|
كلما تقدمت مسيرة العلم كلما اتسعت مساحة المفهوم وتقلصت مساحة المجهول
يعتبر الباحث والمفكر السوري فراس السوَّاح علامةً فارقةً في ميدان الدراسات التاريخية والميثولوجية كما تدل على ذلك مؤلفاته التي توزعت بين مباحث شتى، شكلت بمجملها إضافة هامة ورافدًا خصبًا في مجال الدراسات الميثولوجية على وجه التحديد. لقد دفعته هواجسه منذ صغره إلى استنكاه ما هو أبعد من تلك الحدود والتصورات التي صنعتها الثقافة السائدة حول ما يعتبر في قاموسها محظورًا ولامفكرًا فيه، ليقدم للمكتبة العربية إضافات معرفية خصبة أسهمت إلى حدٍ كبير في إثراء العقل العربي وإذكاء الروح النقدية فيه. صدر للسواح تسعة عشر مؤلفًا منها: مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة 1978، دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني 1994، الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية 1997، الوجه الآخر للمسيح 2004. وآخر ما صدر له عام 2011 الإنجيل برواية القرآن. ع. ك. * سؤالي ينطلق من مهمة السوَّاح كمفكر وباحث في ميدان الميثولوجيا وتاريخ الأديان: أية راهنية لهذا العلم في عصر التكنولوجيا الفائقة بكل تجلياته التي باتت تشيع بين ظهرانينا، وكيف تُقيِّم من ثم موقع هذا العلم من اهتمامات وانشغالات الباحثين والمؤسسات الأكاديمية على مستوى الوطن العربي؟ فراس السواح: من أهم السمات المميزة لحضارتنا الحديثة هي وعيها التاريخي الذي يتجلى في ذلك المشروع الكبير الهادف إلى فهم الماضي على كل صعيد. فلقد ابتعثنا تاريخ الكون من خلال علم الفيزياء الكونية، وتاريخ الحياة من خلال علم البيولوجيا، والتاريخ الطبيعي للإنسان من خلال علم الأنتروبولوجيا الطبيعية، وتاريخه الثقافي من خلال علم الأنتروبولوجيا الثقافية... إلخ. ونحن نشهد منذ عدة قرون تبلور علم جديد يدعى تاريخ الأفكار، الذي صار له كرسي أستاذية في كثير من الجامعات الغربية. وعلم الأفكار هذا لا يُعنى فقط بتاريخ الفلسفة وإنما يتعداها إلى ما أنتجه العقل الإنساني في مجالات الحكمة والدين والميثولوجيا. فالإنسان عاجزٌ اليوم عن فهم نفسه ودوره في هذا الوجود إذا لم يفهم كل ما يمت إلى ماضيه بصلة، لا سيما تاريخ أفكاره. فالفكرة هي المحرك الأساسي للتاريخ، وتكوين الأفكار هو الدافع المبدئي لأي نشاط إنساني يهدف إلى التغيير. وبما أن الفكر الأسطوري شغل ما يزيد عن 99% من عمر الإنسان منذ أن اتخذ وضعية الانتصاب قبل مليون سنة، فإنه حري بالدراسة والفهم من قبل عصر التكنولوجيا الفائقة الذي ما زال الفكر الأسطوري يعشعش فيه. أما عن الحيِّز الذي يشغله علم الأسطورة وتاريخ الأديان من اهتمامات الباحثين في العالم العربي فضيقٌ جدًا، وبالكاد أستطيع الآن تذكُّر عددٍ من الباحثين في هذا المجال يزيد عن أصابع اليد الواحدة. وقبل صدور كتابي الأول عام 1976 لا يحضرني أي اسم على الإطلاق. لقد حرض كتابي ذاك بعض العقول، ولكن هؤلاء لم يسلكوا في طريق علم الأسطورة بل في طريق نقد الفكر الديني. ولكنك في حقيقة الأمر أسست لمبادئ في نقد الفكر الديني، لأننا نرى بعض الذين نحوا هذا المنحى، يستندون إلى كتاباتك في جدالهم. فهل الكتابة في الأسطورة ومنشئها وتاريخها، بعيدةٌ عن أطروحات النقد الديني اليوم، أم أنها ترفده بما يلزم من أدوات؟ ف. س.: أنا أنتمي إلى منظومة بحثية تدعى اليوم بفينومينولوجيا الدين. والباحث الفينومينولوجي (=الظاهراتي) ينطلق في عمله من موقفٍ متعاطفٍ مع الدين بصرف النظر عن قناعاته الشخصية، أما نقَّاد الفكر الديني فينطلقون من موقفٍ معادٍ للدين وفي انسجامٍ مع قناعاتهم الشخصية. كما أن الفينومينولوجي يكتفي بوصف الظاهرة التي يدرسها دون أن يتجاوز ذلك إلى الخروج بأحكام قيمية عليها، على عكس نقاد الفكر الديني الذين يشرعون في عملهم من أجل الانتهاء إلى أحكامٍ قيمية. ولكي أعطي مثالاً واقعيًا على هذا أقول إن داروين عندما خرج من دراسته لأصل الأنواع بنظريته القائلة بأن الإنسان لم يُخلق في أحسن تكوين وإنما تطور عن كائنٍ يشبه الشيمبانزي ويشترك معه في الأصل، لم يكن في ذهنه أفكار مسبقة عن الدين، ولم يستخدم نتائجه العلمية في نقد نظرية التكوين التي قالت بها الأديان. وبالتالي فإنه لم يكن مسؤولاً عن الجدل الذي ما زال قائمًا بخصوص نتائجه. أنت تشكك بكون الفلسفة قد وضعت حدًا للفكر الديني والميثولوجي، وتعتبر أن الفلسفة قد شكَّلت المرحلة التالية على السحر وعلى الفكر الديني، ومنها انطلق العلم التجريبي في صيرورة وتطور الفكر الإنساني. ما هو برأيك السبب الذي جعل من الأسطورة عند كثيرين نقيضًا وخصمًا للفلسفة والعقل؟ ف. س.: الدين والفلسفة صنوان لا خصمان، وذلك لجهة طرح الأسئلة الأساسية ومحاولة الإجابة عليها. ولكن ما يميز الفلسفة عن الدين وعن أشكال الحكمة الإنسانية الأخرى، هو أنها تقوم على مبدأ البرهان العقلي الذي تحوَّل إلى برهان تجريبي ورياضي في العلوم التي استقلت عنها. والفلسفة وربيبها العلم يبقيان في حيِّز اختصاصهما ما داما يبحثان في الظواهر الطبيعية أو في المنطق ونظرية المعرفة وما إليها، ولكنهما لا يستطيعان اكتناه الظواهر الروحانية حيث لا ينفع منطق وحيث يحل الإيمان محل البرهان. من هنا فإن الحالة المثلى للعلاقة بين هذين الصنوين هي التعايش جنبًا إلى جنب. في مثل هذه الحالة لا جُناح على العالم في أن يتخلى عن الإيمان عندما يدخل إلى المختبر، وأن يتخلى عن البرهان عندما يدخل إلى المسجد أو الكنيسة. لقد درست كمفكر وباحث الأسطورة بأدوات المؤرخ إذا جاز التعبير، واعتبرت أن الأسطورة منتج انفعالي غير عقلاني، لكنه ليس كذلك بالمطلق، لأن الأفكار هي بمثابة الناقل والمعبِّر عن ذلك الانفعال. سؤالي يجنح إلى السيكولوجيا أكثر منه إلى صلب ما تشتغل عليه كمؤرخ ميثولوجي، مع تشابك ما ينطوي عليه المساران: ما الذي يحمل الإنسان العربي بوجه عام على استدخال الأسطورة إلى وعيه من وجهة نظرك، وهل يصح اعتبار ذلك نتاجًا طبيعيًا لهيمنة الفكر الغيبي على العقل العربي؟ ف. س: في جوابي على هذا السؤال استمرار لجوابي على السؤال الذي سبقه. فالفكر الغيبي والفكر العلمي هما حالان لمواجهة الإنسان مع العالم. في الحال الأول يواجه الإنسان ظواهر يمكن له فهمها وتفسيرها، وفي الحال الثاني يواجه ظواهر لا يمكن فهمها وتفسيرها. وكلما تقدمت مسيرة العلم كلما اتسعت مساحة المفهوم وتقلصت مساحة المجهول. ومع ذلك فإني لا أعتقد بأن العلم سيكون قادرًا، في مستقبلٍ مهما بَعُدَ، على الإجابة على كل شيء. والحقائق العليا لن تكون أبدًا في متناولنا. إننا نعرف حتى الآن على سبيل المثال أن المُتَّصل المكاني الزماني (أو الكون) قد نشأ عن انفجارٍ كبيرٍ حصل قبل نحو ستة عشر مليار سنة، عندما تبعثرت كتلة مادية متناهية في الصغر ومتناهية في الكثافة، ونشأت عنها مليارات المجرات التي راحت تتباعد عن نقطة الانفجار بسرعاتٍ خيالية، وما زالت حتى الآن تفر في كل اتجاهٍ على محيط الكون. ولكن من أين جاءت هذه الكتلة الأولى؟ وما الذي وُجد قبلها؟ وإلى أين يتجه هذا الكون وماذا يوجد وراء حدوده المتوسعة؟ مثل هذه الأسئلة هي التي استعدت الفكر الغيبي الذي يتعامل مع مسائل غيبية اعترف العلم بعجزه عن التعامل معها. وما دامت الأسئلة قائمةً سيدوم معها الفكر الغيبي. المشكلة ليست في وجود الفكر الغيبي أو زواله، وإنما (كما قلتَ في سؤالك) مدى سلطته وطغيانه على العقل العربي. وهذه السلطة سوف تتقلص مع دخولنا الحقيقي في عصر العلم الذي ما زلنا على أعتابه. سؤالي يتعلق بحيادية المؤرخ في سياق بحثه في الماضي الإنساني وبناء معرفة علمية حول هذا الماضي. برأيك ما الذي يحدُّ من منسوب حيادية المؤرخ وموضوعيته في معالجته ومقاربته وتقصيه لهذا الماضي؟ ف. س.: يشكو علم التاريخ من آفتين هما آفة الهوى وآفة الإيديولوجيات القومية والدينية. يُضاف إلى ذلك وجود عروة وثقى بين جنس الكتابة التاريخية وجنس الكتابة الأدبية، فكلاهما يحكي قصة إحداهما خيالية في الكتابة الأدبية (التي تدعى بالإنكليزية Fiction، وهو الشيء المتُخَيَّل) والثانية واقعية حدثت في مكانٍ معين وزمانٍ معين. هذه الصلة بين الجنسين تتضح لنا من أصل كلمة History أي تاريخ في اللغات الأوروبية، فهي مشتقة من الكلمة اليونانية Historia التي تعني القصة. وبداعي هذه الصلة فإن المؤرخ الذي يشعر في لاوعيه بأنه يكتب قصة، قد ينساق إلى إعمال الخيال في ردم فجوات الماضي وتتحول عنده الأماني إلى وقائع. وتزداد العلاقة بين الأدب والتاريخ تعقيدًا عندما يتم تجنيد الكتابة التاريخية لصالح الإيديولوجيات. فهنا يغيب التفكير المنطقي والمنهج العلمي، وتفسح الحقائق التاريخية مكانها للقصص المزودة بسطوة الأسطورة. فالإيديولوجيات القومية والدينية لا تكتفي بتفسير التاريخ وإنما تعمل في أحيانٍ كثيرة على خلق التاريخ، لأن ما يفوق الماضي أهميةً هو تأثيره وعواقبه على المواقف ووجهات النظر الثقافية في الوقت الحاضر. وهنا تغدو استثارة الماضي من بين أكثر الإستراتيجيات شيوعًا في تأويل الحاضر لا في فهمه، ويتحول الصراع على الماضي إلى صراعٍ على الحاضر من خلال ابتكارات خيالية لماضٍ يعاد بناؤه بشكلٍ تعسفي، وتتحول الكتابة التاريخية إلى صياغاتٍ بلاغية وعقائدية محملة بالعواطف والانفعالات. ولدينا مشكلة ذات طابع موضوعي في الكتابة التاريخية. وهي أن ما نعرفه عن الماضي يشبه جزرًا صغيرةً مبعثرة في محيط واسع تفصل بينهما مفازاتٌ مائية مشبعة بالشك وعدم اليقين. وهذا لا يعني أن الحدث التاريخي ليس شيئًا مخبوءًا بكل تفاصيله ينتظر منا الكشف عنه، بل هو نتاج منهج البحث التاريخي الذي لا يهدف في رأيي إلى تقديم تقريرٍ أمين عن الماضي بقدر ما يهدف إلى تقديم تصورات نراها الأقرب إلى ما حدث فعلاً. فالماضي قد ولّى ولم يترك لنا وراءه سوى شذرات من نقوشٍ كتابية ولقى أثرية علينا أن نستنطقها بمنهجية صارمة، مع ترك هامشٍ من الشك والاعتراف بالجهل. هذا الشك هو الذي يحمينا من التحول من مؤرخين إلى أدباء يصوغون سردية مطردة انطلاقًا من وثائق غير مطردة. سأطرح عليك سؤالاً يأخذ طابعًا شخصيًا إلى حدٍ ما، ولا ريب أنه سؤال يخالج الكثيرين عندما يتعلق بمؤرخ ومفكر لديه رصيد وافر وثري من الدراسات والأبحاث على امتداد تجربته في ميدان تاريخ الأديان: ما الذي دفعك للانخراط في دراسة هذا العلم تحديدًا؟ هل لديك أسئلة مزمنة دفعتك على سبر أغوار هذا العلم أملاً في الظفر بإجاباتها. حدثنا عن تجربتك؟ ف. س.: كان الله هاجسي منذ الطفولة عندما اختبرت وجوده في أعماق نفسي ولكن عقلي لم يجده. ولذلك فقد رفضت العقائد الجاهزة التي تقدمها الثقافة التي أنتمي إليها، ورحتُ أبحث عن الله وتجلياته في ثقافات العالم الأخرى. وليست مؤلفاتي سوى مذكراتٍ تصف هذه الرحلة في تاريخ أديان الإنسان. وهل وجدت الله في هذه الرحلة؟ ف. س.: يقول شهيد التصوُّف الحسين بن منصور الحلاج في أحد أبيات شعره: رأيتُ ربّي بعين قلبي قلتُ من أنت؟ قال: أنت وأنا أفهم من هذه البيت عكس ما فهمه الآخرون، ولا أجد أبلغ منه في التعبير عن الله باعتباره حقيقةً نفسانية. وأنا إذ أصف أي حقيقة بالنفسانية فإني لا أقلل من قيمتها، لأن الحقائق النفسانية تكون في كثيرٍ من الأحيان أكثر تأثيرًا على الأفراد وعلى المجموعات البشرية وعلى التاريخ من الحقائق الموضوعية. يضاف إلى ذلك أن الحدود الفاصلة بين النفسي (أو الذاتي بشكلٍ أعم)، والموضوعي لم تعد على ما نشتهي من الوضوح. وهذه نقطةٌ لا أستطيع التوسع في شرحها هنا. أبحاثك بمجملها تشكل مشروعًا فكريًا يحوز على قابلية الإضافة والبناء، ما الذي يشغلك حاليًا؟ وبماذا تعدِ القارئ العربي في الأيام القادمة؟ ف. س.: أنا عاكفٌ منذ مدة على دراسة الكتب المقدسة للديانات الثلاث الشقيقة، وهي التوراة (أو العهد القديم)، والقرآن، والإنجيل (أو العهد الجديد)، وإجراء المقارنة بينها. وقد صدر لي في مطلع هذا العالم الكتاب الأول في هذا الصدد بعنوان الإنجيل برواية القرآن. وفي هذا العنوان إشارةٌ إلى أن للقرآن روايته الخاصة لأحداث الإنجيل وتعاليم يسوع تضاف إلى الروايات الأربع المعرفة وهي روايات متى ومرقس ولوقا ويوحنا. وتتميز هذه الرواية بالاتفاق إلى حد التطابق مع المتن الإنجيلي، ولكنها تختلق مع اللاهوت المسيحي. وحتى هنا فإن الاختلاف ليس جذريًا كما يتصور البعض. إنه كتابٌ في حوار الإسلام مع المسيحية، وهو في رأيي حوار لم يعقد من قبل إلا على مستوى الإعلام السطحي وشعارات المجاملة. لقد قلتُ للطرفين ما يتوجب قوله وبقيت على مسافةٍ متساويةٍ منهما. أجرى الحوار: عبد الستار الكفيري |
|
|