعبُ هو، فلا مفرَّ إذًا مِنْ أنْ يتحمَّلَ غضبَ الشعبِ ولعناته عليه. وإذْ ذاك، يكون الوحشُ الجائعُ الذي هو الشعبُ قد وجدَ كبشَ فداءٍ مقتلَعٍ أيضًا مسؤولٍ في الواقع عن بعض الأخطاء ليعلِّق عليه جميعَها.

فما هي هذه الحاجاتُ التي يمكنها أنْ تدفعَ بالوحش الرمزي الذي هو الشعب إلى القيام باحتجاجات أو بثورة أو بتطرُّف؟

تُبيِّنُ سيمون ﭭـايل في كتابها التـجـذُّر: تمهيد لإعلان الواجبات تجاه الكائن الإنساني [3]أنَّ هناك حاجاتٍ أرضيةً ضروريةً لوجود النفس مثلما أنَّ للجسد حاجاتِه الفيزيولوجيةَ التي هي الأخرى ضرورية. هذه الحاجاتُ النفسيةُ هي: 1-النظام، 2-الحرِّية، 3-الطاعة، 4-المسؤولية، 5-المساواة، 6-التراتبية، 7-الشرف، 8-العقاب، 9-حرِّية الرأي، 10-الأمن، 11-المجازفة، 12-الملكية الخاصة، 13-الملكية الجماعية، 14-الحقيقة.

وإنَّ التعرُّفَ على هذه الحاجات وإحصاءها لأَصعبُ بكثيرٍ مِنَ التعرُّفِ على حاجات الجسد وإحصائها. ولكنَّ الجميع يعترفون على الأقل بوجودها.

جميع هذه الحاجات أساسية للحياة وأي جوع في إحداها يؤدي إلى مرض معيَّن، بحيث أنه إذا حصل جوع شديد في أكثر من حاجة فإنه يحصل انفجار في معظم الجماعة. فكيف إذا كان أغلب المواطنين في بلد ما لديهم جوع شديد إلى جميع هذه الحاجات أو إلى أغلبها؟

هناك بالتأكيد في العالَم أجمعِ مجاعةٌ نفسيةٌ واغترابٌ (اقتلاع من الوطن) في هذه الحضارة الحديثة، ولكنْ بدرجاتٍ متفاوتة. إلا أنَّ المجاعةَ والاغترابَ في بعض بلدان العالَم العربي قد بلغَت شدَّةُ بركانهما حدًا جعلَه ينفجر. فالاقتلاع التام هو الذي دفعَ شابًا في مقتبَل العمر (البوعزيزي) إلى إضرام النار في جسده لتنتقلَ النارُ سريعًا في هشيم المقتلَعين في بلادهم. فالنارُ، ونارُ الاقتلاع منها، تمتدُّ بعيدًا باحثةً عما هو منها لتتَّصلَ به، كما أكَّد ذلك محمد بن عبد الجبار النِّفَّريّ في موقف العزة قائلاً:

والنارُ سِوَىً، ولَها على الأفئدة مُطَّلَعٌ، فإذا أطَّلَعَتْ على الأفئدة فرأتْ فيها السِّوى رأت ما منها فاتَّصلَت به.

الأزمة الراهنة عالمية كما أشار جِدُّو كريشنامورتي (في: الحرية الأولى والأخيرة). وهذه الأزمة تظهر أعراضُها في عدة بُقَعٍ جغرافية، وأحيانًا تختفي أعراضها من مكانٍ لتظهرَ في مكانٍ آخر. وقد أشار أيضًا عالِمُ الاجتماع الفرنسي جورج فْرِيدمان (1902-1977) إلى هذه الأزمة العالمية، وإلى حالة الاغتراب في الحضارة الحديثة بقوله:

لقد غيَّرَ الإنسانُ بيئتَه ولم تجبرْه البيئةُ على التأقلُم فوجدَ صعوبةً في التأقلم مع البيئة المصطنعة. إنَّ النزعة الآلية تزيد من حالات الاغتراب وتسحق الإنسانَ جسديًا ونفسيًا. [...] وإنَّ تطوير «النزعة التقنية» في المجتمعات المعاصرة [...] يشكِّلُ خطَرًا، بل هو أكبرُ خطر يهدِّد البشريةَ في القرن العشرين.

الأزمةُ السوريةُ التي لا رابحَ فيها هي أزمةُ اقتلاعٍ وخوف. السلطة مقتلَعةٌ وخائفة، والمعارضة مقتلَعةٌ خائفة، والشعبُ مقتلَعٌ وخائف. وفترةُ الأمن التي أرساها الرئيس السابق لم تكن في حقيقتها أمنًا إلا من حيث الظاهر، بل كانت نوعًا مِن مُراكَمةِ المَخاوف والأحقاد وكبتِها بانتظار لحظة الانتقام؛ ولحظةُ الانتقام ليست سوى اقتلاعٍ آخر.

وإنَّ تراكُمَ الاستنعاجِ والاستذآب يطيل مِن فترةِ التخلُّص منهما ويزيد من حجم التضحيات. فعندما بدأ جدارُ الخوف ينهار أخذَ الاستنعاجُ بالزوال. وزوالُ الاستنعاج يؤدِّي تلقائيًا إلى زوال الاستذآب. وبالتالي، لا بدَّ من أنْ يبدأَ الشعبُ أولاً بالقضاء على استنعاجِه حتى يتمَّ القضاءُ على استذآب السلطة، وليس العكسَ، لأنَّ الشعبَ هو الذي باستِنعاجَه أعطى القوةَ والشرعيةَ للسلطة حتى استذأبَتْ. لذلك كان طاغور لا يحبُّ الاستنعاجَ ولا نقيضَه الاستذآبَ، فكان يصَلِّي قائلاً: "يا ربِّ! لا تجعلْني جزَّارًا يذبح الخِرْفانَ ولا شاةً يذبحها الجزَّارون."

وحتى تزيدَ السلطةُ من سيطرتِها على الشعب الذي كانت تعتبره قطيعًا في مزرعةٍ سجَّلَتْها باسمِ عائلة الحاكم، زرعَت فيه الخوفَ من كل شيء: الخوف من نفسِه، الخوفَ من عناصر الأمن، الخوفَ من العدو الخارجي، الخوفَ من المؤامرة. ففكرةُ المؤامرة هي في الأصل إحدى الأفكار التي تستخدمها سلطةُ الذئاب للسيطرة على النعاج. إذْ لا مؤامرةَ أكبر من فرض الاعتقاد بوجود مؤامرة.

البشرية جسدٌ واحد كما يؤكد كريشنامورتي. وليست هذه الفكرةُ عقيدةً كما يعتقد البعضُ، بل واقع. هذا الجسد البشري مريضٌ الآن ويُعدي بمرضه أمَّه الأرضَ. فتظهرُ بُقَعُ الالتهاب في عدة بُقَع من هذا الجسد بدرجات متفاوتة. وتظهر في المناطق الأكثر حساسيةً وضعفًا. وها هي تظهر في سوريا من بين بقاع أخرى. لكنَّ السلطة، لِقِصَرِ نظرِها، تظنُّ أنَّها بإخفائها بُقَعَ الالتهاب مِنْ على جسد البلد تجتثُّ أصلَ المرض الذي هي الأخرى مساهِمةٌ فيه ومصابةٌ به. كلُّ حالةِ قتلٍ تقوم بها السلطةُ أو معارضوها تحت أية ذريعة كانت هي حالة انتحار. وكلما أزالت السلطةُ أعراضَ الالتهاب ازدادت تلك الأعراضُ انتشارًا. النظامُ، لكونِه مقتلَعًا، يستقوي بالخارج. والمعارضَةُ هي الأخرى، لكونها مقتلعَةً، تستقوي بالخارج. مقتلَعٌ يواجِهُ مقتلَعًا فيزيدون البلادَ اقتلاعًا. في المحصِّلة، النظامُ والمعارضة اللذين لا يفهمون المعنى الحقيقيَّ للسلطة ليسوا في الواقع إلا إفرازاتِ وطنٍ مقتلَعِ الجذور.

لكي يتجذَّر الإنسان في وطنه ينبغي عليه تلبية حاجة المُلْكية الخاصة (الفردية) وكذلك تلبية حاجة الملكية الجماعية التي لا تقلُّ أهميةً عن الملكية الخاصة. وحاجةُ الملْكية الجماعية هي إحساس الإنسان بأنه يمتلك تراثَ وطنه من خلال مساهمته فيه. عندما يشعر الإنسانُ بامتلاكه المعنوي لصروح وطنه يزيد انتماؤه له. وفي غياب المُلْكيتَين الفردية والجماعية أو ضعفِهما يتزعزع إحساسُ الإنسان بالمواطَنة وانتماؤه للوطن الكبير فيضطر لكي يسدَّ هذه الحاجةَ إلى الانتماء لِبُـنْـيةٍ أصغر (طائفة دينية، عشيرة، قبيلة، عائلة، إلخ) لأنه لا يمكنه العيش بلا جذور، بلا انتماءات. ولكنْ مَنْ يعي أنه ينتمي إلى البحر المحيط لا يحتاج إلى التفكير في البحث عن انتماء إلى الساقية. ومن لا يعي ذلك يكون كمثل السمكة الصغيرة التي قالت للسمكة الكبيرة: "المعذرة، أنت أسنّ مني وأخبر. فهلا أخبرتِني أين أجد ذلك الشيء الذي يسمونه البحر؟" ردت السمكةُ الأكبر: "البحر هو ما أنت فيه الآن." فقالت السمكةُ الصغيرةُ خائبةً وهي تسبح مبتعدة لتفتش في مكان آخر عن البحر: "إيه، هذا؟! إنْ هذا إلا ماء. ما أريد هو البحر."[4]

ولكنْ كلَّما ضعُفَ الانتماء إلى الوطن (البنية الأكبر) ازدادَت قوةُ الانتماء إلى الطائفة (البنية الأصغر)، كما هي الحالةُ في لبنان بصورة كبيرة وفي سورية بصورة أقل، في ظل غياب دولة حقيقية ووطن حقيقي. وقد أدركَ ذلك منذ زمان جبران خليل جبران (لكم لبنانكم ولي لبناني) وميخائيل نعيمة (أخي! مَنْ نحنُ؟ لا وَطَنٌ ولا أَهْلٌ ولا جَارُ.) فإذا بلغَ الجوعُ إلى الوطنِ بأحيائنا إلى هذا الحد لا يعودُ بينهم وبين الأموات سوى فرْقٍ بسيط، كما تُبيِّنُ سيمون ڤايل. إذًا، "فهات الرَّفْشَ واتْبَعْني لنحفر خندقًا آخَر / نُوَارِي فيه أَحَيَانَا"، كما يؤكِّد ميخائيل نعيمة.

تقول سيمون ڤايل:

إنَّ المشاركةَ في الممتلكات الجماعية، مشاركةً لا تقوم على تمتُّع مادي، بل على شعور بالمُلْكية، هي حاجة لا تقلُّ أهميةً. إنها حالة ذهنية بدلاً من أنْ تكونَ حُكمًا قانونيًا. فحيثما تكون هناك حياةٌ مواطَنيةٌ حقيقيةٌ، يشعر كلُّ فرد بأنه يمتلك شخصيًا الصروحَ العامةَ والحدائقَ والأُبَّهةَ التي تَظهَر في الاحتفالات، وبذلك فإنَّ الترفَ الذي يرغب فيه كلُّ البشر تقريبًا يُمنَح لأفقرهم.

لكنْ كيف يمكن لمواطنٍ سوري فقير أنْ يشعرَ بأنه يمتلك تماثيلَ شخصٍ كان قد حرمَه من التنفس عبر الكلام؟ وكانت هذه التماثيل أكثر الأوابد التي تُمَيِّزُ فترةَ حُكْمِه. يقول المواطِنُ بطريقة لاشعورية مُعَـبِّـرًا عن حاجة المُلْكية الجماعية: مَدْرستي، حارتي، مكتبتي، ضاحيتي، بلدي. ولكنْ تظهرُ أعراضُ الاقتلاع عندما تتحوَّل التسمياتُ إلى: سوريا الحاكم، مكتبة الحاكم، شارع الحاكم، مَدارس الحاكم، ضاحية الحاكم، إلخ.

إنَّ مواطنًا لا يستطيع الاختيار بين نعمْ ولا في الاقتراع على من يحكم بلاده هو مواطنٌ محروم من غذاء الحرية. والحُـرِّيَّـةُ، كما تقول سيمون ﭭـايل،

غذاءٌ لا غنىً عنه للنفس البشرية. والحُـرِّيَّـةُ بالمعنى الملموس للكلمة تقوم على إمكانية الخيار. والمقصود طبعًا إمكانيةٌ حقيقية. فحيثما تكون هناك حياة جماعية فلا مناصَ من أنْ يحدَّ الخيارَ قواعدُ تفرِضُها المنفعةُ العامة.

وإنَّ مواطِنًا لا يختار الطاعةَ للحاكم عن قناعةٍ وموافقةٍ داخلية هو مواطن جائع إلى غذاء الطاعة. والطاعةُ، كما تقول سيمون ﭭـايل،

حاجةٌ حيوية للنفس البشرية. وهي على نوعين: طاعةٌ للقوانين القائمة وطاعةٌ لأناسٍ يُنظَر إليهم كقادة. وتقتضي الموافقةَ، ليس على كلِّ أمرٍ من الأوامر المُـتَـلَـقَّـاةِ، بل موافقةٌ تُمنَح مرةً واحدة، مع مراعاة شرط وحيد عند الاقتضاء هو مقتضيات الضمير. من الضروري الاعترافُ عمومًا، وأنْ يعترفَ القادةُ أولاً، بأنَّ الموافقةَ، وليس الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب، تشكِّلُ في الواقع الحافزَ الرئيسيَّ للطاعة، بحيث لا يكون أبدًا في الخضوع شُبهةُ خُنوع. لا بد من أنْ نعرِفَ أيضًا أنَّ الذين يَـأمرون يطيعون بدورهم؛ ينبغي أنْ يتَّجهَ النظامُ التراتُبيِّ كلُّه نحو هدف يحسُّ الجميعُ من الأعلى إلى الأدنى بقيمته وحتى بِسُموِّه. بما أنَّ الطاعةَ غذاءٌ ضروري للنفس فإنَّ من يُحرَمُ منها نهائيًا يمرض. وبالتالي فإنَّ كلَّ جماعةٍ يحكمها قائدٌ أعلى غيرُ مسؤول تجاه أحد تكون بين يدَيْ إنسان مريض.

والمواطنُ الذي يتعرَّضُ لأيِّ اضطهادٍ هو مواطن لديه جوع لحاجة الشرف. تؤكد ذلك سيمون ﭭـايل: "كلُّ اضطهاد يؤدي إلى جوع لحاجة الشرف."

والمواطنُ الذي لا يستطيع التعبيرَ عن عدمِ عشقِه للحاكم المستبدِّ هو مواطن جائع لحرية التعبير. و

حرِّية التعبير الكاملة وغير المحدودة عن أي رأي مهما كان وبدون أي قيد أو شرط أو تحفُّظ هي حاجة مطلقة للعقل. وبالتالي فإنها حاجة للنفس، لأنه إذا لم يكن العقل مرتاحًا فستكون النفسُ بكُـلِّيتها مريضةً.

كلام سيمون ﭭـايل هذا يؤكده أدونيسُ:

بِقَدْرِ ما تَضيق مساحة القول والفعل عند الإنسان، تضيقُ مساحة وجوده، ويضيقُ معناه[5].

والمواطنُ الذي يخافُ من عناصر الأمن مواطنٌ جائعٌ إلى الأمن. و

الأمن حاجةٌ أساسية للنفس. ويعني الأمنُ عدمَ وقوع النفس تحت وطأة الخوف أو الرعب، إلاَّ إثْرَ اتِّفاق ظروف عرَضية ولفترات نادرةٍ وقصيرة. فالخوفُ أو الرعبُ، كحالاتٍ نفسيةٍ تدوم طويلاً، هما نوعان من السم قاتلان أو يكادان يقتلان، سببُهما احتمالُ البطالة أو القمعُ البوليسي أو وجود محتَـلٍّ أجنبيّ أو توقُّعُ اجتياح محتَمل أو أيُّ بلاء آخر يبدو أنه يتجاوزُ الطاقةَ البشرية.

كما تقول سيمون ﭭـايل.

جوعُ المواطن إلى مثل هذه الحاجات يجعله غريبًا في وطنه، شجرةً بلا جذور. ولكنْ لا أملَ قطُّ من حكومة منتزعةِ الجذور في أنْ تعطيَ جذورًا. ولا يمكنُ بالحَرِيِّ لأية حكومةٍ أخرى خارجَ الوطن أنْ تعطيَ جذورًا لأبناء وطن منتزَع الجذور. لا يمكنُ لأشجارٍ شائخةٍ مقتلَعةِ الجذور لا تصلح إلا حطبًا للنار أنْ تعطيَ جذورًا لباقي شتلاتِ حقلها وأشجاره الفَتِيَّات. ولكنْ لا يمكنُ لأشجار حقولٍ أخرى أنْ تعطيَ أشجارَ ذلك الحقل جذورًا. بل قد لا يكونُ همُّ أشجارِ الحقول الأخرى سوى سرقةِ ما تبقَّى في ذلك الحقل من جذور وتراب.

يبدو أنَّ قدَر سوريا أنْ تعانيَ من بطش طغمةٍ ساهمَتْ البلادُ في صُنعِها ربما نتيجةَ تراجُعِ الوعي الحضاري لديها. فكلُّ أمة وجماعة تخضع لقانون المد والجزر في وعيها الجمعي. ومثلما أنَّ الأفراد تسري عليهم قوانينُ خاصة، كذلك فإنَّ المجتمعات تحكمها قوانين خاصة. وكما أنَّ للفرد كَرْمى [كارما] خاصة به، كذلك فإنَّ للجماعة أو الأمةِ كَرْماها. وقد أشار وِلْيَم ك. دْجَدْجْ إلى "كَرْمى الأمم":

وما يصح على الأمَّة يصح كذلك على الأسرة وعلى المرتبة الاجتماعية[6].

لكنَّ قدَر الأمة لا يعني بأي شكل من الأشكال استسلامها للاستبداد، بل يعني أنَّ هذا القدَر محصِّلة تاريخية لمجمل أعمال أفرادها، ويعني أنَّ عليها أنْ تتخلَّصَ من كارما أعمالها الجمعية السابقةِ التي راكمَتْها عبر سنين وذلك مِن دونِ أنْ تُرَتِّبَ عليها، قدْرَ الإمكانِ، أعباءً كارميةً جديدة.

فإذا حُرِمَ مُكَوِّنٌ من مُكَوِّنات المجتمع من حقوقه واقتُلِعَ من جذوره القومية والدينية والعِرقية في ظل غياب مفهوم المواطَنة فإنَّ ردَّةَ الفعل تتراكمُ في لاوعيه الجمعي (أو خافيته الجمعية، بحسب ترجمة صديق قديم) على مدى زمن طويل منتظرةً الفرصةَ التاريخيةَ السانحةَ لترتدَّ على باقي المكوِّنات الأخرى، فتَخرج الطاقاتُ المكظومة إلى الخارج لتدمِّرَ. مثالٌ على ذلك في سورية حُكْم هذه الطغمة التي حسبت نفسها على العلويين النُّصَيريين، وإنْ لم تُعْرَفْ أيةُ رياحِ اقتلاعٍ قذفَتْ بهم إلى العيش بين ظهرانيْ هذه الطائفة العِرْفانية، فوافَقَ مقتلَعٌ مقتلَعًا، حيث إنَّ العلويين السوريين عانَوا كفَلاحينَ وكأقليةٍ من اقتلاع كبير على مر التاريخ. وقد حذَّرَ في الثمانينات حسنُ الخَـيِّـر، وهو شاعرٌ سوريٌّ ينتمي إلى الطائفة العلوية الكريمة، الشعبَ السوريَّ من عصابتين تريدان اقتلاعَ البلاد هما البعث الذي أصبح أداةً في يد الحاكم ومدّعو الإسلام السياسي[7]، وذلك في قصيدة بعنوان: ماذا أقول؟. هذان الوحشان، وهما الشَّبَحُ القومي العروبي البعثي (الذي خلَّفَ الشبِّيحةَ والدمارَ) والشَّبَحُ الديني الإسلامي (الذي خلَّف التعصُّبَ والانهيار)، قد اقتتلا فيما بينهما (في الثمانينات) صراعًا على السلطة، فقتلَ الوحشُ الأول الوحشَ الثاني واستفردَ بسوريا معتبرًا إياها مزرعتَه الشخصيَّة.

إنَّ ما يدل على اقتلاع الطغمة الحاكمة في سوريا وعلى عدم انتمائها إلى الوطن هو: جوعُها الشديد المتراكم عبر عصور والذي لم ولن يسدَّه ابتلاعُ بلد بكامله وسياساتُها الطائفيةُ وقمعُها واجتثاثُها لأغلب القيم الإنسانية وحرمانُ مجتمعها من أبسط حاجاته النفسية الأساسية. فما يربطهم بسوريا أقلُّ مما يربطُ راعي غنمٍ أجيرٍ بقطيعِ سيِّده. فهلْ سألَتْ هذه الطغمة الحاكمةُ ومناصروها أنفسَهم لِمَ خرَجَ الناسُ إلى الشارع للتظاهر؟! وهل الحلُّ هو في قتلِهم؟! بالمقابل، هلْ سألَ المتظاهرون والمعارضون أنفسَهم كيف حكَمَت هذه الطغمةُ؟ ينبغي عدمُ إلقاء اللوم على هذه الطغمة ولا التفكيرُ حتى بالانتقام منها، بل التخلُّصُ منها بالتي هي أحسن أولاً ومعرفةُ سببِ اقتلاعها ومعالجتُه ثانيًا ومعرفةُ الآلية التي أوصلَتْها إلى قمة هرمِ السلطة ثالثًا، حتى لا تَظْهَرَ مستقبَلاً طغمة أخرى ذات جوعٍ واقتلاعٍ أشدّ.

وهكذا أحسَّ كثيرٌ من المواطنين السوريين أنهم بلا جذور، تجرفُ بعضُهم رياحُ الاقتلاع إلى القبور. وبعضُهم إلى الآن لم يستفِقْ في داخلِه الشعور. فهل هذه "الثورةُ" ستُعيد التجذَّرَ لشعبٍ مقهور؟ ربما يكفيه الآنَ بأنه يشعرُ بوجوده حينَ يثور.

ولكنْ هل يعتقد المتظاهرون المقتلَعون الذين تُسَيِّرُ أكثرَهم رياحُ العواطف والانفعالات والانتقام أنَّ ثورتَهم هذه ستعطيهم الحريةَ؟! وهل يعتقد النظامُ أنه بالنار سيطفئ لهيبَ ثورتهم؟!

 

الاثنين، 20 شباط 2012.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] المستقصى في أمثال العرب، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1987. كما وردَت هذه القصةُ في كُتُبٍ أخرى كثيرة منها: البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي (923–1023)، كما يلي: قال المنصور للقُـوَّاد: صدق القائل: "جوِّعْ كلبَكَ يتبعك."، فقال له حميد الطّوسي: لكنْ إنْ لُوِّحَ له برغيفٍ يتركك. (البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي، دار صادر، تحقيق: د. وداد القاضي، الطبعة الأولى.)

[2] سورة الفرقان، 44.

[3] صدرَ كتاب سيمون ڤايل بعنوان: L’enracinement: Prélude à une déclaration des devoirs envers l’être humain عن دار غاليمار Gallimard، عام 1949. وصدرَت الترجمةُ العربية لكتاب التجذُّر عام 2010 عن دار معابر للنشر بدمشق.

[4] أغنية الطائر، أنتوني دو ملو، ترجمة: أديب خوري، دار مكتبة إيزيس، دمشق، الطبعة الأولى، ‏2000.

[5] وا أُوبَاماه! وا سَركُوزاه!، أدونيس، مجلة معابر.

[6] مقال: كَرْمَى، وِلْيَم ك. دْجَدْجْ، مجلة معابر.

[7] تنبَّهَ نبيل فياض إلى أنَّ حزب البعث ذا المظهر العلماني ما هو في الحقيقة إلا وجهٌ آخر للإسلام السياسي. فكلاهما وجهان لعملةٍ واحدة. ولا أدَلَّ على ذلك من استخدام البعث لتعابيرَ دينيةٍ مثل: البعث، الرسالة الخالدة.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود