الإنسان والمدينة 6
مشروع إعلان مبادىء افتراضي من أجل بلد حقيقي
*

 

طائر الليل

 

... على الصور المذهبة
على أسلحة المحاربين
على تيجان الملوك
أكتب اسمك...
مقتطفات من قصيدة حرِّية للشاعر الفرنسي ﭙول إيلوار

1

خمسة وستون عامًا انقضت على حصول بلدنا على استقلاله. وثلاثة وستون عامًا انقضت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي كان بلدنا، الحديث الاستقلال في حينه، من أوائل الموقعين عليه. وثلاثة وتسعون عامًا انقضت على أول دستور حقيقي سنَّه مشرعو بلدنا (في أيام الاستعمار، ورفضه الاستعمار في حينه)، وبنت عليه بلدنا شرعيتها الدستورية كبلد حرٍّ ومستقل[1]. ولكن، في المقابل...

ثمانية وأربعون عامًا انقضت على إعلان حالة الطوارىء قانونًا يتجاوز كلَّ القوانين في بلدنا الذي أصبح منذ ذلك الحين تحت الحكم المطلق لحزب يفتَرَضُ أن من مبادئه الأساسية "الحرِّية" – التي ألغاها –، ولأجهزة باتت تتحكَّم بالجميع. والحرِّية هي مبدأ سامٍ جاء هذا الحزب للحكم على أساسه، لكنه لم يفلح، مع الأسف، في تحقيقه على أرض الواقع. وأيضًا...

واحد وأربعون عامًا انقضت على تحكُّم فرد – أو لنقل أفراد قلائل – بالسلطات المطلقة في هذا الحزب، وفي البلد، فتحقق ما تحقق في ظلِّ قيادتهـ(ـم)، التي نقرُّ أنها أدخلت الحداثة إلى البلد. ولكن، في ظلِّ نظام استبدادي جائر أوصلنا إلى ما نعيشه اليوم من أحداث مصيرية يجب علينا مواجهة أنفسنا ونحن على أعتاب قرن جديد.

لأنها أحداث تطرح فيها الحياة أمام كلِّ فرد منا، بدءًا ممن هم على رأس السلطة، وصولاً إلى كاتب هذه السطور، ذلك التساؤل المصيري الذي يخيِّرنا بين الاستمرار في السير على طريق "الحداثة" في ظلِّ نظام تسلطي يعتقد أنه يحقق بتسلطه وحدة البلاد واستقرارها، أم أننا سنتبنى القيم الإنسانية العالمية التي تؤمن بها معظم الأمم المتحضرة، ما يجعلنا نلتحق بركب هذه الأمم لنبني معها مستقبلنا الإنساني والحضاري المشترك؟

أنا أعتقد أن لا مجال أمام أي منا، كبشر وكأبناء لهذا البلد، التهرُّب من هذا التساؤل الحقيقي الذي ينطلق مما يفترض أن نكون متفقين عليه جميعًا من...

2
مبادىء وقيم أساسية

لأنها لحظات تاريخية بالنسبة لبلدنا، وبالنسبة لمستقبلنا الذي أضحى اليوم على المحك. لذلك، فإننا إنْ راجعنا مسيرة بلدنا خلال المئة عام التي مضت، ترانا لا بدَّ من أن نتبنى وأن نساند المبادىء الإنسانية التالية:

أولاً: الحرِّية: فالحرية تشكل نواة القيم الإنسانية لأنها، وكما تقول سيمون ﭭايل:

... غذاءٌ لا غنىً عنه للنفس البشرية. فالحُرِّيَّةُ بالمعنى الملموس للكلمة تقوم على إمكانية الخيار. والمقصود طبعًا إمكانية حقيقية. حيثما تكون هناك حياة جماعية فلا مناصَ من أنْ يحدَّ الخيارَ قواعدُ تفرِضُها المنفعةُ العامة...

وهذا يعني ويفترض أن حرِّية التعبير، وحرِّية الصحافة، وحرِّية التجمع، وحرِّية الاجتماع، وحرِّية أن نعيش حيث نشاء، وحرِّية الإضراب وحرِّية الاحتجاج، وغيرها، هي أشكال يمكن للحرِّية أن تتخذها. ومن دون حرِّية، ستبقى بلدنا بعيدةً عن المبادىء التي تعتنقها الأمم المتحضرة.

ثانيًا: حقوق الإنسان: وهذه ليست هبة تقدمها لنا الدولة. فلكل إنسان منذ ولادته حقوق أساسية في الكرامة وفي الحرِِّية. ومبرر وجود الحكومة (أية حكومة) هو حماية الحقوق الإنسانية لمواطنيها. ما يعني أن تتالي المآسي السياسية في تاريخنا المعاصر كان سببه الرئيسي تجاهل النظام القائم فيها لهذه الحقوق الإنسانية.

ثالثًا: المساواة: لأن سلامة وكرامة وحرِّية كل شخص – بغض النظر عن مركزه الاجتماعي، وعمله، وجنسه، وحالته الاقتصادية، وقوميته، ولون بشرته، ودينه، ومعتقده السياسي – تساوي حرِّية الآخرين. لذلك يجب أن تصان أمام القانون مبادىء المساواة: المساواة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمدنية والحقوق السياسية للجميع.

رابعًا: المبادىء الجمهورية: التي تعني أول ما تعنيه أن السلطة لا يجب أن تورث، وأنه يجب أن تكون متوازنة بين مختلف فروع الحكومة، وأن تخدم المصالح المتنافسة محققةً بذلك المنقول السياسي التقليدي لبلدنا، والذي كان يعرف بالشورى، والذي هو "تحقيق الإنصاف لجميع الذين يعيشون تحت سماء هذا البلد". وهو أمر سيسمح لمختلف المجموعات ذات المصلحة، وللتجمعات الاجتماعية، وللناس على اختلاف ثقافاتهم ومعتقداتهم، بممارسة شكل من الحكم الذاتي، وبالتشاور من أجل التوصل إلى حلٍّ سلمي للمشاكل العامة على أساس المساواة في الوصول إلى الحكم عن طريق المنافسة الحرَّة والنزيهة.

خامسًا: الديمقراطية: التي من أبسط مبادئها حق الناس في السيادة وفي اختيار حكومتهم. فالديمقراطية تعني أول ما تعنيه الأمور التالية:

-       أن السلطة السياسية تبدأ من الشعب وأن شرعية النظام تأتي من الشعب.

-       أن تمارس السلطة السياسية من منطلق الخيارات الشعبية.

-       أن يتم تعيين كل من يشغل مناصب حكومية، وعلى كافة الصعد، على أساس انتخابات دورية وتنافسية.

-       وأيضًا، وإلى جانب احترام إرادة الأكثرية، يتم احترام الكرامة الأساسية، والحرِّية، والحقوق الإنسانية للأقليات.

ما يعني، في اختصار، أن الديمقراطية هي الوسيلة الحديثة لتأمين الحكم الحقيقي "للشعب، من الشعب، ومن أجل الشعب".

سادسًا: دستورية السلطة: التي تعني الحكم من خلال نظم ولوائح تستند إلى القانون وتهدف إلى ترسيخ المبادئ الأساسية التي يفترض أن ينصَّ عليها دستور البلاد. وهذه النظم يفترض أن تعني حماية حريات وحقوق المواطنين، وتحديد وتعريف إطار السلطة الشرعية للحكومة، وتأمين الجهاز الإداري اللازم لتحقيق هذه الأهداف.

لذلك، ومن أجل تحقيق هذه المبادىء التي لا يختلف حولها أحد يجب علينا السعي مجتمعين من أجل تحقيق ما يلي من...

3
إصلاحات أساسية

فالتسلط يسير عالميًا على طريق الإنحدار؛ وكذلك الأمر في بلدنا حيث تبين الأحداث الأخيرة أن عصر الأباطرة والأسياد في طريقه إلى الزوال. لأنه آت لا محالة ذلك الزمان الذي سيتمكن فيه المواطنون من التحكم بدولتهم. وفيما يتعلق بنا، فإن الطريق الذي يمكن أن يخرجنا من المأزق الحالي الذي نعيشه يتطلب أن نحرر أنفسنا من المفهوم التسلطي الذي يدعو إلى الاعتماد على "سيد مستنير" و/أو على "مسؤول نزيه" مفترض، واستبداله بنظام يعتمد على الحرِّيات العامة وعلى الديمقراطية، وحكم القانون، وتعزيز الوعي المواطني الحديث الذي يعتبر أن الحقوق أساسية وأن المشاركة في المسؤولية واجب. لذلك ومن منطلق هذا الواجب نتقدم بالاقتراحات التالية المتعلقة بما يفترض أن يكون عليه الحكم، وحقوق المواطنين، والتطور الاجتماعي في بلدنا:

1.    وضع دستور جديد للبلاد: حيث يتوجب علينا إعاد صياغة دستورنا الحالي، وإلغاء ما يتضمنه من أحكام تتعارض مع مبدأ السيادة الشعبية، وتحويله إلى وثيقة تضمن بشكل حقيقي حقوق الإنسان، وإمكانية ممارسة السلطة من قبل الجميع، وبحيث يصبح الأساس القانوني لإرساء الديمقراطية. وهذا الدستور يجب أن يكون أعلى قانون في البلاد، ولا يمكن تجاوزه من قبل أي فرد بدءًا من رئيس الدولة وصولاً إلى أي مواطن عادي، أو من قبل أية مجموعة، أو أي حزب سياسي.

2.    الفصل بين السلطات: لأنه يجب علينا إقامة حكومة عصرية تضمن الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. لأننا بحاجة إلى نظام إداري يحدد إطار مسؤوليات الحكومة ويمنع تعسف السلطات التنفيذية وأولها سلطات الرئاسة. كما يجب أن تكون الحكومة، ورئيسها، ورئيس الدولة، وأي مسؤول في البلد، مسؤولة أمام شعبها.

3.    مجلس تشريعي منتخب ديمقراطيًا: وذلك من خلال نظام يتم فيه اختيار أعضاء الهيئة التشريعية عن طريق الانتخاب الحرِّ والمباشر. وعلى هذا المجلس التشريعي أن يلتزم بالمبادىء الأساسية المحددة أعلاه والتي يتفق حولها الجميع.

4.    نظام قضائي مستقل: يجب أن يكون حكم القانون فوق مصلحة أي حزب سياسي وأن يكون القضاة مستقلون. كما أننا بحاجة إلى إقامة محكمة دستورية عليا وأن نضع طرائق دستورية لتعديل القوانين. وأيضًا، بالسرعة الكلِّية، يتوجب علينا أن نلغي كلَّ اللجان السياسية والقانونية التي تسمح اليوم لمسؤولي الحزب الحزب الحاكم، وعلى كافة المستويات، باتخاذ القرارات المتعلقة بالمسائل السياسية الحساسة بشكل مستقل وبمعزل عن القضاء. كما يجب علينا أن نمنع منعًا باتًا استخدام الدوائر العامة من أجل غايات خاصة.

5.    الرقابة الشعبية على الموظفين الحكوميين: يجب أن يكون السلك العسكري والأمني مسؤولاً أمام الحكومة الوطنية، وليس أمام أي حزب سياسي أو أي شخص، وأن يصبح أكثر حرفيةً. وعلى أعضاء السلك العسكري والأمني أن يقسموا الولاء للدستور وأن يتجاوزوا حزبياتهم فيما يتعلَّق بممارستهم لوظيفتهم. كما يجب وضع حدٍّ للممارسات السائدة حاليًا والتي تعطي أفضلية الارتقاء في المناصب العامة لأعضاء حزب سياسي معين.

6.    ضمان حقوق الإنسان: يجب أن تكون هناك ضمانات صارمة لحقوق الإنسان واحترام عظيم للكرامة الإنسانية. يجب أن تكون هناك لجنة لحقوق الإنسان، مسؤولة أمام أعلى السلطات القضائية، ويكون بوسعها أن تمنع الحكومة، وأي مسؤول في البلد، من سوء استخدام السلطات العامة ومن انتهاك هذه الحقوق. وبشكل خاص يجب على الدولة السورية الديمقراطية والدستورية أن تضمن الحرية الخاصة لمواطنيها. حيث لا يفترض أن يعاني أحد من الاعتقال التعسُّفي وغير الشرعي، ولا من الحجز، أو الاتهام، أو الاستجواب، أو العقاب إلا استنادًا إلى القانون.

7.    انتخاب المسؤولين للمناصب العامة: يجب أن يكون هناك نظام شامل للانتخابات الديمقراطية يستند إلى مبدأ "شخص واحد، صوت واحد". كما يجب إقامة نظام يضمن الانتخاب المباشر والدوري لكافة رؤساء الإدارة على كافة المستويات بدءًا من المحافظات، فالمدن، فالبلد. كما أن حق إقامة انتخابات حرَّة ودورية يشارك بها جميع المواطنين يجب أن تكون غير قابلة للمس.

8.    المساواة الكاملة: في الحقوق وفي الواجبات، وللجميع. سواءً أكانوا أبناء مدن أو أبناء ريف. حيث يجب أن نلغي كلَّ الأنظمة والقوانين والممارسات التي تميز بين مواطن وآخر، أيًّا كان منشأه.

9.    حرِّية تشكيل الجماعات والأحزاب: ومن دون الحصول على أية موافقة من أية سلطة، وفقط عن طريق الإعلام القانوني من خلال كاتب العقل. وضمن شرط وتعهد أساسي باحترام القوانين والأنظمة السائدة وعدم الدعوة للطائفية والحقد والعنف تجاه الآخر.

10.                       حرِّية التجمُّع: يجب أن يضمن الدستور الحرِّية الكاملة بالتجمُّع السلمي، والتظاهر، والتعبير، كحق أساسي لجميع المواطنين. لذلك، ومن هذا المنطلق، لا يحقُّ لأي حزب يصل إلى الحكم أن يعيق أو يلغي هذا الحق.

11.                       حرِّية التعبير: التي يجب أن تصان كحقٍّ أساسي من حقوق أي مواطن. ما يعني كمحصلة حاصل، ضمان حرِّية الإعلام، وإلغاء كل ما يعيقها. يجب التوقف التام عن اعتبار التعبير عن الرأي جريمة. وأن نلغي من قوانيننا تلك التهمة "المتعلقة بما يفترض أنه مسٌّ بهيبة الدولة". فهيبة الدولة تكون من خلال عدلها لا من خلال قمعها.

12.                       الحرِّية الدينية: النابعة من منطلق حرِّية المعتقد ومن منطلق فصل الدين كقناعة شخصية عن الدولة التي يفترض أن تضمن حقوقًا متساوية لجميع مواطنيها. فلا يعود هناك دين محدد للدولة ولا لرئيسها.

13.                       التربية المدنية: حيث يجب أن نلغي من مدارسنا ومن مناهجنا التعليمية كلَّ ما يدعو إلى عقيدة معينة، وأن يتم التركيز في المقابل على القيم المواطنية والإنسانية التي تجمع الجميع.

14.                       احترام الملكية الخاصة والعامة: التي يجب أن تكون مصانة كحق أساسي لكلِّ مواطن. وبالتالي، إلغاء أو تعويض ما لحق بالكثير من المواطنين من أضرار نتيجة التسلط على ممتلكاتهم. وأيضًا، يجب احترام الملكية العامة لكلِّ وسائط الحياة الأساسية التي يجب أن تحدد قانونيًا.

15.                       إصلاح ضريبي شامل: فتعدَّل القوانين السائدة بحيث تؤمن المساواة الكاملة بين جميع المواطنين ودافعي الضرائب، وتمنع الاحتكار.

16.                       الضمان الاجتماعي: الذي يجب أن يشمل الجميع ويضمن حقوقهم الأساسية في التعليم، والصحة، والتقاعد، والعمل.

17.                       احترام وحماية البيئة: لأن علينا احترام وحماية البيئة لأجيالنا وللأجيال القادمة، لبلدنا وللعالم. فنضع القوانين والأنظمة التي تمنع أي تعدٍّ عليها.

وأيضًا، ومن أجل تحقيق كلِّ ما سبق، فإن أهم ما نحتاج إليه اليوم هو:

3
الحقيقة والمصالحة

حيث يفترض ضمان الاحترام للجميع، للأفراد وللعائلات، لكلِّ الذين عانوا خلال الفترات الماضية من الحملات السياسية. يجب إعادة الاعتبار للجميع، والاعتذار من كلِّ من أسيء إليه بسببٍ من معتقده أو رأيه. وهذا الاعتذار يجب أن يصدر من الدولة التي يفترض أن تعوض معنويًا وماديًا على هؤلاء، وتفرج بالتالي، وفورًا، عن جميع المعتقلين بسبب آرائهم ومعتقداتهم. ما يتيح المجال لمصالة وطنية حقيقية ودائمة قائمة على أساس الحقِّ والحقيقة. ما يمكن أن يكون أساسًا لأي حوار وطني حقيقي.

*** *** ***


 

horizontal rule

* هذا المشروع مستوحى من إعلان 2008 "للمنشق" الصيني الحائز على جائزة نوبل لهذا العام لو وين.

[1] دستور عام 1928.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود