أذرعـات

 

محمود الزيباوي

 

احتلت درعا فجأةً الواجهة في الآونة الأخيرة، وتردَّد اسمها عبر مختلف وسائل الإعلام المحلية والعالمية. هي مدينة صغيرة تقع في أقصى جنوب الدولة السورية حيث تجاور مدينة الرمثا الأردنية، وهي مركز للمحافظة التي تحمل اليوم اسمها بعدما عُرفت سابقًا بمحافظة حوران. تبدو المدينة بالنسبة إلى عابر السبيل بلدة عادية تخلو من أي جاذبية، غير أنها في الواقع واحدة من أقدم المدن العربية، ذُكرت في التوراة باسم "إذرعي"، وتحوَّل هذا الاسم في الجاهلية فصار أذرعات، وهو الاسم الذي لازمها على امتداد العصور الإسلامية المتلاحقة.

يذكر العهد القديم أن اليهود هزموا عوج، ملك مقاطعة باشان الجبار، وقتلوه في إذرعي (تثنية 3: 10)، وهذا الاسم عبري، معناه على الأرجح "ذراع" أو "قوة". في المقابل يتردد اسم باشان عشرات المرات في التوراة، وهو كذلك عبري، معناه "أرض مستوية"، اسم مقاطعة من أرض كنعان تقع شرق الأردن، بين جبلي حرمون وجلعاد (عدد 33:21)، كما أنه اسم لجبل في تلك البلاد (مزمور 68: 15). شملت هذه المقاطعة حوران والجولان واللجاة، حدودها أراضي دمشق شمالاً، وأرض جلعاد جنوبًا، والبادية شرقًا، وغور الأردن غربًا. تقول الرواية التوراتية إن عوج كان عملاقًا، له سرير من حديد "طوله تسع أذرع، وعرضه أربع أذرع بذراع رجل" (تثنية 3، 11)، وقد تصدَّى لبني اسرائيل، واصطدم بهم في أذرعات، فقتلوه مع بنيه، وتقاسموا مدن مملكته. هذا العملاق معروف في الأدبيات الإسلامية باسم عوج بن عوق، وُلد في زمن آدم، ونجا من الطوفان في زمن نوح، وحارب العديد من الأنبياء، وكانت نهايته حين رفع الجبل ليرمي عسكر موسى بالجبل، فجعل الله هذا الجبل طوقًا في عنقه، فأرداه موسى قتيلاً.

           

درعا عام 1917                                                    درعا اليوم

أدنى الأرض

بعد العبرانيين، تعاقب على حكم منطقة حوران تباعًا الأشوريون، والكلدانيون، والفرس، والسلوقيون. ثم ألحقها الأمبراطور بومبيوس بمقاطعة سوريا الرومانية، وأصبحت في عهد الأمبراطور تراجان جزءًا من المقاطعة العربية. أبرز الشواهد الأثرية التي تعود إلى تلك الحقبة مدرج من القرن الثاني يتسع لنحو ألفي متفرج، له مدخلان في الشرق والغرب، ويمتد شمالاً إلى شارع يُعرف بـ"الشارع الروماني". تجاور هذا المسرح في الجانب الشرقي، بقايا جدار معبد روماني وآثار أخرى تعود إلى عهود لاحقة. عرفت هذه البقاع الدين المسيحي في مرحلة لاحقة، ثم أضحت تابعة للحكم البيزنطي، وشهدت الحروب المحتدمة بين العرب والفرس. يشير القرآن إلى هزيمة الروم "في أدنى الأرض" (الروم، 2). وينقل الطبري في تاريخه عن عكرمة "أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض، وأدنى الأرض يومئذ أذرعات، بها التقوا فهُزمت الروم". تتحول إذرعي في العربية أذرعات، وهو اسمها منذ الجاهلية، كما يُستدلُّ من قول امرئ القيس:

ومثلكِ بيضاء العوارض طَفلة             لَعوب تنسيني إذا قمتُ سربالي
تنوَّرتُها من أذرعات وأهلُهـا            بيثرِب أدنى دارها نظرٌ عـالِ

يتردد هذا الاسم في كتب التراث الإسلامي على مدى قرون من الزمن. غلب الفرس الروم، ثم غلب الروم الفرس، وأنهكت هذه الحرب المتواصلة الفريقين المتنازعين. دخل العرب المسلمون، وعقدوا مع أهل أذرعات صلحًا كما روى البلاذري في فتوح البلدان:

اجتمع المسلمون عند قدوم خالد على بُصرى، ففتحوها صلحًا، وانبثوا في أرض حوران جميعا فغلبوا عليها. وأتاهم صاحب أذرعات فطلب الصلح على مثل ما صولح عليه أهل بصرى، على أن جميع أرض البثنية أرض خراج. فأجابوهم إلى ذلك.

بعدها، جاء الخليفة عمر بن الخطاب إلى الشام، فاستقبله "أهل أذرعات بالسيوف والريحان"، فقال: "امنعوهم". وردَّ أبو عبيدة: "يا أمير المؤمنين هذه سنتهم، أو كلمة نحوها، وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضًا لعهدهم". فقال الخليفة: "دعوهم". قبل مرحلة الفتح، تذكر السيرة النبوية جلاء يهود بني عريض إلى أذرعات، وقد شهد شاعر من أهل المدينة هذا الجلاء، فقال:

فأجلى النضير إلى غربـة                وكانوا بدرا ذوي زخرف
إلى أذرعـات رد أفاوهم                 على كل ذي دبر أعجف

طرف الشام

نقع على اسم أذرعات في أشهر الموسوعات الجغرافية العربية. هي في القرآن "أدنى الأرض"، وهي "طرف الشام"، بحسب تعبير مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع. في كتاب البلدان، يسمي أبو العباس اليعقوبي كور جُند دمشق، وهي تباعًا:

الغوطة، وأهلها غسان، وبطون من قيس، وبها قوم من ربيعة. وحوران، ومدينتها بصرى، وأهلها قوم من قيس من بني مرة، خلا السويدا، فإن بها قومًا من كلب. والبثنية، ومدينتها أذرعات، وأهلها قوم من يمن ومن قيس.

وفي أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، يذكر المقدسي البشاري أذراعات في وصف "أقليم الشام"، وهي هنا في "الصف الرابع" حيث يقع "سيف البادية، وهي جبال عالية باردة معتدلة مع البادية، ذات قرى وعيون وأشجار". "وتخوم هذه البادية تأخذ من ويلة على مدائن قوم لوط، وتصعد إلى مآب، ثم على تخوم عمان وأذرعات ورساتيق دمشق وتدمر وسلمية وأطراف حمص". وفي معجم البلدان، يجعل يعقوب الحموي من أذراعات اسمًا عربيًا: "كأنه جمع أذرِعة جمع ذراع جمعُ قلة. وهو بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعَمان، يُنسب إليه الخمر". "وقد ذكرتها العرب في أشعارها لأنها لم تزل من بلادها في الإعلام وقبله"، ومنهم شاعر قال فيها:

ألا أيها البرقُ الذي بات يرتقي            ويجلو دُجى الظلماء ذكرتني نجدا
وهيجتني من أذرعات وما أرى           بنجد على ذي حاجة طربـًا بُعدا
ألم تر أن الليل يقصُرُ طُولُــهُ           بنجد وتزداد الرياحُ به بـــردا

شهدت إذراعات الحروب المتلاحقة التي عاشتها بلاد الشام في القرون الوسطى. هاجم القرامطة حوران، فقاتلهم أميرها سعيد بن عامر بن قيس الشهابي، وصدَّهم، "وكانت إقامته بمدينة أذرعات، وتوفي بها"، كما نقل الزركلي في موسوعة الأعلام. وفي زمن الحروب الصليبية، قصد الإفرنج أذرعات ونهبوها، لكنها عجزوا عن دخول بصرى، كما نقل ابن الأثير في الكامل في التاريخ. بعدها، برز الأتابكة الزنكيون، وأضحت حوران مركزًا من مراكز المعركة المحتدة في مواجهة الصليبيين. ثم دخل المغول الدولة العباسية المحتضرة، واجتاحوا بغداد ووصلوا إلى ميافارقين، بين دجلة والفرات، وأخذوا يعدُّون العدة للهجوم إلى حلب، وواجههم المماليك، فكانت لهم الغلبة بعد صراع طويل، وبات قطاع حوران تحت حكمهم حتى دخول العثمانيين في مطلع القرن السادس عشر.

مرحلة الأفول

خلال تلك الفترة المتقلبة من التاريخ، دخلت المنطقة شيئًا فشيئًا في حال من الجمود، وفقدت بريقها. في نهاية القرن الثالث عشر، وضع ابن شداد كتاب الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، وذكر "ما احتوى عليه جُند دمشق من الكور، وهي قسمان، برية وبحرية". وفقًا لهذا التقسيم، كان عدد الكور البرية يومها تسعة، منها "كورة حوران، ومدينتها بصرى"، و"كورة البثنية، ومدينتها أذرعات". ضمن هذا السياق، نقل ابن شداد حديث البلاذري عن أذرعات، وأضاف معلِّقًا:

لم يتصل بي شيء من ذكرها بعدُ. والظاهر عندي أنها ولايات مضافات، إذا ليس فيها مدينة معتبرة فيكون لها ولاية مقرَّرة.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود