|
قطوف من شجرة الحياة 13
يصعب على المرء أن يتنكر لماضيه مهما حاول ذلك. قد يكون الأمر متاحًا لديه في حضور من لا يعرف، ويتمكن، بالتالي، من إخفاء تبعات سقوطه في تجربة لم تكن في صالحه، وتمنعه من الاعتراف بما ارتكب من خطأ يدينه في حضور هؤلاء. بيد أن هذا لا يحول بينه وبين إرادة اختيار الطريق الأكثر استقامة، يسير عليه بملء إرادته، إن هو شاء، قبل أن يزداد انزلاقًا في نفق الخطايا، على غرار الطامعين بكسب الدين والدنيا معًا وهم يجهلون أو يتجاهلون أن الإنسان لا يمكنه أن يعبد الله والمال في آن، أو يجهلون ويتجاهلون أن خير ما يفعله الإنسان لحاضره ومستقبله أن يعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر. *** عندما يمتلك أحدنا الشيء بسهولة قد يفقد معناه لديه، ولكن عندما يفقده غالبًا ما يشعر بأنه في حاجة إليه. هذه القاعدة في الحياة تكاد تكون عامة ومألوفة لدى الناس كافة. وفي اعتقادي أننا بتأثير تبعاتها نخسر الكثير ولا نربح سوى القليل إذا نحن أخطأنا تقدير قيمة الأشياء التي نمتلكها مهما كان حجمها عمدًا أو عن سابق تصوُّر. إننا نخسر الكثير لأننا لم نتعرف على مزايا الأشياء التي نمتلكها قبل أن نفرِّط أو نضحي بها، ونربح القليل القليل لأننا لم نفد من تلك المزايا، وخصوصًا عندما يفوت أوان الإفادة منها ولا نعثر عليها. *** إنسان العصر، كما هو إنسان كل العصور السالفة، بحاجة إلى نعمة التأمل، وخصوصًا في بعض الظروف، وخصوصًا في أوقات سؤال نفسه لماذا وكيف، حيث تزداد حاجته إليها حينئذ. ولعلَّ أدق اللحظات التي يحتاج إليها الإنسان في حياته للتأمل، تلك التي تجعله يصدرالحكم على ذاته قبل أن يدينها أو يبرئها. إن التجارب التي يخوضها أحدنا في الحياة، تدفعه للوقوف عند مفترق طرق حيث يتساءل بينه وبين نفسه ترى أي الطرق يختار، لماذا، وكيف. من هنا يكتسب التأمل قيمة لا تضاهى في حياة المرء كي يتمكن من تحقيق التوازن في ذاته. *** معظم القيم المثلى المعروفة في العالم، وعلى مدى العصور كافة، توصي بأنه يترتب على الإنسان أن يتمسك بالمبدأ الذي يُشعِره باستقلاليته وبوطنيته معًا، وتحديدًا في الأوقات التي يتعرض فيها، هو أو وطنه، إلى موقف يتطلب منه الإعلان عن موقف مستمد من وحي المبدأ الذي رُبي عليه وهو صغير. والمبدأ، كما نعلم، حتى يأخذ أبعاده من دون مواربة تجاه النفس أو تجاه الآخرين، لا بدَّ أن يُمارس بشكل عملي لا بشكل نظري، بمعنى أن نكون مبدئيين وعمليين في الوقت نفسه. وبغير هذا نكون كمن يخفي قامته وقسمات وجهه وراء لبوس غير لبوسه وقناع مستعار، وذلك على غرار الممثل الذي يؤدي دورًا، من تأليف سواه، على خشبة مسرح إلى أن يسدل الستار عليه. *** من الأمور البديهية في الحياة القول بأن الرفض لمجرد الرفض هو تصرُّف غير موضوعي، كذلك القول بإن القبول لمجرَّد القبول هو تصرف غير موضوعي. الرفض يجب أن يكون مسنده المنطق ومقاربته بوعي للواقع حيال مسألة تستدعي اللجوء إليه، كذلك القبول يجب أن يخضع، بدوره، إلى هذه المعادلة حتى لا يتخطى الموضوعية. إن الخروج على هذه المعادلة في الحياة، لا بد أن يسيء إلى مبدأي الرفض والقبول معًا عندما يكون مسندهما مجرد السير وراء غريزة عمياء لا تعرف لها بداية ولا نهاية. من هنا غالبًا ما تنحرف رغباتنا عن مجراها الطبيعي ويكون السقوط في التجربة في كلتا الحالتين. *** من الأمور البديهية في الحياة القول بأن الرفض لمجرد الرفض هو تصرُّف غير موضوعي، كذلك هو الحال حين يقال بأن القبول لمجرد القبول هو أيضًا تصرُّف غير موضوعي. الرفض يجب أن يكون مسنده الحقيقي المنطق ومعايرة الواقع، كذلك هو حال القبول يجب أن يستند إلى المنطق ومعايرة الواقع، ذلك لأن الخروج من إطار هذه القاعدة، لا بد أن يسيء إلى مبدأي الرفض والقبول معًا، وتحديدًا حين يكون هدفهما مجرد تحقيق غريزة عمياء لا تُعرف لها بداية ولا نهاية. وفي سياق تجاهل متطلبات هذه القاعدة، وبالتالي تجاهل الموقف حيال هذه المسألة أو تلك، رفضًا أم قبولاً، غالبًا ما تنحرف رغباتنا عن مجراها الأخلاقي، ويكون الانزلاق في الخطيئة. *** مهما حاول المرء أن يخبىء وجهه وراء مساحيق التجميل، فإن هذا الفعل المصطنع لن يضفي قيمة على الأصل سوى لبعض من الوقت، ذلك لأنه مع مرور الزمن، عاجلاً أو آجلاً، لا بدَّ أن تزول المساحيق من على وجه صاحبها، وبالتالي لا بدَّ يظهر حينئذ على حقيقته. إن كثيرين من الناس، في أوقاتنا الراهنة، يعتقدون أن التواري وراء المظاهر التي تجمِّل صورتهم أمام الآخرين، يمكن أن يلعب دورًا في إقناعهم بغير ما هم عليه في حقيقتهم. بيد أن هذه القناعة، شأنها عمليًا شأن القناع المستعار الذي لا بد أن يسقط في لحظة انتهاء دور كان يؤديه في مجتمعه لاعتبارات تتعلق بمحاولة خداع الآخرين، لجهة تحقيق مصلحة خاصة، وبذلك سرعان ما يقتطف ثمار فشله. *** قد يجد المرء أكثر من وسيلة ليبرىء نفسه أمام القاضي من تبعات فعل يكون قد ارتكبه. وقد يكون الفعل جريمة أو جنحة وسوى ذلك مما يحاسب عليه أو يقاضى من أجله. وقد يفلح مرتكب هذا الفعل أو ذاك في مسعاه بشكل أو بآخر، بيد أنه حين يقف أمام المرآة في إحدى غرف منزله وجهًا لوجه، فإنه لن يحقق النتيجة ذاتها، ولن يتمكن من تبرئة نفسه جرَّاء فعل ارتكبه وتمكن من التملص من العقاب تحت قبَّة المحكمة. والسبب، في فشله، أنه سيكون هو نفسه القاضي الذي لا يمكنه خداعه، مهما حاول ذلك. *** أحيانًا يردد أحدنا العبارة الدارجة: "قل كلمتك وامش"، وغالبًا من دون أن يدري إلى أين سوف يمشي. ولكن حين نردد مع الشاعر قوله: "إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمرد"، فهل ثمة من لا يدرك المعنى الكامن وراء هذا القول؟ وهل ثمة من يستطيع حقًا تجنب إدراك هذا المعنى بهروبه إلى الأمام إن صح التعبير؟ يطرح السؤال نفسه خصوصًا في الزمن الذي بات فيه الناس يسقطون في التجربة، بل ويتنكرون، عمدًا وعن سابق تصور، لمعروف سبق أن أسدي إليهم في أوقات شدَّتهم على سبيل المثال. ثمة في عصرنا الحالي، شواهد عديدة على انحدار الإنسان في هوة ما تعنيه عبارة تكريم اللئيم. فهل يصح نصحهم بعبارة "قل كلمتك وامش" من دون أن يدري إلى أين يسير؟ *** *** ***
|
|
|