|
محرمة الساحر المطوية
لغسان علم الدين:
على أكثر من ضفة، يتحرك السحر في شعر غسان علم الدين، لا ليشيع اللبس المغوي فحسب ولكنْ ليبذر المعنى الذي يحمل أشكاله الجمَّة. على هذا المنوال، ينغزل ديوانه الجديد محرمة الساحر المطوية، الصادر لدى دار النهضة العربية، بحثًا عن شكل للوجه، الذي يفترض الشاعر أنه لم يعد يشبهه. هو البحث المتواصل الذي كان بدأه الشاعر في كتبه الثلاثة الفائتة: خيط بياض، حين سرب فراشات اصطدم بزجاج النافذة، ويساورني ظنٌّ أنهم ماتوا عطاشى، وأعتقد أنه لن يركن إلى توقف، باعتبار أن مصيره مرتبط بخيط من البياض، بل بسرب من الفراشات، بل بالظنِّ، وذلك كله يتحرك في دواخل طيَّات السحر ومحرمة الساحر، حيث العبارات والكلمات تطير من تلقاء ضمائرها، بحثًا عن ذاتها الغائمة في المرارات التي لا حدود لها. ليس من الغريب في شيء أن يقال عن هذا الشعر إنه شعر مرٌّ. بمعنى أنه شعر أليم. وأن ألمه فائض، ويفوح، ويجرح، وينسال، ويصيب مقتلاً، ولكنْ بأصوات خفيضة، وأحيانًا بالنظرات فحسب، حيث لا يجوز للصوت المرتفع أن يتخذ لإيقاعاته وتعبيراته أمكنة متقدمة. هنا، يتخذ البحث مجراه لأن المواضع التي يتحرك فيها هي فضاءات المعنى المرتبط بالموت وحروبه وانكساراته، وما يتطلبه ذلك كله من تألق، هو تألق الساحر الذي يستوي فيه الساحر والمسحور على حد سواء. في هذا الشعر "العائلي"، الذي يهديه الشاعر إلى أمه، فإن "المساء يعوي". بل حسنًا يفعل هذا المساء، وإن لم يكن ينبس ببنت شفة. فمَن غيره، متقمصًا ألاعيب الساحر، يتولى الإنسياب داخل الألم والارتطام بالجدار، والإشادة به، الذي كلما التصقت العبارة بالعبارة ازداد حضور الظل تفسخًا. هذا التفسخ بالذات، هو الذي علَّم الطفل الذي كانه الشاعر، كيف يكتب، لا لتخييط جرح الكون المفتوح، ولا لوضع حد للمأساة، وإنما لمواصلة أقدار المسحور بلعبة الساحر ليس إلا. من هو الساحر في هذا الشعر الذي رأيت أنه قد يكون شعرًا "عائليًا"؟ هذا الساحر لن يكون معطى جوابيًا مباشرًا، وإن يكن في الإمكان تسمية الأب ساحرًا. الحياة نفسها التي عاشها الشاعر، طفولةً، وعائلةً، وريفًا، وأمكنة، هي هذا الساحر. الحياة نفسها، متجسدةً في البحث عن
الساحر ذي العينين الأعمق من بئر وإذا كان النص يطالب بالساحر، دون سواه، فلأنه سرٌّ، ومأوى، وسعادة هاربة، ولأنه "خلاص" أو "عزاء"، باعتبار أن ما آلت اليه الحياة "بعد الثلاثين"، قد تحولت عدمًا يفتح فمه الوحشي لافتراس حتى الطفولة التي كانت في منأى من كل افتراس. "أريد الساحر"، يقول غسان علم الدين، "لا أريد أحدًا، ولا شيئًا سوى الساحر، ذلك الماكر الرائع". ولماذا يريده؟ لأنه هو الذي جعله يتخيل "أن جنائن المرجان والإسفنج/ ليست مليئة بالتعرجات والمنعطفات الخطرة/ وأن البحر إذا هاج/ يكون يتفش عن سرب أسمال شارف أن يبيد". وهو يريد الساحر خصوصًا ليستعيد بعض ملامح وجهه القديمة "ما قبل الثلاثين"، ونظرات ضيَّعها وسط هدير طائرات "في سماء رحلات كثيرة بين المنية وأوستراليا"، تلخيصًا لحياة مبددة عاشها الشاعر بالذات. ليس قليلاً أن يكون هذا الديوان مرآة شعرية التباسية لسيرة ما. فهذا شأن الشعراء تحديدًا: تخليص الحياة من نثريتها، حفاظًا على ما تبدد من أنفاس ونظرات "في مقهى الأندلس في طرابلس" حيث كان الاستسلام لدخان السجائر "يشكل غيمة أسافر معها الى مكان/ جدرانُه خلت من صور المنتحرين". أين الساحر أيها الشعر؟ أين الساحر أيتها الحياة؟ بل أين الشعر أيها السحر والساحر؟ جوابًا، أقول على لسان غسان علم الدين نفسه، وإن من طريق الاستفهام الإنكاري: "هل تظنون وبهذه البساطة أني سأتخلى عن البحث عنه". لهذا السبب سيعبر الشاعر هذا الوعر بحثًا عن الغامض والمجهول، مصوِّرًا الشقوق، منظِّفًا الرأس، مصاحبًا النيام، ماشيًا داخل الفجوة. وفي الفجوة هذه، حيث "ها أنا الآن"، "لا أعرف ما إذا كنتُ نائمًا،/ أو واقفًا أو مستلقيًا، أو مؤرقًا أو وسنان". هناك سيطيِّر الشاعر الكلمات والأحلام، وسيخطط سقف الغرفة باللهاث لتتراكم على زجاج النافذة غيمة مثقلة بالصراخ. ولهذا السبب، أقول إن الشعر هو ها هنا. في هذا البحث، في هذه الإقامة المفجعة داخل السيرة، داخل الطفولة، داخل الذكريات، داخل المرارات والانكسارات، داخل المكان الهارب، داخل الأمومة الهاربة، والأبوة الهاربة، حيث لا يقين سوى يقين الأحلام الهاربة. ماذا بعد؟ هل يجب أن يتقدم الوقت؟ هل يجب أن يتأخر الوقت؟ هل يجب أن ينسى الشاعر؟ أم هل يجب أن يتذكر؟ لقارئ هذا الديوان أن يلتفت دائمًا الى مسألة الوقت، فهي ها هنا داهمة، ملحاح، قاضمة، مفترسة، موجعة، وتكاد تشكل التيمة الأساسية لفهم محرمة الساحر المطوية ولاستجلاء غوامضها وأسرارها وألاعيبها، وهي على العموم شعرية. المسألة تنطرح على الوجه الآتي: إذ لا يعرف الشاعر كيف يزيِّن الضجر، وكيف يبلع ريق الحياة بعدما استحالت هذه الحياة جثة، فإنه يلجأ الى المحرمة والساحر، ليفعل شيئًا "يوقفني عن هذا الجنون عن محاولات الكتابة". ولأجل ذلك لا بدَّ من وجود تلك الفتاة الجميلة الأنيقة، تلك الطفلة التي تدعى سارة، والتي عندها وحدها
يجب ألا يتقدم أو يتأخر الوقت، النهار |
|
|