مذكرات الأب يوحنا-2

 

هاني بيطار

 

ولدت في بلدة صغيرة من الريف، هي أقرب إلى القرية منها إلى المدينة، وأقرب إلى الداخل منها إلى الساحل. كانت قرية يوم ولدت، وكبرتْ مع الأيام فأضحوا يسمونها بلدة، ومنهم من يبلغ به الإسراف في المفاخرة فيسميها مدينة. على أني لا زلت أحبُّ أن أسميها قرية أو ضيعة. ضيعتي!... هي أحلى على سمعي، وهي أقرب إلى قلبي.

كانت قرية تتألف من حارتين، الحارة الشرقية والحارة الغربية، وكانت قرية مسيحية بكامل أهلها ينتمون جميعًا إلى الطائفة الكاثوليكية، وقد تحوَّلوا إليها منذ قبل مولدي ببعض السنوات، إذ كانوا قبلها ينتمون من القديم للطائفة الأرثوذكسية.

ومنذ القدم، يوجد في كل حارة كنيسة، ولكل كنيسة كاهن، والكاهنان يتبعان نفس الأبرشية ونفس المطران، وكلا الاثنين أيضًا هما من نفس العائلة والكنية الواحدة، كنية أو عائلة الخوري، غلب عليهما اسم الخدمة أو نوع الممارسة، ولا أقول اسم المهنة، لأنَّ الكهنوت خدمة دينية مقدسة تختلف عن ممارسة المهنة ولا تهبط إلى مستوى المهنة.

إني من هذه العائلة. وقد توارثت عائلتي نفس الخدمة، ونفس الصفة والرتبة في نفس الكنيسة منذ عشرات السنين المتواصلة ربما بلغت المائة سنة أو تجاوزت. فكاهن الحارة الغربية هو الخوري جرجس الخوري، وكاهن الحارة الشرقية هو الخوري بطرس الخوري وهو أبي. وهذا وهذا أولاد أولاد عم، أي أن الواحد من الاثنين يقع في الدرجة السادسة من القرابة مع الآخر.

وأما السبب كما سمعته من أمي، في تحوُّل الاثنين ومعهما القرية بحارتيها وكنيستها من الأرثوذكسية إلى الكاثوليكية، أنَّ الكاثوليكية جاءت مع دخول الانتداب الأجنبي وتوالي الارساليات التبشيرية إلى البلدة ولم تجد لها فيها موطئ قدم. إلى أن جاء يوم، قام فيه والدي بعقد الزواج بين شاب وفتاة قريبين من الدرجة الرابعة. وبلغ الأمر مطران الطائفة الذي استاء لأن الزواج بين قريبين من هذه الدرجة يشترط الإجازة والإذن المسبق من المطران، فلم يكن منه إلا أن تعجَّل بحرمان والدي من الخدمة لمدة ستة أشهر وبالإعلان عن إيفاد كاهن بديل يحل محلَّه خلال هذه المدة، وكله من دون أي تحقيق ولا سؤال. ولو أنه كان حقق وسأل، لكان تبين له أن الفتاة كانت حاملاً من ابن عمها، وأهله لا يريدون أن يتزوج منها، وقد لجأ الاثنان خفية في الليل إلى أبي، وأباحا له بما بينهما، فسارع إلى المباركة وعقد الزواج بينهما قبل أن يصبح الصباح تفاديًا من شيوع الفضيحة وما قد يلحقها من العداوة والإنتقام الذي يمكن أن يؤول إلى القتل، وانطلق بالعروسين إلى بيت أهل العريس يعلن الزواج ويباركه مستعينًا بصفته وهيبته واحترام الناس له وثقتهم به، وهو طبعًا لم يذكر شيئًا عن سبب مسارعته لعقد الزواج دون مراجعة الأهل، ولم يبح بالسرِّ الذي اعترف له به العروسان، وقد بقي هذا السرُّ مكتومًا.

ضجت القرية لدى سماعها خبر الحرمان الذي أصدره المطران بحق والدي، فتوافد أهلها إلى بيتنا على رأسهم الخوري جرجس كاهن الحارة الغربية، وانتقلوا مع أبي يحاصرون كنيسة حارتنا بانتظار وصول الكاهن البديل، وعند وصوله، استقبلوه بلطف داخل الكنيسة، ونهض الخوري جرجس ليعلن له أن القرية بكنيستها لم تعد أرثوذكسية وليطلب إليه أن يعود من حيث أتى ليبلغ ذلك إلى سيادة المطران. وعلا التصفيق داخل الكنيسة وخارجها لكثرة المتجمهرين، وارتفعت الزلاغيط، وكان أكثر المندفعين والمتحمسين شباب عائلة العروسين القريبين من الدرجة الرابعة، ولم يعرف الكاهن البديل المسكين كيف ينسحب من هذه الغوغاء مع المحافظة على وقاره.

وبعد أسبوع، استقبلت القرية بالهتاف والزغاليط مطران الأبرشية لطائفة الكاثوليك يرافقه لفيف كبير من رجال الدين ومن وجهاء هذه الطائفة من بعض القرى المجاورة.

إن الكاهن، أي الخوري، غير الراهب. هذا الأخير يتزوج الثوب الذي يلبسه ويظل عازبًا. وأما الكاهن، فإنه يُرسم بعد أن يكون قد تزوج فيعيش بين الناس مع مراعاة التقوى ومع القيام بواجبات الدين وممارسة الطقوس الكنسية، وبتقديم الخدمات الكنسية للرعية. إنه الراعي للخراف المؤمنة. فإن ترمَّل عليه أن يبقى أرملاً عازبًا ولا يتزوج، أو عليه أن يخلع ثوب الكهنوت فيعود إلى الدنيا، وهذا نادرًا ما يحصل على خلاف الحال في صفوف الرهبان، والسبب فيه كما أتصوَّر، أن أغلب هؤلاء يندفعون إلى الرهبنة وهم في مقتبل العمر وقد يصمدون أو لا يصمدون. ثم إنهم يعيشون أو ينزون داخل الأديرة بعيدًا عن الناس، بينما الكهنة لا يترملون عادة إلا في سن متأخرة، وقد عاشوا ويعيشون حياتهم في وسط من يحبهم ويجلهم ويحترمهم فوق تقبيل اليد من العديدين، فهم حريصون على أن لا يفقدوا هذا الحب والاحترام الجماعي بحيث ينقلب، إذا ما خلعوا ثوب الكهنوت، إلى تحاشيهم والابتعاد عنهم مع شبه الاحتقار.

وفي التقاليد، أن الابن البكر للكاهن هو الذي يخلفه ويحلُّ محله عند وفاته، إلا إذا لم يكن للكاهن أولاد، أو كان له بنات إناث دون الذكور. عندها يُختار ويسمَّى من يتقدَّم أو من يُقترح من نفس العائلة فتبدأ به شجرة جديدة من أب لابن على التوالي، اللهم إلا إذا لم يكن في العائلة شخص أهل صلاح وفضيلة وأهل كفاءة. إنها خدمة أقرب أن تسمى خدمة طوعية أو شرفية. ولهذا، وبالرغم من التقاليد، فإن نفس الابن البكر للكاهن يملك أن يرفض خلافة أبيه والحلول محله. لكن هذا لم يحصل في الماضي في أيٍّ من العائلتين ومن الكنيستين. بارك الله بهما، عائلتان مقدستان منصرفتان للدين والكنيسة، ومسخرتان لخدمة المؤمنين وللرعية، أو أنها نفس العائلة الواحدة، تنجب لكل كاهن منها ولدًا ذكرًا بكرًا. ولم يصادف أن رفض أي ذكر أن يرث وظيفته وصفة أبيه في أيِّ مرة بالماضي.

إنني الولد الذكر الوحيد للخوري بطرس الخوري بعد أربع بنات. تأخر والدي في أن يصبح كاهنًَا لأن والده تأخر أن يموت. فمنذ ولدت كان مقدرًا ومقررًا أن أكون كاهن القرية بعد أبي، فكان واجبًا أن يختار لي اسم قديس، فسميت يوحنا تيمنًا بالقديس يوحنا المعمدان الذي عمَّد السيد المسيح في نهر الأردن. ومن أول حداثتي بدأت تهيئتي. وبوشر بإعدادي للخدمة والوظيفة المخصص لها والمخصصة بي. معنى هذا أنه كان يتوجَّب عليَّ منذ أول حداثتي أن أرافق أبي إلى القداس، وأن أحمل الشمعة أمامه، وأن أرافقه أيضًا في جميع خدمات العماد والأعراس وتشييع الموتى، كما كان يتوجب عليَّ أيضًا، وهو الأهم، أن أحفظ كتاب الخدمة والصلوات، وقد حفظتها، ولكن حفظ ببغاء دون أن أتمعن مضمون الجُمَل ومفهوم الكلام، وكان عليَّ أن أُحسن قراءة الأناجيل، كذلك باللسان دون مشاركة العقل، وعليَّ أيضًا فوق هذا وهذا أن أتعلَّم الطقوس والحركات، وكيف سوف أُبارك وأستعمل المبخرة، وكيف سوف أحمل الكأس المقدَّسة وأدور بها ثم أتقدَّم بها للمناولة، ومتى أظهر ومتى أختفي وراء ستارة الهيكل، وهذه كلها تصبح آلية مع التكرار كل أسبوع، ومنها كل يوم وفي كل عيد، إلا أنها صعبة في البداية، وقد عانيت منها في حداثتي.

ومنذ حداثتي أيضًا كان يجب أن أكون صبيًا ثم غلامًا ثم فتى غير بقية أو عموم الصبية والغلمان والفتيان، بمعنى أنه كان يجب أن أُلاحظ أنني تحت النظر والملاحظة، فعليَّ أن أكون تحت حُسن الملاحظة وحُسن النظر، أي أن لا أنطلق كما ينطلق الأولاد وكما يلعبون ويضحكون، فانكمشت وانطويت على نفسي، ولَكَمْ عانيت من هذا الانكماش والانطواء.

ومنذ حداثتي لصق بي اسم "الخوري حنا" بدلاً من يوحنا بدءًا من الأقارب ثم في الحارة وبعدها بين التلامذة في المدرسة، وحتى في كثير من المرات، بين المعلمين، سواء بانتباه أو بدون انتباه. وكنت ألاحظ الابتسامة على ثغر هذا المعلم أو ذاك عندما يناديني باسم "الخوري حنا" كأنه انزلق في خطأ غير مقصود، ولا تغيب هذه الابتسامة عن ملاحظة التلامذة فهم الآخرون كانوا يبتسمون ابتسامات أكبر وأعرض لم أكن أنسبها إلا إلى الاستهزاء والتهكم فأخجل وأحمرّ، وأصمت في مكاني. مع أن أحدًا من المعلمين لم يعاملني إلا باللطف، ولا أحدًا من التلامذة تعرض لي أو تحرش بي أو تحدَّاني وضربني. كان الجميع يعاملونني بمحبة ورقة، بينما لم تكن كذلك المعاملة فيما بينهم، كأن كل واحد منهم شيطان مارد على صغر سنه وصغر حجمه.

كان إلصاق تسمية "الخوري حنا" بي كأنه يضايقني أو يؤذيني، ولذا كنت أخجل وأحمرّ. ولم أكن بعد في سنٍّ تملك أن تتغلغل في الذات وأن تتساءل وأن تحلِّل، إلا أن شيئًا داخليًا عفويًا أو شيئًا خفيًا كان ينفر من هذا الربط المسبق، أو هذا الربط الفوري والمباشر من أول حداثتي ومطلع حياتي بين اسمي، وبين الصفة الوظيفة المقدرة لي، أقول مقدرة، كأنه قدر يفرض نفسه ليرسم سلفًا حياتي المقبلة ومصيري في هذا الوجود.

على أنني كنت صامتًا منصاعًا، لا أُناقش ولا أُعارض ولا أُمانع. أفعل ما يُطلب مني، وأسلك كما يوجهني أبي وبما يرضيه.

ولم أكن ذلك التلميذ المنظور بذكائه واجتهاده في المدرسة الابتدائية. كنت تلميذًا عاديًا وأقلَّ من عادي، كما لو كنت دائمًا مغلوبًا على أمري في الصف. ربما يعود السبب للخوف والانكماش كما ذكرت. واستمر هذا الخوف وهذا الانكماش إلى مرحلة لاحقة غير قصيرة في المدرسة الثانوية.

كانت أمي هي الشخص الوحيد التي كانت ترى في وجهي ملامح ذكاء لم يتفتح بعد ولا بد له أن يبرز ويتجلى وإن تأخر. فكانت تحوطني بحنوها الدائم، تجلس معي وترافقني عندما أحضِّر وأراجع الدرس في الليل، أو عندما أهييء الفروض. تقرأ معي وتشرح وتفسِّر، وكله بهدوء وصبر مع الحب.

وأمي لم تكن أمًا كباقي الأمهات، ولم تكن امرأة من جملة النساء، كانت شخصًا فريدًا من نوعه، بشكلها وجمالها، وبجسمها وقوامها، وبعقلها وعلمها، وبالأخص ببروز شخصيتها وقوة إرادتها... أتذكرها، وكلما تذكرتها يفيض بالحنين قلبي إن لم تفض بالدمع عيني، وصورتها التي أُصورها اليوم في هذه المذكرات، ليست صورة يرسمها الابن لأمه، ولكنها الصورة أرسمها بوصفي كاتبًا موضوعيًا.

أمي من بيت عريق بالمقارنة مع بيوت البلدة. كانت وبقيت وحيدة لأهلها، إذ ماتت أمها من حمّى داهمتها بعد فترة أيام ولادتها، ولم تكن تجاوزت العشرين من عمرها. خطب الأب بعدها امرأة أخرى بقصد أن يتزوج من جديد، وظلَّت الخطيبة تماطل وتطلب إرجاء موعد الإكليل من شهر لشهر تحت شتى الأسباب والحجج. ولما تضايق منها أهلها وقطعوا عليها طريق مواصلة التأجيل، استيقظوا ذات صباح فلم يجدوها في البيت. لقد هربت. خطفها عشيقها أو شرَّدها كما يُقال. وضجَّت الفضيحة والمحيط صغير. وفعلت الصدمة فعلها بالخطيب، فلم يعد يتزوج أو يفكر بالزواج. وتولت أم زوجته السابقة، جدة أمي، تربيتها والعناية بها.

تعلمت أمي وحصلت على الشهادة الثانوية. وكانت تنوي دخول معهد التدريس لتصبح مدرِّسة ثانوية. إلا أنَّ أبي كان الأسبق على ما يظهر، حيث طلب يدها، ووافق والدها ووافقت وتزوجا، وأصبح التدريس ومعهد التدريس في خبر كان، إلا ما يخصُّ الأولاد، أو ما يخصني أنا بالذات كما كتبت قبل قليل.

كان أبي شابًا مليء الجسم، بهيَّ الطلعة، وقد بقي مهيب الطلعة حتى في شيخوخته وإلى مماته. وهو الآخر ابن عائلة. ووظيفته ومركز الكاهن في المجتمع محفوظان له بعد موت أبيه. وتعدُّ عائلة الخوري من العائلات المرموقة في المنطقة، تملك عقارات وأطيانًا. والدليل على تقدمها في صف العراقة إقبالها على تولي الكهنوت واحتكارها هذه الخدمة، وهي خدمة شبه مجانية موردها لا يكاد يذكر، وكثيرًا ما كان أبي يعف عن هذا المورد فيرفض قبول أي عطاء أو رسم عن الصلوات والمراسم التي كان يقوم بها في خدمة الرعية.

وقد درس أبي وتعلَّم. أرسله أبوه إلى مدرسة داخلية لطائفة الأرثوذكس في حمص، وبعد أن حصل على شهادتها انتقل إلى مدرسة لاهوت في أحد الأديرة في لبنان حيث بقي سنتين يتلقى دروسًا في اللاهوت. وكما سمعت منه، لقد أحبَّه رئيس الدير وراح يحضه على أن يبقى في الدير فيصبح راهبًا، ويحلَّ محله أخوه الأصغر ليصبح كاهنًا بعد أبيه. كان أبي يحب أو يحسن درس اللاهوت، لكن كما يبدو، لم يكن عميق الإيمان أو مندفعًا نحو الدين إلى حدِّ تكريس حياته للرهبنة. لم يكن زاهدًا، بل كان أبعد ما يكون عن الزهد، فكان يحب أن يجمع الحياة والدنيا مع الإيمان والدين، يتطلع لأن يتزوج وأن تكون له عائلة وأولاد، ويتطلع إلى متطلبات الحياة وخيرات الدنيا في نفس الوقت مع متطلبات الدين وخدمة الكنيسة. وعندما عاد إلى الدير، وصار طالب زواج، كان محط أنظار بيوت البلدة، كل بيت يتمنى أن تطلب له يد إحدى بناته، وصارت الصبايا يبنين عليه آمالاً، تمامًا كما كانت آمال الشباب تنصبُّ على والدتي.

وهكذا، فإن الزواج بين الاثنين جاء على أحسن توافق وأفضل تناسب، وقد عاشا عمرهما متحابين متفاهمين وربيا أولادهما خير تربية، وبقي بيت الخوري بطرس، كما كان من القديم، وجدًا بعد جد، بيتًا عامرًا مفتوحًا. وكان أيضًا ملجأ وملاذًا لفقير أو لمريض أو لصاحب حاجة، أو لمسافر غريب.

كان بيتًا بغرف واسعة مما يُعرف بالبيوت العربية. الغرف على صفين بينهما ممر عريض. في الصف الشمالي غرفة مطبخ فسيحة، إلى جانبها غرفة حمام، إلى جانبها غرفة مرحاض وبعدها غرفتا نوم واسعتان. وفي الجهة الجنوبية المقابلة غرفة للجلوس تصلح للنوم عند الحاجة، وكنا نستعملها بالعادة غرفة طعام. تأتي بعدها غرفة الاستقبال الكبرى تمتد على طول الغرف المقابلة مجتمعة، أرضها مكسوة دائمًا بالسجاد، وحول حائطين منها في أسفلهما، بسط ممدودة على الأرض خلفها ركائز من وسادات، وفي جانب آخر طقم "كنبايات" متعدد القطع فضلاً عن الكراسي وبعض الطاولات في الوسط.

هنا كان يُستقبل المطران عند زيارته للبلدة، ينام عند أحد وجهاء البلدة مراعاة للحساسية بين الكاهنين، ولا تدوم زيارته إلا يومين، يقضي اليوم الأول منهما في بيتنا بعد القداس في كنيسة الحارة، يستقبل ويتناول طعام الغداء مع المدعوين من المقربين أو بعض أعيان البلدة ومعارف أبي، ويبلغ عددهم أحيانًا عشرين شخصًا، ثم يرتاح لفترة ساعة في غرفة الجلوس ويعود بعدها ليستقبل من جديد، ثم تمدَّد وليمة العشاء، وضيوف العشاء غير ضيوف الغداء وبنفس العدد أو أقل أو أكثر، إلى أن تبلغ الساعة العاشرة فيشكر ويودِّع وينتقل إلى النوم بصحبة مضيفه الذي رافقه على العشاء. ويتكرر نفس البرنامج في اليوم الثاني في بيت الخوري جرجس في الكنيسة الغربية، وهناك طبعًا أبي مرافقًا للمطران ومدعوًا معه على الغداء وعلى العشاء، كما كان الخوري جرجس بالأمس مرافقًا ومدعوًا في بيتنا.

زيارة المطران للبلدة كانت حدثًا ينصرف الناس خلاله من أعمالهم ليتبعون المطران ويلتفون حوله ويسمعون منه. يتوافدون ويتدافعون للوصول إليه وتقبيل يده والحصول على بركته. إنه شرف عظيم أن يزور المطران القرية، وشرف أعظم لكل شخص قبَّل يده وحصل على بركته. هكذا كانت بساطة الناس في الماضي، وهكذا كان إيمانهم بالدين ورجال الدين وتعلُّقهم بهم واحترامهم لهم. وكنا في أواخرالعشرينيات، صرنا في الستينات، وما بين هذا وهذا توسعت القرية وتطورت، وفتحت أبوابها للدخلاء فجاوزوا أهلها الأصليين، واختلطت فيها المذاهب والأديان، وفقد الناس إيمانهم. توجههم إلى الكنيسة قليل، وسيرهم وراء رجال الدين أقل، واحترامهم لهم أقل وأقل.

كان أبي يستيقظ في الخامسة صباحٍ كل يوم صيفًا وشتاءً. وتستيقظ أمي معه، وما نعتم أن نستيقظ أنا وأخواتي جميعًا. يبدأ والدي يومه بالصلاة لدقائق، يتحول بعدها إلى معاونة والدتي فيما تقوم به سواء في المطبخ أو في إشعال الحطب أو الفحم في الشتاء للتدفئة. ويهيء طعام الفطور، وقد سبقته القهوة للوالدين، ونجتمع كل من في البيت على مائدة الفطور، كما نجتمع بعدها على الغداء وعلى العشاء. وبعد الفطور ينطلق كل واحد إلى شأنه، أبي إلى الكنيسة وهي قريبة شبه مجاورة للبيت، ونحن، هذا إلى المدرسة أو هذه للانزواء ومراجعة الدروس في الغرفة، أو هذه لمساعدة أمها التي اختفت في المطبخ لطهي الطعام أو في الحمام لغسل الثياب. وفي باقي ساعات النهار، خاصة بعد الظهر، أبي أو أمي أو كلاهما في زيارة لصديق أو لقريب أو لمريض، أو في استقبال زائر بعد زائر، إلا عندما يدعو الواجب أبي لعماد طفل أو لعقد زواج أو لتشييع ميت. حياةٌ رتيبةٌ تتكرر يومًا بعد يوم على نفس السياق ونفس الخطوات والحركات، وعلى نفس التراتيل والصلوات، ثم نفس السياق ونفس الخطوات والحركات، وعلى نفس التراتيل والصلوات، ثم نفس التحيات ورد التحيات، ونفس الكلام المتبادل بين الناس. والناس راضون قانعون. أليس هذه هي السعادة؟ لقد غابت تلك السعادة، وتحوَّلت حياة أيامنا الجديدة إلى الركض المتواصل والمتسارع ولا استراحة، وإلى القلق المتسلِّط ولا اطمئنان، وكله على فراغ في النتيجة ومن غير جدوى. كله وكلنا إلى الموت، ولا أثر يبقى.

كانت والدتي تمضي يومها واقفة لا تجلس إلا فقط على مائدة الطعام أثناء وقعات الصبح والظهر والمساء. وأحيانًا كثيرة كانت تتردد بين المطبخ ومائدة الطعام ولا تبقى جالسة في مكانها. لقد نسيت شيئًا ما فانتقلت لتحضره، أو أن هناك نقصاً فوق المائدة يجب تداركه. كانت حركة دائمة، تختلق الأسباب والمناسبات للاهتمام بالغير، وآخر ما يعنيها الاهتمام بنفسها. من زوجها، إلى كل واحد من أولادها، ومن حاجة ضرورية أو مساعدة واجبة، إلى الكماليات والحاجات أو الملاحظات العابرة. هنا وهناك، ومع هذا أو ذاك، دائمًا تنتقل وتتدخل وتسأل، وتوجِّه وتنصح أو تلبي. وبعد العشاء قبل النوم، تهدأ وتجلس، لا لترتاح، بل لينتقل اهتمامها إلى دروس وفروض الأولاد ومشاركتهم ومساعدتهم في حفظها وتحضيرها، وأنا قبل الجميع وأكثر من الجميع. ويكون والدي قد نام من فترة غير قصيرة عندما تذهب هي إلى النوم، وقد نام الأولاد قبلها وأُطفئت الأنوار. لست أدري إن كانت جميع الأُمهات على نفس هذه الشاكلة من العطف والحنان ونسيان الذات، ومن الحيوية والنشاط. مع أنها نشأت في بيت دلال، ومع أنها متواضعة التكوين الجسدي، أو أنها أقرب إلى النحافة منها إلى الجسامة، تطعم قليلاً وتشرب أقل. إنما القلب، على ما يظهر، يعوِّض عن ضآلة الجسم، وفي الحب طاقات تحرّك الجبال كما يقال عن الإيمان، وهل الإيمان إلا نوعًا أو شكلاً من أنواع وأشكال الحب أو أنه أحد أوجه الحب؟ وهي لم تكن تتكلم كثيرًا، فقط عند الحاجة واللزوم. ولم يكن اهتمامها بالآخرين يقتصر على أهل بيتها، بل كان يتجاوز إلى عموم من يعرفها من أهل القرية، والجميع يعرفونها أو بالأقل أهل الحارة الشرقية عمومًا. باب البيت مفتوح دائمًا ولا يغلق إلا مع إطفاء الأنوار والتوجُّه إلى النوم، والزوار لا ينقطعون، قبل الظهر وبعد الظهر، وحتى أحيانًا في الليل بعد العشاء، وهذا لا يحصل إلا استثناء لحاجة ملحة طارئة، طلب مساعدة أو طلب رأي ومشورة. والقلب مع باب الدار مفتوح دائمًا، وابتسامة الترحيب تزيِّن الشفتين، وفنجان القهوة حاضر. كانت تسمع، ثمَّ تصمت قليلاً، ثمَّ تنصح وتوجِّه، وفي كثير من الأحيان تشارك أبي، أو أنها هي التي كانت توحي إليه بما يجب عمله عند مراجعته من قبل الرجال، ودائمًا هي وحدها عند زيارة ومراجعة النساء. رحم الله أمي، كم أتذكَّرها وكم أحنُّ.

كان في البلدة مدرسة ابتدائية فقط. وأما المدرسة الثانوية فكانت في المدينة وهي لا تبعد عن قريتنا إلا بعض الكيلو مترات. كان صاحب تلك المدرسة الثانوية طبيبًا لم يتعاطَ الطبَّ، وفضَّل عليه إحداث هذه المدرسة واستثمارها وتولّى إدارتها. كانت فكرة ذكية وكان مشروعًا ناجحًا مربحًا أخذ يتوسَّع بسرعة مع تزايد عدد الطلاَّب سنةً بعد سنة، ومع تزايد عدد المدرِّسين من أساتذة محليين ومن أجانب من فرنسا كان الطبيب صاحب المدرسة يستقدمهم ولا يبخل بالإنفاق. طارت سمعة المدرسة، وكنت من جملة عشرة طلاب من حارتنا نستقل كل صباح مع بزوغ الفجر سيارة تجمعنا أو تكدِّسنا فوق بعضنا لتنقلنا إلى المدينة والمدرسة، كل واحد منا يحمل معه زاد غدائه، حيث إن المدرسة قد خصَّصت قاعة لطلاب القرى المجاورة يتناولون فيها طعام غدائهم مما جلبوا من بيوتهم. وبعد الظهر، في الساعة الرابعة والنصف، تنتظرنا نفس السيارة عند باب المدرسة، نتكدَّس فيها من جديد لتعيدنا إلى قريتنا وأهلنا. أما الطلاب من الأماكن البعيدة، فكانوا طلابًا داخليين، وكان عددهم كبيرًا.

تعلَّمنا في المدرسة الابتدائية في القرية بعض القواعد الأولية في اللغة العربية وفي القراءة وفي الحساب. وعلََّمتنا أيضًا معلِّمة فتاةٌ صبيةٌ أحببناها كثيرًا، أبجدية اللغة الفرنسية وبعض القراآت بتلك اللغة. وأذكر أنني إلتقيت بهذه المدرِّسة في زمن لاحق وكانت قد هجرت التدريس وتزوَّجت وأصبحت أُمًا، وتجعَّدت وترهَّلت.

وفي المدرسة الثانوية تعلَّقنا، أو تعلَّقتُ بمدرِّس اللغة الفرنسية. شاب في مقتبل العمر، جميل أشقر، عين مشرقة ووجه منشرح، وصوت عذب وانطلاق لسان. ماذا تريد أكثر من هذا لكي يأسرك؟ خاصة وأنت فتىً في أول تفتُّح عقلك وقلبك؟ عشقنا هذا الأستاذ، ومن عشقنا له، عشقنا لغته، أو إنني أنا الذي من يومها عشقت هذه اللغة، وعلى عشقها وعشق آدابها بقيت. وعشقت أيضًا اللغة العربية وآدابها، ولكن هذا العشق جاء لاحقًا، ولم يكن للمدرسة فيه فضل ما.

كان أُستاذنا الفرنسي هذا يفتح الكتاب في بداية الحصة على صفحة باسم أديب فرنسي، شاعرًا أو كاتبًا، وينطلق يتحدَّث عنه، يستعيد أهم مراحل حياته وأبرز مؤلَّفاته وآثاره، يده على الكتاب المفتوح أمامه، وعينه علينا، لا يتوقَّف عن الكلام طوال الساعة، ولا يعود إلى الكتاب إلا لقراءة قصيدة شعر أو فقرة من نثر للأديب الذي يتحدَّث عنه، وعلى مدى تواصل حديثه أو إلقائه، عيوننا لا تتحوَّل عنه، وأسماعنا لا تغيب، وكل رواية أو حكاية أو نادرة عن الكاتب أو الشاعر في ذاكرتنا أو في ذاكرتي ترسخ، وكل مقالة أو قصيدة تثبت، ننساق وراء الأستاذ في واحات الشعر والأدب، نلتهم كلامه ولا نشبع، ونحتسي من خمر إلقائه، نغرف من مهله ونسكر من معينه ولا نرتوي، ونطمع بالمزيد ولا نقنع. كأنَّ هذا الأستاذ قد تكفَّل بأن يصنع منا أدباء، وقد أفلح ونجح، بالنسبة لي على الأقل، وقد يكون بالنسبة لآخر أو آخرين من زملاء الصف من بددتهم الحياة في أوطان وأرجاء مختلفة من العالم ولم نعد نلتقي.

ومتى تميل إلى الأدب في مستهل عُمرك ودراستك، فإنه يملكك لباقي أيامك ويستأثر بك فلا تعود تنصرف عنه، ولا تعود تحيد، ولا تتعاطى باقي مواد العلوم والدراسة إلا من زاوية ما يمكن أن يكون بينها وبين الأدب من صلة، كأنك تقرؤها وتدرسها من خلال الأدب أو لهدف توسُّع أُفقك الأدبي لكي يشمل جميع مجالات العلم والمعرفة ويحيط بها كافة.

ليس هذا فحسب بل إن تعاطيك الأدب في لغة ما، يفتح أمامك الباب لتذوق الأدب في اللغات الأخرى. فكيف عندما يكون أدب لغة أجنبية هو الذي جذبك ثم أسرك وبين يديك لغتك الأصلية الأم؟ عندها، وبصورة تلقائية، تجد نفسك قد انتقلت من الأدب الأجنبي إلى أدب لغتك الأم، مستفيدًا من كل ما خزنته نفسك من ذلك الأدب الأجنبي، تضيفه وتضمه إلى ما تحصله من مخزون أدب لغتك عبر ذاكرة العصور، أو تقرِّب بينهما وتجمع، فتجدِّد وتبدع.

ولم يكن أستاذنا باللغة والآداب العربية من ذات نوعية أو فصيلة الأستاذ الفرنسي، كما لم يكن بنفس كفاءته ومستواه. ولا تسلْ عن أثر شخصية الأستاذ في التدريس، إنها كل شيء تقريبًا ولها أهم دور أو الدور الأول. إن التلميذ يتعلم عن طريق أُستاذه، أي من خلال أُستاذه. فلا عجب أن تكون جاذبية مادة التدريس من جاذبية المدرِّس. ومتى يكون المدرِّس فظًا أو قبيح المنظر أو غليظًا منفرًا، فإنَّ التلميذ ينفر بطبيعة الحال من المادة التي يتولى هذا الأستاذ تدريسها.

ومن سوء الحظ أنَّ أستاذ اللغة العربية وآدابها كان إنسانًا كريهًا قبيح الشكل قبيح الخُلُق والتصرف منفرًا بقدر ما كان مدرِّس اللغة الفرنسية وآدابها لطيف السلوك وحلو الشكل والمنظر، مهذبًا متواضعًا، قريبًا وجذابًا.

قياسُ وشكلُ وطول الزرافة. والطولُ أعظمه في الأسفل، ثلثاه في الفخذين والساقين، والثلث الباقي من البطن وما فوق، والوجه دقيق متطاول، أغلبه متجمع في الأنف المقتحم إلى الأمام يطغى على كل ما سواه من القسمات والمعاني، والعينان صغيرتان، والصوت من الأنف، على جفاف وقسوة. كأن الله، تعالى اسمه، في ساعة انشراح، أراد أن يُبدع صورة كاريكاتورية فسكبها في الأستاذ يعقوب، أستاذنا في اللغة العربية وآدابها.

وكان هذا الأستاذ جاهلاً، ولهذا كان مغرورًا معقَّدًا. وكان قاسيًا جلفًا يصلح للتدريب العسكري ولا يصلح للتعليم، وبخاصة تعليم صبية في أعمارهم الأولى، وهم بعد، عودٌ غضٌّ وبراعمُ ضعيفة لا يحسنون المجابهة ولا يملكون فرض الذات، وردة الفعل لديهم أن يتقوقعون. فكان الأستاذ يعقوب يستغلُّ صِغر السنِّ وضعف البنية والشخصية لدينا ليجعل من نفسه امبراطورًا، كأنهُ يصدر الأوامر بدلاً من تلقين الدروس، أو كأن بيده عصا وليس بيده عصا، أو كأنه يريد أن يفتح أذهاننا بالسكين.

لكن هذا الامبراطور علينا كان يتقلص فأرًا أمام المدير صاحب المدرسة، بل لمجرد ظهور المدير. كانت غرفة الدرس تطلُّ بنافذة لها على الممرِّ الداخلي بين الغرف، وكان يُصادف مرور المدير في هذا الممر، وأحيانًا كان هذا الأخير يقف عند نافذة الغرفة في الخارج ويتابع بالعين ما يجري داخل الصف، وفي بعض المرات، كان يشير بإصبع يده إلى الأستاذ بأن يخرج لمقابلته، فينقلب لتوِّه وجه الأستاذ يعقوب إلى التهيب والخوف، ويسوي لباسه وقامته، ويمشي متصلبًا نحو الباب، ويقف عنده هنيهة، ثم... ثم يقوم بقرع الباب من الداخل استئذانًا بالخروج.

مرة واحدة، وبفضل هذا المحترم، لم أعد أهتم بمادة اللغة العربية وآدابها إلا عن خوف ولغرض الحفظ الجبري دون أيِّ تذوق أو محاولة للتذوق والاستمتاع. ومن يدري أن لا يكون غيري الكثيرون من انتهى بهم الأمر إلى مثل هذه الحالة التي تتهدد لغتنا وآدابنا من سوء استعداد أو إعداد مدرسين صالحين أكفياء لها.

على أني تكفلت نفسي بنفسي فيما بعدُ في الولوج إلى عالم الأدب العربي واكتشاف روائعه، وكانت وسيلتي لذلك القراءة، قراءة واعية، متأنية متمهلة، وأتحرى وأسأل عن أصل ومنشأ ومعنى كل عبارة أقع عليها ولا أعرفها أو لا أفهمها. قراءة الكتب الصفراء القديمة، وأهم منها قراءة القرآن الكريم، وحفظ آيات القرآن الكريم. مع أني مسيحي. كل العربية وكل البلاغة هنا. قرأت القرآن لأتعلم اللغة. وقرأته في مرحلة لاحقة بعد مرحلة المدرسة والدراسة. وأخذت على نفسي في فترة زمن أن لا أتكلم إلا بالفصحى. حتى في البيت، صرت أتكلف الكلام بالفصحى. تصوَّر، في بيت كاهن مسيحي، في بلدة مغمورة، ابن كاهن الذي كان يعد ويقدر له أن يخلف والده يحفظ القرآن ويتكلم بالفصحى.

رحم الله أبي. إني أتذكر كيف انتفض فجأة كأن ذبابة قرصته، وكيف نفرت عينه بي عندما سمعني أتكلم بالفصحى على غير عادتي وسابق عهدي، بينما شاعت على وجه والدتي ابتسامة عريضة، تعبِّر عما في نفسها من المفاخرة بابنها وبأن آمالها به جاءت في محلها.

إنها امرأة طموح بالرغم من أنها لم تكن أكثر من خورية زوجة كاهن. خصصت اهتمامها بي استثناءً عن باقي أخواتي منذ المدرسة الابتدائية وتعثري في مدارجها، ثم تحركت آمالها، استيقظ طموحها حين بدأت أقفز الصفوف في الدراسة الثانوية. لقد أخذت تشعر بينها وبين نفسها بأنه من الحيف والحرام أن لا أتابع طريق العلم والدراسة العليا بدلاً من قتل مواهبي في الزواية الضيقة المهملة للكنيسة وللكهنوت، فأخذت على نفسها أن تقنع أبي شيئًا فشيئًا بذلك. ولكن، من سوف يخلفه ويحل محله إذا ما انسحبت وتخليت.

وكان أبي قد بلغ سنًا متقدمة ويجب أن يكون خليفته حاضرًا ومهيأً تحسبًا لكل مفاجأة. لماذا لا يكون ابن عمي؟ إنه شاب قريب لطيف جدّي ومحبوب، وهو حسن السلوك وطيب السمعة، ويكبرني بسنوات. حطَّت عينها عليه، وراحت تستجلبه وتقرِّبه.

وكان قد أنهى الدراسة الابتدائية ولم يعد يتابع. ولم يكون طموحًا، وقد تزوج مبكرًا. فلم يكن صعبًا على والدتي أن تغريه بخلافة عمه كأنها تفضله على ابنها، واستطاعت مع الأيام أن تقنع أبي بتبنيه ملوِّحةً له بمستقبل أرفع وأبهى لولده. وهكذا تمَّ كسر طوق القدر الذي لم يكن لي يدٌ فيه، كما لم يكن لي يدٌ في دفعه أو تبديله، وكله لوالدتي، وتمَّ صرف النظر عني خليفةً لوالدي، وانطلقت أحلام وآمال والدتي بعد تخرجي من الدراسة الثانوية لتقذف بي إلى معهد الحقوق في بيروت. والقليلون القليلون جدًا في محيطنا في تلك الأيام من أرسلوا للدراسة في معهد الحقوق في بيروت. والقليلون منهم من تابعوا الصعود في حياتهم اللاحقة فأصبحوا محامين أو قضاة أو غير هذا أو ذاك من المهن أو الوظائف المرموقة.

قدمت إلى بيروت ولم أكن قد أكملت التاسعة عشرة من عمري، وتعلمت الحقوق في بيروت لكنني لم أصبح بعدها محاميًا، كما لم أصبح قاضيًا. أصبحت راهبًا، ثم أصبحت صحفيًا وأصبحت كاتبًا، وانتهيت الآن سجينًا أنفذ عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود