الواقعية السحرية في لعنة الحكواتي للروائي حسين رحيم

 

صباح سليم

 

لم يتيسر لحسين رحيم، شأنه شأن كثير من أدباء الموصل، ناقد جاد يتناول أدبه بالدراسة والتقويم، بل وربما كان أقل حظًا من غيره بكثير في هذا المضمار، وذلك أمر مؤسف. حسين رحيم شخصية أدبية، متنوع الموهبة والنشاطات، ولديه سمات وخصائص تميزه وتجعله نسيجًا وحده. فقد بدأ رسامًا تشكيليًا ثم اتجه إلى المسرح تأليفًا وتمثيلاً، وكتب العديد من القصص ونال عن بعضها جوائز عراقية وعربية، وضمَّنها جميعًا في مجموعته التي نحن بصددها. كذلك صرت له روايتان: القران العاشر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأنثى المدن عن النشاط الثقافي في مديرية تربية نينوى، ومجموعة مسرحيات بعنوان الأخوة ياسين.

في مقاربة بسيطة، سأحاول، وبشكل سريع، أن أعطي بعض الملاحظات النقدية المتواضعة بخصوص أربع قصص من المجموعة.

القصة القصيرة بوصفها جنسًا أدبيًا لا تستطيع أن تقدم الحياة بشموليتها الملحمية وتدفقها الحر الزاخر، والقصة القصيرة، بهذا المعنى، ذات سمة "تبحيرية" لأن كل ما تستطيع أن تفعله هو أن تقدم نتفًا من الحياة، قد تبرق فيها "إلماعات" إلى تلك الشمولية وذلك التدفق، ولكنها تظل مجرد إلماعات، ومجموعها لا يساوي تلك الشمولية، أي أن مجموعة قصصٍ ما لكاتب لا تكون بالضرورة عالمًا قصصيًا متكاملاً، ومن جهة أخرى فإن القاص حين يصور الشخصية في صراعها من أجل الحياة فهو لا يخلقها من العدم وإنما يستقيها ويعيد تركيبها من مادة الواقع المعاش. لقد استطاع حسين رحيم، منذ ما يقرب من عشرين عامًا، أن يكوِّن لنفسه أسلوبًا مستقلاً ولغة خاصة في صياغة القصة القصيرة أقرب ما يكون إلى أسلوب الواقعية السحرية. يبدو أن حسين رحيم منفعل بأحداث قصصه ويحب أن يأخذ دور البطل فلا يغادر الشخصية في أي تصور، ويساعد على التلاؤم مع هذا المنطلق ضمير المتكلم الذي يقص. ولكننا لا نستطيع أن نرى في القصة كل طباع القاص وشخصيته حتى لو تكلم من خلال ضمير الأنا، فالقاص يمتلك أحقية اختيار ما يناسب لإيصال عمله الأدبي بأية وسيلة كانت، وهذا ما نجده في قصته الذي هو أنا أكثر مني حيث تنهض الذكريات في اللحظات الحرجة، ودائمًا ما تنهض، وتنبعث في خريف العمر حيث تتحول الذكريات إلى نوع من التداعي الحر حيث يلتقي بطل القصة بنفسه ولكن قبل عشرين سنة في مشهد افتراضي جارح للنفس، وهذا التداعي موجه لصالح التشاؤم أكثر من خلال وتيرة الحياة البائسة، خاصةً حين يغادر مدينته متجهًا إلى وحدته. إن حضور الماضي بثقله المرير وسنوات الإحباط والتراجع وتكرار الخيبات، يصبح أمام البطل/الماضي/الحاضر هو وجه من وجوه الأدانة للماضي الذي تسبب بهذا الحاضر.

أما صمت الدم فتطرح بشكل رمزي مكثف ما تسسببه الحرب من نتائج كارثية على الأفراد، حيث يقع البطل ضحية للحرب إذ يفقد حاستي السمع والنطق حتى ليدفعه ذلك إلى الأحساس بالإغتراب أمام العالم وأمام ذاته أيضًا. إنها محاولة لأسطرة واقع الحرب أو ترميزها وخلق رؤيا مركبة تصدم القارئ وتحيله إلى الأحساس بالفاجعة التي تتركها الحرب على الآخرين، وذلك بلغة قصصية مكثفة وموحية لا تحفل بالتفاصيل والجزئيات المحسوسة بقدر ما تحفل بالإيماء والإيحاء.

في قصة لعنة الحكواتي نلتقي تجربة أخرى، فللوهلة الأولى تنتابك حالة الشخص عندما يجلس أمام "القصخون" ليسمع ما يروى له ثم ما تلبث أن تؤمن بقدرك المدفون في النص. إن لعنة الحكواتي توحي لك بأنها ملتقى هذا الارتباك والدهشة، والبحث كفيل باستنباط تجليات هذه اللغة الزاخرة بأنفاس فلسفية صارخة (كيف يمكن للحكمة أن تأخذ بيد المرء عاليًا في تراتبية من خلق كريم وشخصية كيسة) لتذهب بعيدًا في تداعيات قريبة من نسيج الحكي المكثف بالرموز، وهي طريقة سردية تبني نسقها على التكثيف والتنافر النمطي للأحداث والشعرية السوريالية، وما هي سوى هاتف الداخل، هاتف اللاوعي الزاخر النافر بالصور المشوهة بمخلوقات أرثنا الإنساني وصراعنا اليومي الوهمي مع كل شيء بدءًا بمخلوقات الواقع وانتهاءً بمخلوقات النوم. وإن كان يسمي الأشياء بمسمياتها لكن في تركيب غريب يعطي أبعادًا دلالية وايحائية متنافرة، فذلك نمط سردي تنازل فيه الواقعي للفنتازي في تواطؤ يؤسس للبناء السردي للحكاية بوصفه نسيجًا لغويًا له خصوصية المرجعية في قصص ذات منحى فلسفي تعبر عن ذهنية تأملية مشحونة بتداعيات تعبر عن لا توافقها مع الواقع المعاش الذي شوَّه كل القيم الإنسانية ودمَّرها.

في السياق نفسه نقف عند قصة السيد وادي عكاب الآتي من خلفية انثربولوجية، فالسارد المصاحب للمتكلم يصف لنا "امرأة عجوز تحركها قدمين جميلتين على طريق ضيق بين شواهد القبور وعينيها تفتشان" وهي موضوعة معاينة الموت عند زيارة القبور. والواقع أن الأسلوب الذي سلكه القاص للتعبير عن ميثولوجية الموت وحضوره في اللاوعي الإنساني عبر تذوقه وتذكره للنص في حد ذاته بالبناء السردي القائم على تمطيط حدث لا يمسه إلا صاحب التجربة الذي سيموت عند نهاية السرد. تتحرك القصة ضمن هذا النمط الزمني وتأخذ شكل ملاحظات ذهنية وبصرية لتتحول إلى لغة وصفية ثم إلى نسق استعاري تخييلي يسكن القاريء.

لقد استطاع حسين رحيم أن يضمِّن النص عدة تساؤلات وتأويلات تبدأ بالفردي لتصل إلى الجمعي. إن مجموعة قصص لعنة الحكواتي، التي قرأتها مرة واحدة، دفعت بي إلى الفرح، لذلك على القارئ العربي أن يقتنع بأن القصة في الموصل ستعطي وتضيف إلى القصة العربية وستتجاوز الحدود مهما حوصرت.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود