|
الثقافة والتنمية والديموقراطية
في ضوء المستجدات التي عرفها العالم منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين، صار الحديث عن الثقافة أمرًا مختلفًا عن ذي قبل، وغدت المسألة الثقافية مثار نقاش واسع. فقد غيرت ثورة التكنولوجيا والاتصالات من طبيعة الأشياء، وصارت المعلومات ورؤوس الأموال تنتقل في زمن حقيقي، مخترقة الحدود والدول والفضاءات. ونتج عنها أن الثقافة أصبحت بضاعة معولمة، تتحكم في إنتاجها وتسويقها شركات عملاقة. وساد تنميط للبضاعة الثقافية وتسويقها عبر شبكات تتحكم فيها شركات عالمية تنتمي في الغالب إلى بلدان الشمال، ويتحكم فيها عدد من المتنفذين الذين حولوا المنتوج الثقافي والإعلامي والترفيهي إلى سلعة معولمة. وإذا اعتبرنا أن المعلومات والإعلام هما شكلان من أشكال الثقافة، فإن حجم التدفق المعلوماتي والإعلامي أضحى هائلاً في أيامنا هذه، وفيه بعض مكامن الخطر على البيئة الثقافية العربية، التي لم تعد بالقوة التي كانت عليها يوم كان الفعل الحضاري العربي أقوى أثرًا وفاعلية، لكن الحل ليس بتشييد الأمن الثقافي الذي يُجيَّر لصالح إغلاق النوافذ والأبواب تجاه كل ما هو قادم من خارج البيئة الثقافية العربية، بل بانتهاج استراتيجية تنمية ثقافية، فضلاً عن أن إغلاق النوافذ في هذا العصر بات عصيًا ومستحيلاً. ويذهب العديد من علماء الاجتماع إلى التأكيد على دور الثقافة المميز في التنمية، حيث يعتبرونه موازيًا للبُعدين الاجتماعي والاقتصادي. لذلك علينا التركيز والبحث عن الكيفية التي تجعل الثقافة ركيزة من ركائز التنمية، وبالتالي علينا رعاية الثقافة وتوفير الأسس والإمكانيات التي تعمل على إرسائها في المجتمع المدني، ورعاية الإنسان، حامل الثقافة وبنائه ماديًا ومعنويًا. وقد بينت تجارب الشعوب أن الاستثمارات الأجنبية والمساعدات لا تحقق التنمية المرجوة، لأن من يحقق ذلك هو الإنسان المثقف المتمكن من استخدام وتوظيف التقنيات والتكنولوجيا. ولا نبالغ في القول بأن الرباط ما بين التنمية والثقافة هو رباط متين وعضوي، نظرًا للدور الأساسي الذي تضطلع به الثقافة في التنمية، لذلك ينبغي تحسين ظروف معيشة الإنسان، بما يحافظ على القيم الاجتماعية وإنتاج قيم جديدة، عبر عمل دؤوب يسطِّره مسار ثقافي يمكن للفرد بواسطته التعبير عن ما يدور بداخله وإتاحة فرص الاتصال والخلق والتطلع إلى فضاءات جديدة. فالإنسان هو الذي يسير ويشارك وينفذ التنمية، وهو مركب من جسد وفكر، ومغمور بالمشاعر والأحاسيس والأفكار والمعتقدات والمواقف والاجتهادات والتطلعات والرغبات والأماني. ولإغناء الثقافة لا بد من التنمية الثقافية، عبر تقوية مختلف أشكال التعبير الثقافي، ونشر الثقافة من خلال توفير الظروف المناسبة للإنتاج وللإبداع، وتوفير الظروف المناسبة كذلك لامتلاكها. لذلك فإن بقاء الثقافة أمرًا خاصًا بالنخبة، وغيابها عن بقية أفراد، سيهدد المجتمع بأسره، وبالتالي من الضرورة بمكان جعل الثقافة مشروع مجتمع، وليس حكرًا على قلة قليلة فقط. ومن المهم القول بأن طبيعة المخاطر التي تهدد بلداننا العربية لا تأتي من الخارج فقط، بل من الداخل كذلك، أي من النهج الانفرادي للسلطات العربية، والسبيل الوحيد هو تمتين الداخل بما يتيح لكل القوى الاجتماعية الفاعلة في التعبير عن مكنوناتها والمشاركة في التنمية الثقافية. ولتجاوز الأزمات المتمثلة في الضعف والعجز والتردي لابد من البدء بالتنمية الشاملة وإرساء دعائم الممارسة الديموقراطية، من خلال تعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل الحوار والتعددية، والإقرار بالآخر المختلف واحترام الرأي الآخر. وكذلك توفير حرية التفكير والبحث العلمي، وإشادة نظام تعليمي مختلف تمامًا عن النظم التعليمية القائمة حاليًا في بلداننا العربية، يقوم أساسًا على تأهيل كوادر تعليمية رفيعة المستوى، واحترام عقول الناس وتوفير رسائل تمكينهم من الاستيعاب النابه للمعلومات والآراء وإبداع الأفكار. وينبغي الابتعاد عن المقولات والقوانين التي تشرِّع للانزواء والانطواء، ورفض منجزات الحضارة الحديثة، لأن الأجدى هو التواصل والانفتاح المدروسين، وفهم الدرس النقدي الواعي بعقل منفتح، لأنه يمكننا من امتلاك القدرة على التعامل مع ما هو قادم، وامتلاك ناصية العلم والمعرفة وتسخيرهما في التنمية الشاملة. أما بخصوص علاقة التنمية بالديمقراطية فإنها أثارت جدلاً واسعًا في الفكر السياسي العالمي، وفي الاقتصاد السياسي أيضًا، مع أن النقاش حول حيثيات وطبيعة العلاقة بينهما لم يحسم بعد في أوساط المفكرين والباحثين، وكذلك لم يحسم النقاش حول علاقة التنمية بالاستبداد والأنظمة الشمولية. ويمكن الاستنتاج بوجود علاقة سببية بين التنمية والديمقراطية بالاستناد إلى تجارب بعض البلدان في العالم، حيث يمكن القول أن أدبيات الاقتصاد السياسي تفيد بأن التنمية يمكنها أن تقود إلى الديموقراطية، فالبلدان التي نجحت في تطبيق الديمقراطية حقَّقت في معظم السنوات معدلات نمو أعلى من تلك البلدان التي أخفقت في تطبيقها، وحققت كذلك معدلات نمو أعلى من متوسط النمو في البلدان التي لم تحاول تسير في الطريق الديمقراطي، وبالتالي، فإن البلدان الديمقراطية أفضل أداءً، على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من البلدان ذات الأنظمة التسلطية والشمولية، وتسهم في بناء دول أكثر استقرارًا مقارنة بالأنظمة غير الديمقراطية، وتقدم تركيا اليوم المثال على بلد إسلامي سلك الطريق الديمقراطي وحقق نجاحًا في التنمية، وبات نموذجًا يحتذى. من جهة أخرى، هناك العديد من الأنظمة غير الديمقراطية التي حققت نجاحات في التنمية، والصين خير مثال على ذلك. وتقدم تجارب الدول الآسيوية، كتايوان وكوريا الجنوبية واندونيسيا، أمثلة على أنظمة فاسدة وتسلطية، تمكنت من السير في طريق التنمية، ثم تحولت إلى بلدان ديمقراطية، ومع ذلك فإن تبني الديموقراطية والحريات السياسية أمر هام جدًا للتنمية الاقتصادية والإنسانية، بوصفهما قيمتان هامتان في حدِّ ذاتهما. ويمكن النظر إلى التنمية بوصفها عملية توسع في الحريات الحقيقية، التي يتمتع بها أفراد المجتمع، ذلك أن التنمية، في جوهرها، هي إزالة مصادر افتقاد الحرية مثل الفقر، والاستبداد، وشح الفرص الاقتصادية، والحرمان الاجتماعي، والغلو والتطرف، وإهمال المرافق والمؤسسات العامة. ويقترن نقص الحريات بشكل مباشر بالفقر الاقتصادي، لأن الأخير يسلب الناس حقهم في الحرية، وفي الحصول على حاجاتهم الأساسية، ويكون افتقاد الحريات، في أحيان أخرى، مقرونًا بضعف الدولة، وضعف إمكاناتها، وافتقاد المرافق العامة والرعاية الاجتماعية. وتشير أغلب دراسات الاقتصاد السياسي الحديث إلى أن التنمية الاقتصادية، تعتبر المحرك الاساسي لفتح مسار التحول الديمقراطي في الأنظمة الشمولية، فيما يفضي استمرار تعثر التنمية إلى استمرار التسلط وانتشار وتفشي ظواهر الفساد والبطالة وانتهاك حقوق الوطن والمواطن، وبالتالي فإن طريق الديمقراطية تتعمق مع السير في طريق النمو الاقتصادي، المترافق بتطور العلوم والتكنولوجيا، وازدياد قوة الدولة الاقتصادية، والذي ينعكس إيجابًا على مكانة الدولة، إقليميًا ودوليًا، وعلى المجتمع المدني وتقدمه. وتبيِّن تجارب البلدان العربية أنها حققت تقدمًا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية خلال العقود الأولى التي أعقبت الاستقلال الوطني، وعرف أغلبها تجارب ديمقراطية وانفتاح سياسي داخلي خلال لحظات عديدة، لكن الديمقراطية لم تتجذر فيها مع الأسف، حيث أنهت الانقلابات العسكرية كل تعددية وممارسة ديمقراطية، وطرحت النخب العسكرية التي وصلت إلى الحكم بالقوة شعارات فارغة من محتواها حول الديمقراطية والتنمية والتقدم. وبعد عقود من حكمها لبلدان عربية عديدة، لم تتمكن الأنظمة السياسية من تحقيق التنمية المطلوبة، ولم تسر في طريق التحول الديمقراطي، بل احتكرت الثروة والسلطة، وجعلت الدولة خاضعة لمصالح فئات مقرَّبة منها، مع تزايد الفساد والمحاباة والمنافع الفئوية الضيقة، وترتب على ذلك تشوهات وإخفاقات في نظام الحكم، وفي علاقة الحاكم بالمحكوم، وفي الإدارة والاقتصاد الوطني ومختلف مفاصل الدولة. ومنذ عقد السبعينيات من القرن العشرين المنصرم، سيطر الريع النفطي على اقتصادات المنطقة العربية، وعلى مجتمعاتها، حتى على تلك الدول التي لا تملك نفطًا، حيث رسَّخ التأثير السياسي للثروة النفطية القيود المفروضة بالأصل على الممارسة الديموقراطية في البلدان غير النفطية، إلى جانب تأثير استمرار النزاعات الإقليمية، وبشكل شكل خاص النزاع العربي الإسرائيلي. وكان لهذين العاملين الأثر الكبير في تعثر المسار الديمقراطي والتنمية، حيث جرت عمليات مقايضة البحبوحة المالية بالمشاركة والحقوق السياسية، وأدت الحروب مع العدو الإسرائيلي، والاستغلال السيء لشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" إضافة إلى النزاعات الأهلية، إلى إسكات جميع الأصوات المطالبة بالانفتاح الديمقراطي والمشاركة السياسية. والمفارق في الأمر أن النزاعات والحروب في نهاية المطاف، ولأسباب مختلفة، أفضت إلى عملية دمقرطة لاحقة في مناطق أخرى من العالم، لكنها لم تحقق ذلك في العالم العربي. ويشير تقرير "تحديات التنمية العربية" الذي صدر مؤخرًا إلى أرقام خطيرة، تتعلق بمعدلات الفقر والبطالة والأمية وغيرها، في البلدان العربية، حيث يعيش حوالي مائة وأربعون مليون إنسان عربي تحت خط الفقر. والأسوأ هو أن معدلات الفقر فيها لم تشهد أي انخفاض خلال السنوات العشرين الماضية، بل إنها ارتفعت في بعض البلدان. أما معدلات البطالة، فتضرب الرقم القياسي بين الشباب، وتصل إلى 77.8%. ووفق التقرير تحتاج الدول العربية إلى توفير 51 مليون فرصة عمل جديدة خلال السنوات العشر القادمة كي يتمَّ توفير المرونة المطلوبة في أسواق العمل العربية. والبطالة، خصوصًا بالنسبة إلى الشباب، ليست مجرد نقص في الدخل يمكن أن تعوضه الدولة مقابل كلفة مالية، بل هي في ذاتها عبء خطير جدًا، كونها تشكل أيضًا مصدر إضعاف بعيد المدى للحرية والمبادرة والمهارات الفردية، ولها آثار عدة، من بينها: الإسهام في الاستبعاد الاجتماعي للشباب، وفقدان الاعتماد على الذات والثقة بالنفس، بالإضافة إلى أضرار تصيب الروح والجسد. خلاصة القول، إن الديمقراطية والتنمية هما من الإشكاليات الجوهرية، والارتباط بينهما ضروري لنهوض بلداننا، ذلك أن الديمقراطية تلعب الدور الرئيس في التنمية الإنسانية، بمختلف أبعادها. وقد بيَّنت تجارب البلدان الناهضة على جدل العلاقة بين الديمقراطية والتنمية. لكن، الملاحظ في تجارب الدول العربية، أن معظمها يفتقر إلى الممارسة الديمقراطية في السياسة والحكم، ولم تحقق، في المقابل، التنمية المطلوبة، مع أنها نظريًا وضعت في سلم أولوياتها التنمية والتطور، لكنها لم تتبنَ مسارًا واضحًا للتنمية الإنسانية، ووضعت عراقيل عديدة في طريق التحول الديموقراطي. المستقبل، الأربعاء 27 تشرين الأول 2010، العدد 3813، ثقافة وفنون، صفحة 20 |
|
|