جدل حول الثقوب السوداء

 

موسى ديب الخوري

 

في عام 1975، اكتشف ستيفن هوكنغ أن الثقوب السوداء ليست سوداء بالمقدار الذي نتصوره. فقد أخذ بعين الاعتبار آثارًا كوانتية وبرهن أنها تشع إشعاعًا حراريًا معينًا. وهو إشعاع ضعيف بالتأكيد، لكنه يؤدي مع مرور الزمن إلى تبخرها. فهل يمكن لجزء من المعلومات التي يحتويها الثقب الأسود أن تختفي بالكامل من الكون؟ لم تحسم المسألة إلا في عام 2004، لكن الحل جاء عند تقاطع النظريتين الكبيرتين في الفيزياء، النسبية العامة والميكانيك الكمومي، ولهذا فإن المسألة لم تحل بشكل نهائي حتى الآن.

هل يمحو الثقب الأسود الذي يتبخر كامل المعلومات التي يتضمنها أم أنها تنحفظ؟ هذه المسألة قسمت الفيزيائيين إلى فريقين مؤيد ومعارض طيلة سنوات عديدة. ويعتقد العلماء اليوم أن المعلومات لا تختفي، لكن لا نعرف كيف يمكن الوصول إليها.

في نهاية عام 2008، نشر الفيزيائي والكوزمولوجي ليونارد سوسكيند من جامعة ستانفورد وأحد آباء نظرية الأوتار الفائقة، كتابًا بعنوان The Black Hole War (حرب الثقب الأسود)، وجاء في العنوان الفرعي له: حربي مع ستيفن هوكنغ من أجل جعل العالم آمنًا مع الميكانيك الكمومي، وجاء هذا الكتاب بمثابة إعلان له عن انتصاره في الجدل الذي طال سنوات كثيرة وناصره فيه عدد من الفيزيائيين والرياضيين تجاه ستيفن هوكنغ من جامعة كامبريدج في بريطانيا. وكان ستيفن هوكنغ قد نشر، وهو المرجع في نظرية الجاذبية والأخصائي ببدايات الكون والثقوب السوداء، بحثًا في مطلع السبعينيات من القرن الماضي كانت إحدى نتائجه أن كوننا يفقد ببساطة وبشكل كامل المعلومات. وكان ذلك يعارض بشكل جلي المبادئ الأساسية في الميكانيك الكمومي، وهو الذي دافع عنه سوسكيند وزملاؤه. وقد شحذت هذه الحوارات والمواجهات العلمية بشكل رائع العقول الرياضية عبر العالم، لا بل والمنطق المجرد والفيزياء النظرية على حد سواء.

وقد أعلن ستيفن هوكنغ في النهاية هزيمته "في هذه الحرب الخاصة بالثقوب السوداء". ومع ذلك، وعلى عكس ما يؤكده ليونارد سوسكيند، فإن الكلمة الحاسمة في نهاية هذه القصة لم تكتب ربما بعد. ويقول سوسكيند:

يحكي كتابي قصة معرفة فكرية بين عدد من الفيزيائيين المشهورين طيلة نحو ثلاثة عقود. وقد يبدو العنوان مبالغًا فيه. لكن بدا لي أنه يترجم التحديات التي مرَّ بها هذا الجدل، حيث كان يمكن أن تؤدي إلى انهيار الصرح النظري للفيزياء المعاصرة. فقد بدا أن النظريتين الكبيرتين اللتين بُرهنتا مرات ومرات، النسبية العامة والميكانيك الكمومي، تختلفان في وصف مستقبل المعلومات المحتواة في ثقب أسود. ونحن نعرف أنه عندما يتفاعل جسيم مع جسيم آخر، يمكن أن يتم امتصاصه أو ينعكس أو يتحلل إلى عدة جسيمات. لكن يمكننا دائمًا إعادة بناء حالته الأصلية (الشحنة الكهربائية والكتلة ولفه إلخ) وذلك ابتداء من نتائج التفاعل. وتكون المعلومة التي يحملها هذا الجسيم بالتالي محفوظة دائمًا. إنه مبدأ جوهري في الميكانيك الكمومي بل ويمكن أن يكون المبدأ الأكثر أهمية على الإطلاق في الفيزياء كلها، الكوانتية أو الكلاسيكية على حد سواء. لنأخذ مثال الحاسوب. إن المعلومات التي تخزَّن على قرصه الصلب يمكن أن تُمحى. لكنها في الحقيقة لم تمحَ نهائيًا، بل يمكن القول في أسوأ الأحوال إنها قذفت إلى الجو المحيط بنا، على شكل كمية من الطاقة التي تمتصها الجزيئات المحيطة أيضًا. هكذا تكون المعلومات البدئية قد تشوهت تمامًا، ولا يمكن استعادتها على الأقل ضمن الوضع الراهن للتكنولوجيا. لكنها لم تختف كليًا وللأبد! وفي عام 1976، رأى ستيفن هوكنغ أن الثقوب السوداء تخرق مبدأ انحفاظ المعلومات هذا، بسبب صيرورة تبخر الثقب الأسود التي تؤدي إلى اختفائه تدريجيًا، وبالتالي اختفاء المعلومات التي كان يحويها.

إن جوهر هذا الخلاف كما يمكن أن نستشف يتعلق بأحد أكثر جوانب الفيزياء جوهرية، ألا وهو طبيعة السببية. إن فهمنا للعلاقة السببية ذات الأثر يرتكز بشكل أساسي على نظرية النسبية العامة لأينشتين. وقد صيغت في عام 1915 على شكل سلسلة من المعادلات، وهي عبارة عن نظرية للزمان والمكان والجاذبية. وهي لا تعتبر الجاذبية كقوة، على عكس نظرية نيوتن، بل كانحناء، وتشويه في هندسة الفضاء الزمكاني. وأحد أول الحلول لمعادلات أينشتين يصف فقاعة كروية من المادة يمكن أن تشكل نموذجًا بسيطًا لنجم. ونعرف منذ ثلاثينيات القرن الماضي، إنما دون أن نعرف لماذا، أن هذه الكرة إذا كانت كثيفة ومتراصة بما فيه الكفاية، فإن السببية كانت تخضع في جوارها المباشر لشيء فائق الغرابة. فعلى سبيل المثال، إذا تم ضغط كتلة مماثلة لكتلة الشمس في كرة قطرها بضعة كيلومترات فقط، فإن جاذبيتها ستصبح هائلة إلى درجة أن الضوء لن يستطيع الإفلات من سطحها. وهكذا عندما ننظر إلى مثل هذا الجسم من بعيد فإنه سوف يبدو أسودًا. أما الكرة نفسها فإنها تصل إلى مرحلة لا تستطيع مقاومة جاذبيتها الخاصة فتنفجر كليًا في جزء من الثانية.

إن هذه الكرة التي تنهار على نفسها هي ما نسميه اليوم "الثقب الأسود". إن أحد أسس نظرية النسبية كان المبدأ الذي وفقه لا يمكن لأي جسم أو تأثير فيزيائي أن ينتقل أسرع من سرعة الضوء، فإذا كان الضوء لا يستطيع الإفلات من ثقب أسود فهذا يعني أن لا شيء يستطيع الإفلات من الثقب الأسود. ولا يمكن عندها بشكل خاص حصول أي نوع من نقل المعلومات من قلب الثقب الأسود باتجاه خارجه. ولهذا يوصف سطح ثقب أسود بعبارة "أفق الحدث". بعبارة أخرى، فإن الأحداث الحاصلة داخل الثقب الأسود أو داخل هذا الأفق لا يمكن أن تمارس أي نوع من التأثير على الأحداث خارج الثقب الأسود.

في الستينيات من القرن الماضي، أصبح من المؤكد أن الثقوب السوداء كانت أكثر من مجرد شطحات أو فضول نظري للفيزياء. فقد كشفت أرصاد فلكية عن طرق عديدة يمكن أن تتشكل وفقها الثقوب السوداء، وكان أكثرها احتمالاً انفجار نجم كبير الكتلة استهلك مادته. وبدأ عندها علماء الفيزياء الفلكية يحاولون التحقق إذا ما كانت الخصائص الغريبة للثقوب السوداء يمكن أن تنتج آثارًا يمكن رصدها. وخلال العقود القليلة التالية راكمت المراصد والأقمار الصناعية كتلة من المؤشرات على وجود حقيقي للثقوب السوداء.

كان ستيفن هوكنغ من رواد فيزياء الثقوب السوداء. وقد برهن بالتعاون مع الفيزياء والرياضي الإنكليزي روجر بنروز العديد من المبرهنات العامة الأساسية حول الطريقة التي يتشكل بها أفق الحدث وحول ما يحصل للجسم الذي ينهار ليشكل الثقب الأسود.

ولكن في عام 1975 أعلن هوكنغ عن نتيجة جديدة كانت مفاجئة تمامًا. فمعظم الأبحاث التي كانت تتم على الثقوب السوداء حتى ذلك الوقت لم تكن ترتكز على الميكانيك الكمومي الذي يشكل مع النسبية العامة أهم تقدم علمي في القرن العشرين. وإحدى الفرضيات الأساسية في الميكانيك الكمومي أنه بوجود منبع للطاقة مناسب يمكن أن تظهر جسيمات من المادة تسمى "الكم"، حتى وإن كان الفضاء فارغًا. والمادة هنا تشير إلى جسيمات الضوء – الفوتونات – وإلى مكافئاتها بالنسبة للجاذبية وتسمى غرافيتون.

استطاع هوكنغ بفضل برهان رياضي متقدم أن يبرهن أنه بانفجار نجم فإنه تتخلق في جواره في الفراغ المحيط به تيارات من الجسيمات تشع في دفق منتظم لفترة طويلة بعد اختفاء النجم. وبما أن هذا الإشعاع، الذي سمي إشعاع هوكنغ، يحمل الطاقة، فلا بد بالتالي من أن شيئًا آخر يفقد الطاقة بالمقابل بحيث يصبح ثمة توازن في انحفاظ الطاقة. أما ماهية هذا الشيء فلا يمكن أن يكون سوى جسم الثقب الأسود نفسه، أي كتلته (وذلك اعتمادًا على المعادلة التي كان قد بين أينشتين بواسطتها قبل وقت طويل من ذلك أن الطاقة والكتلة متكافئتان). فإذا كان الثقب الأسود يفقد من كتلته، فهذا يعني أن حجمه يتقلص بشكل ثابت ومستمر وفق صيرورة طويلة من "التبخر" كما سماه هوكنغ. وهو أمر يستمر حتى يختفي الثقب الأسود نفسه. وقد حسب ستيفن هوكنغ بشكل خاص أن الإشعاع الصادر يملك سمة خاصة – هي عبارة عن طيف حراري – الأمر الذي يعني أنه يشكل شكلاً من الحرارة المشعة المزودة بحرارة خاصة تتعلق بكتلة الثقب الأسود. فنظرية ستفين هوكنغ كانت تؤسس بالتالي رابطًا وثيقًا وغريبًا بين الثقوب السوداء والفيزياء الكمومية وقوانين الترموديناميك، وهو رابط لا يزال بعد ثلاثة عقود من طرحه يثير مزيدًا من الحيرة والارتباك بين الفيزيائيين.

كانت هذه النظرية تبين أن الثقوب السوداء ليست سوداء تمامًا بل أنها تشع الحرارة وتتبخر شيئًا فشيئًا. وكان لإعلان هذه النتيجة صدى كبير ودفع بستفين هوكنغ إلى مقدمة الشهرة الدولية في عالم الفيزياء والكوزمولوجيا. لكن لم يكن الحبر الذي كتب ستفين هوكنغ به هذا المقال قد جف بعد حتى أيقن أن نتائجه كانت تطرح لغزًا قد لا يكون له حل. فإذا اختفى نجم في ثقب أسود، واختفى الثقب الأسود بدوره، فما الذي يصير إليه ما كان يشكل أساس وأصل هذا النجم؟ إن الجواب الذي سرعان ما يأتي إلى الذهن – وهو أن كافة هذه المكونات تخرج من الثقب الأسود مع إشعاع هوكنغ – يطرح مشكلة بحد ذاته. فكتلة النجم تتألف بشكل أساسي من بروتونات ونترونات. غير أن حرارة ثقب أسود كتلته كتلة نجم تكون منخفضة جدًا (أقل من 1 ميكروكلفن) بحيث أن الإشعاع الصادر يكون بشكل رئيسي على شكل فوتونات منخفضة الطاقة. ولا يبدأ الثقب الأسود بإصدار البروتونات والنترونات إلا عندما يكون قد انضغط إلى أبعاد ما تحت ذرية ويصبح بالتالي حارًا بدرجة كافية. ولكن حتى ذلك الوقت، فإن مجمل كتلة الثقب الأسود أو معظمها تكون قد أشعت، والكتلة الباقية لا تعود كافية ببساطة لكي "يلفظ" الثقب الأسود مكونات النجم الأصلية.

إن مثل هذا الانعدام للمادة الممتصة في الثقب الأسود يطرح إشكالية أكثر صعوبة أيضًا، طالما أن صيرورة التبخر تدمر كما يبدو بشكل كامل المعلومات – ليس فقط المعلومة المتعلقة بنمط الجسيمات، بل كذلك المعلومة المتعلقة بالمكان الذي كان موجودًا فيه أو يوجد فيه، والطريقة الذي ينتقل به. بعبارة أخرى، فإن السمات الدقيقة للمادة الغارقة في الثقب الأسود تضيع بشكل لا يمكن تعويضه. وهكذا أخذ هوكنغ على عاتقه التأكيد على أن هذه المعلومة كانت تدمر، الأمر الذي يعني ببساطة أن الكون لا يحفظ هذه المعلومة.

لفهم هذه الحالة التي وصل إليها المجتمع العلمي في ذلك الوقت، لا بد من معرفة أن أعمال ستيفن هوكنغ كلها كانت تتم في إطار نظرية النسبية العامة. إن قسمًا كبيرًا من أبحاثه مع روجر بنروز كانت تتعلق بدراسة حالات الفرادة الزمكانية. وتشير هذه الحالات إلى تخوم أو حدود للزمان والمكان تظهر على سبيل المثال إثر انهيار ثقالي. لنتخيل كرة من المادة كروية تمامًا وهي تنضغط على نفسها حتى يصبح قطرها صفرًا. عندها تصبح كثافة المادة فيها لانهاية. وينطبق ذلك على الحقل الثقالي، وبالتالي على الانحناء الزمكاني. وتشير نقطة الانحناء اللانهائي – أي الفرادة – إلى نهاية الفضاء والزمان، أي الحد الذي تصبح بعده النظرية غير فاعلة. في النسبية العامة تُدَمَّر المعلومة بالضرورة عند ملاقاتها للفرادة. ووفق أعمال هوكنغ وروجر بنروز فإن كافة الثقوب السوداء (بما فيها تلك التي كانت مادتها المنكمشة على نفسها ليست كرة كاملة الكروية) تخفي فيها فرادة كامنة في قلبها. وبالنتيجة، كان من الممكن اللجوء إلى آلية طبيعية لحل لغز المعلومات في الثقب الأسود: فكل ملعومة تدخل في ثقب أسود تُبتلع بواسطة الفرادة وتمحى بالتالي بشكل نهائي. وعندما يتبخر الثقب الأسود، فإن الفرادة نفسها تنتهي وتختفي من الكون حاملة معها المعلومة.

فيزيائيون مخالفون لهذا الرأي

مع ذلك، كان عدد كبير من الفيزيائيين غير راضين عن هذه النظرية. وكان منهم بشكل خاص الذين يعملون على فيزياء الجسيمات الدقيقة أكثر من الذين يعملون على النسبية العامة إذ كانوا يعتبرون أن قوانين الميكانيك الكمومي قوانين مطلقة. والحال أن الميكانيك الكمومي يقول بشكل منهجي وأكيد أن المعلومة لا يمكن أن تضيع أو تدمر. فيمكن للمعلومة أن تشوه حتى يصبح من المستحيل فك رموزها وبالتالي لا يمكن استخدامها، لكن كائنًا إلهيًا على سبيل المثال يملك نظرة شاملة للكون يجب أن يستطيع من حيث المبدأ معرفة أدق وأبسط معلومة منتشرة في أرجائه.

ما هو المنطق الذي استند عليه هوكنغ؟ إن المعلومات التي تحملها مكونات شيء تؤثر عليه قوة جاذبية ثقب أسود تُفقد بشكل نهائي، ما أن يجتاز هذا الشيء المنطقة التخيلية من الفضاء المسمى "أفق الأحداث". ويمثل أفق الحدث هذا بشكل سطح كروي، وهو عبارة عن نقطة لاعودة لا يمكن للمادة أو الضوء الإفلات بعد الدخول فيها. فهو يحدد داخل وخارج الثقب الأسود، الذي تنتهي بنيته الجيوديسية على شكل قمع بنقطة فائقة الصغر والكثافة تسمى الفرادة. فأي جسم ما أن يجتاز أفق الحدث لا يمكنه العودة منه والخروج من الثقب الأسود، إلا إذا انتقل بسرعة أعلى من سرعة الضوء خارقًا بذلك قوانين النسبية العامة. ووفق هوكنغ، فإن الثقوب السوداء تصبح بذلك أشبه بآكلة المعلومات.

بدأت حرب الثقوب السوداء أو الجدل بين هوكنغ ومعارضيه بعد عام 1976 بعدة سنوات، لأن فرضية هوكنغ ظلت عدة سنوات مقبولة بين الفيزيائيين والكوزمولوجيين. ولم يطرح أحد حججًا جدية ضدها. يقول سوسكيند:

في عام 1983 عرفت بهذه المخمنة، والتقيت بهوكنغ للمرة الأولى. كنا نشارك حينها في مؤتمر نظم في سان فرانسيسكو من قبل الملياردير ورنر إرهارد، الشغوف بالفيزياء والجدالات الكبيرة بين الفيزيائيين. ولم نكن كثيرين، لكن بين المدعوين كان يوجد كبار من شيوخ الفيزيائيين والحائزين على جائزة نوبل، أو الذين حازوا عليها لاحقًا، مثل موراي جل مان Murray Gell-Mann وشلدون غلاشو Sheldon Glashow وفرانك ويلكزيك Frank Wilczek وجيراردت هوف. وكان هوكنغ قد بدأ يعاني في ذلك الوقت من مرضه العضال (شاركو charcot) الذي حرمه من استخدام أعضائه. لكنه كان لا يزال يستطيع التعبير دون اللجوء إلى الجهاز الذي يستخدمه اليوم لتحويل أفكاره إلى معلومات صوتية. وقد شرح عندها لماذا كانت ظاهرة تبخر الثقوب السوداء تقود إلى الاختفاء البطيء إنما الحتمي للمعلومات الماثلة في الكون.

ويتابع سوسكيند:

كنا أنا وجيراردت هوف الوحيدين اللذين أبديا حيرتهما حول المخمنة، وليس أكثر من ذلك، وربما يشير ذلك إلى براعة البرهان الرياضي الذي قدمه هوكنغ وقوة حجته. لم نكن مختصين بالنسبية العامة، بل بفيزياء الجسيمات. وكنت أهتم من جهتي بأسس وجوهر الميكانيك الكمومي، وكنت لا أزال أعمل على نظرية الأوتار الفائقة، وكانت آنذاك نظرية افتراضية تتكون وفقها كافة الجسيمات من أوتار لامتناهية الصغر في حالة اهتزاز. ولم نكن في الواقع نعرف الكثير حول بنية وفيزياء الثقوب السوداء. لا يمنع مع ذلك ورغم أننا لم نجد أخطاء في برهان هوكنغ أننا كنا مقتنعين بأن هذا الأخير أخطأ في زاوية ما، وإلا فإن المبادئ الأساسية في الفيزياء كانت معرضة كلها للسقوط!

ويؤكد هؤلاء الفيزيائيون المنشقون إذًا، أنه لو كانت نظرية الميكانيك الكمومي مطبقة بشكل صحيح على الحقل الثقالي، فيجب أن نتمكن من تحديد الطريقة التي تحفظ فيها المعلومة المتعلقة بالنجم. لكن مع الأسف لا يوجد حتى اليوم نظرية تجمع بشكل متناغم نظريتي الميكانيك الكمومي والجاذبية. ومع أن نظرية الأوتار طرحت بعض الآمال في هذا المجال، لكنها لم تستطع بعد تقديم نظرية متناسقة تجمع هاتين النظريتين. ووفق هذه النظرية فإن كافة جسيمات المادة توافق بشكل أساسي اهتزازات أوتار صغيرة لامتناهية في الصغر. لكن نظرية الأوتار ليست قابلة حتى الآن للاختبار أو البرهان. ولهذا ظل عدد كبير من العلماء يقرون بأن تناول مشكلة معلومات الثقوب السوداء تبقى خارج إطار النظريات العلمية القائمة. وكانت أسباب عدم الوفاق كثيرة بالتالي بين العلماء أنفسهم.

يقول سوسكيند:

في عام 1994، زرت جامعة كامبريدج لشهر وكان هوكنغ لا يزال يشغل كرسي الرياضيات فيها. لكنه كان في غاية المرض ولمرة أخرى لم نستطع اللقاء والحوار حول وجهتي نظرنا. وقبل العودة إلى ستانفورد قررت أن أزور زميلي وصديقي جيراردت هوف في هولندا. وكانت فرصة أدت إلى تبلور حلٍّ لهذا التعارض كان في بدايته.

وقد سميتُ هذا الحل "المبدأ الهولوغرافي". ولا أذكر بالضبط من طرحه أولاً، أنا أم صديقي. لنقل إنها فكرة بلورناها معًا. وهي تختصر على النحو التالي: إن الكمية القصوى من المعلومات المتضمنة في حجم من الفضاء لا يمكن أن تكون أكبر من التي تخزن على سطح هذا الحجم، حيث تشغل كمية أولية (أو "بت") من المعلومات ربع مساحة بلانك. ومساحة بلانك هي واحدة قياس دنيا في الميكانيك الكمومي توافق طول بلانك. والاسم المعطى لهذا المبدأ يأتي من التشابه مع الهولوغرام، حيث يتم وفقه بناء صورة ثلاثية البعد انطلاقًا من إسقاط التفاصيل المشفرة في فيلم ثنائي الأبعاد. ووفق المبدأ الهولوغرافي هذا فإن أفق الثقب الأسود يشتمل على مجمل المعلومات المتضمنة داخله. فالأفق يحفظ المعلومات التي تحملها كافة المكونات التي أدت إلى نشوء الثقب الأسود، بل وكافة الأشياء التي مرت عبره وقد جذبتها قوة ثقالته. يعاد تشكيل هذه المعلومات بواسطة فوتونات يتم إنتاجها خلال صيرورة التبخر. وهكذا فإن الملعومات المرتبطة بالثقوب السوداء تعود فتحقن في الكون إنما بشكل فائق التشوه. ولهذا لا يجب اعتبار الثقوب السوداء بالعة للمعلومات بل خزانات لها.

نشر كوسكيند هذه الأعمال في عام 1995 في مقال بعنوان: الكون كهولوغرام. وكانت الفكرة فيه تبدو غامضة، ومعاكسة للحدس تمامًا، لكنها سرعان ما لفتت الانتباه إليها. وبدأت أعمال نظرية كثيرة تنشر لتدعمها. في عام 1966، قام كل من كومروم فافا Cumrum Vafa وأندرو سترومنجر Andrew Strominger من جامعة هارفرد بنمذجة حسابية لنمط معين من الثقوب السوداء المسماة "المتطرفة" أو "الشديدة"، (وهي ثقوب سوداء مشحونة كهربائيًا وتوازن فيها الثقالة بالضبط التفاعلات الكهرمغنطيسية)، وذلك بمساعدة نظرية الأوتار الفائقة، وأدوات رياضية أخرى، تسمى "البرين"، وتقع في أطراف الأوتار المهتزة! واستنتج هذان العالمان أن كمية المعلومات المتضمنة داخل ثقب أسود كانت متناسبة بالضبط مع تلك الموجودة على سطح أفق الحدث. بعد ذلك، حصل فيزيائيون آخرون على نتائج مشابهة مع ثقوب سوداء من نمط مختلف قليلاً. ثم توصل كل من كورت كالان وخوان ملدسينا من جامعة برينستون إلى نمذجة صيرورة تبخر الثقوب السوداء باستخدام مبادئ نظرية الأوتار الفائقة فقط مع الميكانيك الكمومي، مبرهنين بذلك بشكل ضمني، أن المعلومة كانت تنحفظ خلال هذه الصيرورة. عندها بدأ عدد كبير الفيزيائيين الذين كانوا في صف هوكنغ يعيدون النظر في رأيهم.

فقد نجح هذان العالمان باستخدام نظرية الأوتار الفائقة لحساب إيقاع تبخر نوع خاص من الثقوب السوداء، وهي الحالة التي يملك فيها الثقب الأسود شحنة كهربائية قوية جدًا إلى درجة أن قوته الكهربائية وقوته الثقالية تكونان شبه متكافئتين. وبيَّنت طريقتهما التي كانت ترتكز على الميكانيك الكمومي البحت، أنه في حالة الثقوب السوداء الخاصة هذه كان الثقب الأسود يتبخر بشكل جيد كما كان يتنبأ ستيفن هوكنغ. لكنها بينت أيضًا أنه على الرغم من هذا التبخر فإنه بإمكاننا مع ذلك إيجاد المعلومة.

في عام 1997، قام جون برسكيل، وهو فيزيائي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، بمراهنة ستيفن هوكنغ بأن الأمر سينتهي بالبرهان أن المعلومة كانت محفوظة خلال صيرورة تبخر الثقب الأسود. وشيئًا فشيئًا بدأ العلماء يميلون بأعداد متزايدة إلى ليونار سوسكيند وجيراردت هوف متفقين مع طرح جون برسكيل. كانت المسألة في جوهرها مسألة حدس، لأنه لم يكن ثمة نتائج حاسمة لصالح فرضية حفظ المعلومة.

بالنسبة لليونارد سوسكيند، فقد حمل حساب كورت كالان وخوان ملدسينا المميَّز الضربة القاضية لفرضية ستيفن هوكنغ. يقول سوسكيند:

لقد جاء تغيير هوكنغ لقناعته لأن ما جاء به ملدسينا إثبات آخر غير مباشر للمبدأ الهولوغرافي، فقوة الجاذبية الموصوفة وفق نظرية الأوتار، ضمن حجم في الفضاء الزائدي الرباعي الأبعاد، كانت مكافئة على المستوى الرياضي لنظرية كمومية في التفاعلات بين الجسيمات الموجودة على سطح هذا الحجم. فكل ما يظهر في الداخل يكون عبارة عن هولوغرام، وإسقاطًا للواقع المرتبط بسطح هذه المنطقة. وكان لأعمال ملدسينا وقع وأثر كبيرين. فقد أثبتت من وجهة نظري، أن المعلومة المتضمنة في الثقب الأسود لا تُفقد نهائيًا بحيث لا يمكن استعادتها، بل تسجل وترمز إن صح التعبير على سطح أفق الحدث. لقد وجد هوكنغ بعدها نفسه وقد أصبح أكثر عزلة. وانتهى به الأمر إلى الإقرار في عامي 2004 و2005 بأنه كان مخطئًا.

وكان هوكنغ في عام 2004، قد أعلن أنه غير رأيه حول تناقض المعلومة وأقر بخسارته الرهان مع برسكيل مهديًا إياه موسوعة في لعبة البيسبول!

مع ذلك فإن المسألة لم تحل بشكل نهائي. فمنذ البداية كان من الواضح أن نظرية ستيفن هوكنغ التي تصف تبخر ثقب أسود لا تعود فعالة ما أن ينتقل هذا الأخير وهو ينضغط إلى أقل من حجم معين. ويقدر عمومًا أن هذا الحجم الحدي أقل بنحو عشرين مرة من رتبة نواة الذرة (وهو ما يسمى بطول بلانك، أي 10-33 سم). إننا نستطيع على المستوى الكبير أن نعالج الحقل الثقالي لثقب أسود بشكل كلاسيكي، أي بمعالجة مظاهره الكمومية على أنها تخلخلات ضعيفة. ولكن على مستوى طول بلانك تصبح الآثار الكمومية ملحوظة وكبيرة. والفرادة التي تنبأت بها النسبية العامة تتأثر تمامًا حتى وإن كان لا أحد يعرف بماذا! ونظرية الأوتار كما سبق وأشرنا بعيدة اليوم عن حل هذا الإشكال، مثلها مثل نظريات أخرى تتعلق بالجاذبية الكمومية. ولا شك أن إحدى الإمكانيات ستكون مع ذلك هو أن الفرادة سوف تجد نفسها وقد استبدلت بنفق أو عدة أنفاق أو أنفاق الديدان التي تربط زمكاننا مع زمكانات أخرى. فإذ تبدى أن هذه الفرضية صحيحة فإن المعلومات ستتمكن من اجتياز النفق وستكون قد فقدت تمامًا بالنسبة لكوننا وعالمنا، لتعود فتظهر في كون آخر. وبشكل عام، فإن المعلومة تكون محفوظة، حتى وإن كان يبدو أنها تضيع بالنسبة لكون خاص. ويبدو مع ذلك أننا بعيدون عن حل المسألة عبر برهان شامل. إن الحساب الذي قام به كل من كورتيس كالان وخوان ملدسينا يتعلق بحالة خاصة وهامة، لكن في الفيزياء النظرية يمكن للحول الخاصة أن تؤدي إلى إجابات خاصة إنما غير شاملة. ولا أحد حتى الآن يعرف كيفية تطبيق نظرية الأوتار على ثقب أسود نوعي وشامل.

هل يمكن حل المسألة باللجوء إلى مبدأ جوهري يتجاوز الصعوبات التقنية النوعية؟ في عام 1970، استخدم جيكوب بكنستاين الميكانيك الكمومي لحساب كمية قصوى من المعلومات التي يمكن أن يبتلعها ثقب أسود. إن كمية المعلومات الكلية في كرة من المادة العادية تتناسب ببساطة مع كمية المادة، وبالتالي مع حجم الكرة. غير أن بكنستاين اكتشف أنه في حالة الثقب الأسود فإن هذه العلاقة مختلفة تمامًا: فمحتوى المعلومات متناسب مع سطح الثقب الأسود. جاءت هذه النتيجة غير المتوقعة والغامضة لتزيد من غموض المسألة، وقد أكد عليها ستيفن هوكنغ في بحثه الشهير الذي نشر عام 1975 حول إشعاع الثقب الأسود. وتذكِّر هذه النتيجة قليلاً بمثال الهولوغرام، حيث تكون الصورة في ثلاثة أبعاد مرمزة على سطح ثنائي البعد. واقترح ليونار سوسكيند أخذ العلاقة بين سطح الثقب الأسود والمعلومات كنقطة انطلاق وجعله مبدأ كونيًا سماه المبدأ الهولوغرافي. والمبدأ الهولوغرافي في شكله العام يقول إن المعلومات الماثلة في منطقة معطاة من الفضاء محتواة تمامًا وبالكامل على السطح ثنائي البعد المحيط بهذه المنطقة. فإذا كان المبدأ الهولوغرافي صحيحًا، فإن واقع أن ثقبًا أسودًا يتشكل ثم يختفي لا يغير في شيء من المحتوى المعلوماتي لداخل المنطقة المحددة بالسطح الثنائي البعد. إن الكمية الكلية للمعلومات تظل غير متغيرة. لكن للأسف فإن الإثباتات التي تؤكد صحة المبدأ الهولوغرافي لا تزال نادرة جدًا.

يعترف الفيزيائيون أن الريبة الكوانتية، التي اكتشفها ويرنر هايزنبرغ، تشكل مصدرًا أساسيًا وجوهريًا في الطبيعة لمعرفة لا يمكن بلوغها. فإذا ما تأكد يقين هوكنغ الأصلي – ومن الواضح أنه من المبكر جدًا القول بخطئه بشكل نهائي منذ الآن – فإن ذلك سيعني أن الكون يخفي مصدرًا ثانيًا للمعرفة غير الممكن الوصول إليها: ألا وهو امحاء المعلومات بواسطة الثقوب السوداء. كان أينشتين يكره الميكانيك الكوانتي بسبب عنصر الريبة فيه. وكتب مرة أن الله لم يكن يلعب بالنرد بالنسبة للكون. وبعد اكتشافه لإشعاع الثقوب السوداء كتب ستيفن هوكنغ معدلاً عبارة أينشتين:

الله يلعب بالنرد وليس ذلك فقط، بل هو يرمي النرد أحيانًا إلى موضع لا نستطيع رؤيته فيه.

وفي الحقيقة، فقد قدَّر هوكنغ النتائج الهائلة والبعيدة لامحاء المعلومات. ربما كان النرد هو لعبة الصدفة، لكن على الأقل فإن الاحتمالات تخضع لقواعد رياضية محددة. إن كونًا كموميًا يخفي ربما فيه جزءًا من الريبة، لكنه لا يخلو من القوانين. بالمقابل، فإن امحاء المعلومات يشكل انقطاعًا أكثر جذرية بكثير في نظرياتنا وفهمنا للكون، لأن مثل هذه الظاهرة لا تخضع لأي قانون معروف. كان هوكنغ ليقول إن الله عمومًا يلعب بالنرد دون أن يغش، إنما يحدث في بعض الأحيان أن يرمي النرد في سلة المهملات. فإذا كان الأمر على هذا النحو، فلا شيء ينتج عن ذلك أقل من تراتبية كونية ربما تكون لانهائية.

من جهة أخرى، ومنذ نحو عقد من الزمن، أصبح عدد أكثر فأكثر من الفيزيائيين يعملون على المبدأ الهولوغرافي وتطبيقاته، وخاصة في إطار نظرية الكروموديناميك الكوانتية، وهي نظرية تفسر التحام الجسيمات في قلب النوى الذرية، وحتى في فيزياء المادة الصلبة. وأنا مقتنع اليوم أن المبدأ الهولوغرافي هو مبدأ جوهري للقوانين التي تحكم الكون وفهمه. فنحن نعرف مثلاً منذ عام 1998 أن كوننا خاضع لتوسع متسارع. فإذا نظرنا إليه بعيدًا جدًا بما يكفي، أي نحو 15 مليار سنة ضوئية في كافية الاتجاهات، سنلاحظ مناطق من الفضاء حيث توجد مجرات تبتعد عنا بسرعة الضوء. إن إحدى الخصائص الأكثر تميزًا في كون متسارع التمدد هي أن المسافة بين المراقب وهذه المناطق البعيدة تظل دائمًا هي نفسها. فنحن هكذا نكون محاطين بأفق كوني هو سطح كروي تخيلي إلى ما ورائه لا يمكن لأي إشارة أن تصلنا. هكذا تبدو المجرات والنجوم وكأنها تُبتلع في هذا الأفق ما أن تتجاوزه. فكل شيء يجري كما لو كنا في مركز ثقب أسود معكوس، بدلاً من أن يمتص المادة يلفظها. وتشير أبحاث حديثة بالمقابل إلى أن خصائص الأفق الكوني مشابهة لخصائص أفق الثقوب السوداء. فأي وصف أو نظام يجب أن نعطي بالتالي للأجسام التي توجد إلى ما وراء الأفق الكوني؟ وهل هي حقًا أجسام حقيقية؟ وما هو الدور الذي تلعبه في وصف كوننا؟ إن هذه الأسئلة سوف تحتل مكانة مركزية في علم الكونيات المعاصر.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود