|
الفن في البورصة
لا تزال سوق الأعمال الفنية تحقق أرقامًا قياسية بين وقت وآخر. اللوحات التي تُباع، أكان بالمزاد العلني أم بوسائل أخرى، هي من نتاج فنانين ينتمون إلى حقبات وتيارات فنية متنوعة. بعض هؤلاء عاش حياته معدمًا، وبعضهم الآخر، الأكثر حداثة، يتمتع بما تدرُّه عليه لوحاته من مبالغ مالية طائلة. خلال عصور طويلة لم يكن بيع العمل الفني واردًا على النحو الذي عرفناه منذ قرن ونصف القرن. كان خلال عصر ما قبل التاريخ عبارة عن حاجة ذاتية تمليها، في بعض الأحيان، نواح طقوسية. فالتشكيل، في بداياته، هدف إلى التآلف مع قوى خارجية، ومحاولة السيطرة عليها رمزيًا، لكسر حاجز الخوف من المجهول. في فترات لاحقة صارت المعتقدات الدينية حول الحياة والموت أساسًا يتعلق به كل ما رُسم على جدران المقابر أو المعابد. كان الرسامون عبيدًا للأسطورة، وكذلك كان النحاتون، وقد عمل هؤلاء في خدمة السيد، فرعونًا أكان أم ملكًا أم زعيم قبيلة. يصعب التكهن بما كان يتلقاه الرسام أو النحات لقاء عمله، لكن، وحتى في تلك الفترة، جرى التمييز بين الفنان الناجح والأقل نجاحًا، بحيث تلقَّى الناجحون هبات وبدلاً لأتعابهم أكثر من سواهم. على أن بعض المعلومات تكشف أن الإفادة من موهبة العبيد كانت واردة في اليونان القديمة، لقاء القوت اليومي ليس أكثر، وثمة عبارة قديمة تعبِّر عن موقع العبد حينذاك: "كانوا (اليونانيون) يشترون العبد كما نشتري اليوم آلة من الآلات". في خدمة الكنيسة ما يهمنا هنا هو الحديث عن الرسامين الجداريين، علمًا أن الرسم الإيقوني كان يسير في شكل مواز للجداريات، وقد يكون الأكثر غلبةً وانتشارًا في بعض الأماكن. يمكن الحديث عن جداريات ذات قيمة فنية عالية ابتداء من القرن الثالث عشر ومن نهاياته تحديدًا. على أن هذا الفن كان بلغ ذروته في نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر، وكانت الكنيسة هي المكان الأرحب لاستيعاب المنجزات الفنية، بعدما وظفت لديها أشهر فناني تلك المرحلة. وقَّع ميكال أنجلو عقدًا عام 1508 لرسم سقف كنيسة سكستين في الفاتيكان. لم نعثر على وثيقة تفيدنا عن المبلغ المتفق عليه لقاء هذا العمل، مع علمنا أنها موجودة في مكان ما. في كل الأحوال، وبعد معاينة السقف "الأسطوري" المنجز، لا بد من الاعتقاد أن العمل العملاق الماثل أمامنا يساوي مبلغًا فلكيًا، نشك في أن ميكال أنجلو كان حصل عليه في ذلك الوقت. من الصعب، لا بل من المستحيل، اقتناء عمل من أعمال فناني تلك المرحلة، لذا يتسلى البعض بمحاولة تقدير سعر هذه اللوحة أو تلك، بدءًا بـ"مادونا" فيليبو ليبي مرورًا بربيع بوتيتشللي، وصولاً إلى موناليزا ليوناردو دافينشي. قدَّر أحدهم، استنادًا إلى المعايير المعروفة في يومنا الحاضر، التي وضعها اختصاصيون، أن سعر الجوكوندا يجب أن يراوح بين 500 و800 مليون دولار. لكن هذه التقديرات تبقى افتراضات ذات طابع سوريالي. أما من الناحية الواقعية، فما يجذب الانتباه هو ذاك المسمَّى الكتاب الذهبي الصادر منذ مدة، عن ميكال أنجلو وأعماله. غلاف الكتاب مصنوع من المرمر المنحوت، في حين كُتب النص على ورق مشمَّع وقد صُنعت منه 99 نسخة فقط، سعر كل نسخة مئة ألف أورو. الكتاب الثمين ما هو، في رأينا، سوى شكل من أشكال التعويض الرمزي لمن شاء اقتناء شيء له علاقة بالفنان، في ظل انعدام إمكان الحصول على عمل من أعماله. ملاعين الزمن الانطباعي أعلنت الانطباعية، منذ العقد السادس من القرن التاسع عشر، بداية عصر جديد تغيرت خلاله الأساليب والمقاييس والمعايير، في ظل إتباع الانطباعيين نهجًا تشكيليًا يتناقض مع القواعد الأكاديمية المعمول بها حتى ذلك الحين. ترافق ذلك مع بداية إمكان تنظيم المعارض الفنية في العاصمة الفرنسية، لكن المشاركة فيها كانت تتطلب الموافقة على الأعمال التي من شأنها أن تُعلَّق في الصالات. عام 1863 رفض الصالون الباريسي لوحة ادوار مانيه، غداء على العشب، ثم انسحب الحظر لاحقًا على أعمال الانطباعيين في مجملها، لكونها خارجة على المألوف ومخالفة لـ"الذوق السليم". اضطر هؤلاء إلى تنظيم صالون خاص بهم عام 1874 دُعي "صالون المرفوضين". زار كثيرون الصالون المذكور للسخرية من الأعمال المعروضة، وكان من الطبيعي أن لا يُقدم أحد على شراء لوحة انطباعية. عانى الانطباعيون من الرفض الرسمي، ومن هجمات النقاد وآرائهم السلبية، إضافة إلى معاناتهم المادية بسبب عجزهم عن بيع أعمالهم. لكنهم استطاعوا، شيئًا فشيئًا، اكتساب عطف الجمهور، وساعدهم في ذلك بول دوران رويل، الذي عرض أعمالهم في لندن ونيويورك. لكن هذا النجاح لم ينسحب على الجميع دفعة واحدة، فاذا كان رينوار توصل إلى اكتفاء ذاتي نسبي عام 1879، وتبعه مونيه في بداية ثمانينات القرن التاسع عشر، وبيسارو في التسعينات من القرن نفسه، فإن سيسلي انتقل إلى جوار ربه فقيرًا معدمًا. تشاء سخرية الدهر أن تدخل لوحة مانيه أولمبيا، التي رُفضت في الستينات، بعد 44 عامًا إلى متحف اللوفر (هي الآن في متحف أورسي). منذ زمن قصير عام 2000، بيع أحد أعمال مونيه بمبلغ 20 مليون دولار.
أولمبيا في تلك الفترة، أي نهايات القرن المذكور، بانت ظاهرة "الفنان الملعون"، التي كان من أبرز ممثليها لوتريك وغوغان وفان غوغ. فتك مرض يصيب العظام بلوتريك، وأدَّت كسور في ساقيه إلى توقف نموِّهما. اطفأ الفنان لهيب معاناته في الحانات وعلب الليل والكحول ومعاشرة العاهرات، فأصيب بمرض السفلس ومات مبكرًا. أما غوغان فترك أسرته وبلده وسافر إلى هاييتي هربًا من الحضارة الغربية، ومن كل ما هو اصطناعي وتقليدي، وعانى بدوره من مرض أودى به عام 1903. بقي فان غوغ، صاحب التاريخ الأشهر في سوء الحال الذي كرَّسه مرض الصرع والمزاج المتقلب والفقر. لم يحظ الفنان بأيِّ تشجيع إلا مرة واحدة، حين أشار البر اوريه، في مقال كتبه عام 1890، إلى أهمية أبحاث الفنان وقيمة أعماله. بعد شهر على ذلك اشترت الرسامة أنَّا بوش إحدى لوحاته، بستان العنب الأحمر، بمبلغ 400 فلوران، وكانت تلك اللوحة اليتيمة التي باعها خلال حياته، واقتناها عام 1936 جامع اللوحات الروسي شتشوكين، لتنتقل لاحقًا إلى متحف بوشكين في موسكو، بعدما أممتها الدولة السوفياتية. بين 1902 و1911، بيعت 55 لوحة لفان غوغ بمبلغ 50 ألف فلوران، ومنذ ذلك الحين، أو ما بعده بفترة قصيرة، بدأ نجم الفنان بالسطوع بعدما أدرك الجميع، نقادًا وجمهورًا فنيًا، عمق أبحاثه اللونية وفرادة أسلوبه ليصبح، في يومنا هذا، من أغلى فناني العالم. إذ لو استعرضنا لائحة اللوحات الـ21 المبيعة بأعلى الأسعار خلال العقود الماضية، لوجدنا أن خمسًا من لوحات فان غوغ تقع ضمن اللائحة المذكورة، بينها بورتريه الدكتور غاشيه التي بيعت عام 2006 بمبلغ 138 مليون دولار في العام نفسه. هذه الأسعار القياسية شملت فنانين ما بعد انطباعيين آخرين كرينوار، على سبيل المثال، الذي بلغ ثمن لوحته Bal du moulin de la Galette 131 مليون دولار، عام 1990. تجارة الفن شكَّل الانطباعيون، المنقلبون على التقاليد، حالة نموذجية انبثق منها الاعتقاد القائل إن الفنان لا يُعترف به خلال حياته، بل بعد مماته. لكن هذا المفهوم لا ينطبق على فناني القرن العشرين إلا في بعض الحالات الخاصة، بعدما ساهمت في تغييره عوامل عدة منها أن النهج الأكاديمي لم يعد معيارًا يتم على أساسه تقويم العمل الفني وتحديد العلاقة به. ثم أن الجمهور أصبح أكثر قابلية للتعامل مع الفنون الحديثة، نظرًا إلى أن الثقافة الفنية، في الغرب، لم تعد حكرًا على النقاد والمهتمين بتطور الحركة التشكيلية المعاصرة، بل صار لدى الجمهور معرفة، وإن نسبية، بأمور الفن ومشكلاته. في النصف الأول من القرن العشرين، لوحظ تكوُّن فئة من البورجوازية تهوى الفن الحديث وتجمع بعض نتاجه. هذه الفئة المسماة collectionneurs امتلكت القدرة على شراء أعمال فنية بأسعار مرتفعة، وارتبط جامعو اللوحات هؤلاء بأصحاب صالات العرض، وبسماسرة من نوع خاص وبمقتنصي الفرص، وهم يكوِّنون جميعًا فئة "تجار الفن"، الذين يمتلكون حسًا وخبرة يساعدانهم على تمييز الجيد عن السيئ، وعلى استشراف آفاق المستقبل الذي من شأنه أن يرفع فنانًا معينًا ويحط من قدر آخر. (يُقال إن أحد هؤلاء "التجار" لاحق الفنان موديلياني في أواخر أيامه، بعدما فتك به مرض السل وأصبح على حافة الموت، لعلَّه، أي التاجر، يحقق صفقة في تلك اللحظات الأخيرة، من خلال شراء بعض أعمال الفنان بسعر بخس). في ذلك النصف الأول من القرن العشرين كانت التيارات الفنية تتوالد على نحو سريع وكثيف، وتنتج أعمالاً يصعب تقدير قيمتها المستقبلية، حتى على التجار المذكورين. لكن عملية رصد مسيرة الفنان وإمكان تقدير قيمة أعماله، كانا، في كل الأحوال، أقل تعقيدًا من السابق. على هذا الأساس حظي فنانون بالشهرة وهم في ذروة عطائهم، أو على الاقل وهم على قيد الحياة، واستطاع بعضهم تحقيق ثروات، وخصوصًا من كان يعير الناحية المادية أهمية خاصة. سلفادور دالي خير مثال على ذلك. الكيتش في أبهى صوره كنا تحدثنا عن تغير المعايير والمقاييس، وهذا يتبدى بوضوح في أيامنا الحاضرة، في ما يختص بالفنانين الأغلى سعرًا عالميًا، وهم لا يزالون أحياء. يحتل المراكز الثلاثة الأولى كل من جاسبر جونس ومن بعده جيف كوتس، ثم داميان هيرست. يعتبر جاسبر جونس، مع روشنبرغ، من مؤسسي البوب آرت، ذاك الفن الشعبي بالمفهوم الأميركي، الذي ليس سوى إعادة تقويم بصري للأشياء والأحداث كما يتعامل معها الإنسان الأميركي، وفي ذلك تحديد لجزء من حياته اليومية، من دون أن يؤدي الأمر إلى طرح أي مسألة تتعلق بها أو تعبِّر عنها في شكل جوهري. أعمال جاسبر جونس ذات طبيعة دادائية، يستخدم فيها الأشياء لذاتها، كالعلم الأميركي والأرقام والرديئات، ليتحرى، من خلالها، الإمكانات التعبيرية الملازمة لعالم التفاهة والابتذال، على ما يشير كريشتون. لكن هذا المبتذل استطاع أن يخطف انتباه جمهور معين قادر على شراء أعمال جونس بأسعار خيالية. هذا الجمهور نفسه المؤلف من كبار الأثرياء، ممن يندرجون تحت فئة الـnouveaux riches، أقدم على شراء الأرانب المنفوخة وبالونات على شكل كلاب وتماثيل أخرى يخططها جيف كونس، ومن ثم يصنِّع اختصاصيون تلك التماثيل، بحيث قد يتطلب العمل ثلاث سنوات لإنهائه. بقي داميان هيرست، الفنان الإنكليزي الذي يعتبر أن "الفن يمكن أن يكون حقيقيًا أكثر مما هو في التصوير التشكيلي". وبما أنه كان يعالج العلاقة بين الفن والحياة والموت، غدا الموت موضوعًا أساسيًا في أعماله التي اشتملت على حيوانات محنطة: خنزير، بقرة، خروف، أو حتى سمكة قرش، بعضها مقطوع جزءين ومحفوظ في سائل الفورمول، لكن أغلى أعماله المبيعة عبارة عن جمجمة من البلاتين مرصعة بـ8601 ألماسة، وقد بلغ سعرها 100 مليون دولار.
ينبغي هنا القول إن أعمال الفنانين الثلاثة تعدى سعر كل منها مبلغ 50 مليون دولار لدى بيعها في بعض الأحيان. بقي أن نشير إلى أن أغلى سعر للوحة في تاريخ الفن المعاصر كانت دفعته دولة قطر ثمنًا للوحة سيزان لاعبو الورق، عام 2011، في حين لم تُعرف تفاصيل الصفقة إلا حديثًا، وبلغ سعرها ربع مليار دولار. وإذا كنا نناضل في وطننا من أجل إقامة متحف للفن التشكيلي، فإن حسابًا بسيطًا يجعلنا نقول إن مبلغ الـ250 مليون دولار الذي كان ثمناً للوحة واحدة يكفي لإقامة متاحف تشكيلية في عشرات المدن والبلدات اللبنانية على أقل تقدير.
لوحة لاعبو الورق لبول سيزان *** *** *** |
|
|