|
الكاتب والمسرحي آرثر ميللر استقرائي زمانه والزمان المقبل
آرثر ميللر، أحد ثلاثة عمالقة في المسرح الأميركي المعاصر، (الآخران هما يوجين أونيل، وتينيسي ويليامز)، عُرف بوضع شخصيات نصوصه في صراع مع نفسها، كاشفًا بجرأة عن أكذوبة الحلم الأميركي الذي بشَّر به الرئيس توماس جيفرسون في وثيقة إعلان الاستقلال عام 1776، وفضائح المكارثية في الخمسينات، وتسلطها البوليسي على حرية الرأي والتعبير، وحملتها المسعورة على اليسار المناهض للاستغلال الرأسمالي والبطالة والقيم الاستهلاكية.
الخلاَّق الذي فضح المكارثية وأكذوبة الحلم الأميركي لم تقتصر شجاعة ميللر على التنديد بأشكال القمع في العالم، والدفاع عن حقوق الإنسان وأطروحاته التي أودعها في مقارباته الدرامية، بل شملت مواقفه السياسية العملية. في هذا الصدد يروي البروفسور في جامعة بوسطن هاوارد زين، في كتابه الإرهاب والحرب، الصادر عام 2002، الواقعة الآتية: في أثناء حرب فيتنام دعا الرئيس الأميركي جونسون الكاتب آرثر ميللر إلي البيت الأبيض، لكن الكاتب الشهير رفض الدعوة، وأرسل إلى الرئيس برقيةً مختصرةً يقول فيها: عندما تتكلم المدافع يموت الأدب والفن. بمعنى آخر: كفانا حربًا أيها الرئيس، كفانا قتلاً وتدميرًا للشعوب الفقيرة، كفانا عنجهية واستكبارًا في الأرض. في عام 2003 رفض ميللر تسلم جائزة القدس من رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون، أو أحد وزرائه، قائلاً إن سياسة إسرائيل لا تستحق أي احترام، ومعربًا عن اشمئزازه من تعاملها مع الشعب الفلسطيني، ومطالبًا إياها بأن تعترف بحقوقه المشروعة، وتلجأ إلى خيار السلام، وتخلي المستوطنات من الأراضي الفلسطينية المحتلة. كان ميللر يجمع، إلى جانب الجرأة، خصال الخلاَّق العبقري المتعدد الموهبة، والبصيرة الناقدة، والروح الإنسانية الشاملة، والصدق الجارح، والنقمة على القيم الرأسمالية، والتحليل العميق لسيكولوجيا الفرد والمجتمع، والحدس الاستشرافي. وكثيرًا ما كان يتباهى بهذا الحدس، وبقدرته على قراءة المستقبل، مميزًا نفسه عن الكتَّاب الآخرين بأنهم يصلون عادةً متأخرين إلى مكان الحدث، في حين يبكر هو في الوصول، وحتى قبل وقوع الحدث. ويتساءل دائمًا: ما نفع الكاتب إذا لم يختزن في كتاباته الطاقة الاستقرائية لزمانه الحاضر والمقبل؟ وهو في الحقيقة لم يكن يكتفي باستباق الأحداث في نصوصه المسرحية والروائية، بل لكي يهز الضمائر، كما يقول، ويدق نواقيس الخطر لتحاشي الكارثة، أو لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الأقل. ولعل هذا ما يسوِّغ لهجته المتطرفة والقاسية في ما يكتب، إذ لا أحد ينتظر من المنذر بالحريق أن يصرخ بدماثة وهدوء، وخصوصًا في مجتمع كالمجتمع الأميركي اعتاد، وتبرمج، على عدم الشعور بالإثارة إلا تجاه المسائل الفضائحية فقط، وهو المجتمع الذي صبَّ ميللر عليه، وعلى النظام السياسي الذي يقوده، سخطه وغضبه في معظم أعماله المتدفقة والحافلة دائمًا بالنقمة، مسوِّغًا ذلك بقوله: لا الدولة ترحم ولا الاقتصاد ولا المجتمع ولا الدين ولا العائلة، وأقسى ما يواجهه الأميركي أنه يعيش وسط تاريخ هائج كالإعصار لا مكان فيه للتسوية، ومسكون دائمًا بالاستحقاقات الطويلة المدى. ولم يكن في مقدوره، حتى حينما جعله قلمه ثريًا حد التخمة، أن ينسى ذلك اليوم الصعب، وهو لما يزل فتى في الرابعة عشرة من عمره، عندما عاد أبوه إلى المنزل ممتقع الوجه، لقد طردوه من عمله ورموه في وحل البطالة. وكيف ينسى هذا الحدث وقد بنى عليه موضوع مسرحيته وفاة بائع متجول، إحدى أهم المسرحيات في القرن العشرين، الحائزة جائزة "بوليتزر"، وهي المسرحية نفسها التي كانت كافية لاستجواب ميللر، واتهامه بالنقد الضمني للرأسمالية، وميوله اليسارية في الحقبة القمعية المكارثية، التي تعرض فيها، إلى جانب ميللر، عشرات الكتاب والفنانين الأميركيين البارزين إلى حملة تشهير واسعة، وحرب يومية شعواء نغصت حياتهم، ومنع بعضهم من نشر أعماله، واضطر قسم منهم إلى الهجرة، أو عاش سنوات معزولاً عن محيطه. تدور أحداث المسرحية حول مشكلة البطالة، وآثارها السلبية، ومسؤولية الأب تجاه أسرته، من خلال رجل عمل في إحدى الشركات، بائعًا متجولاً لبضاعتها، مدة أربعين عامًا ليكافأ بطرده من عمله علي يد ابن صاحب الشركة الوارث لها، وينهي الرجل حياته بالانتحار بعد أن يترك لإبنه حصة التأمين. إنها تدمير مباشر للمشاعر تجاه خرافة الحلم الأميركي، ووضع حاملها أمام حقيقة مفادها أن سبل تحقيق هذا الحلم هي أن تعمل بجد وشرف، وتمتلك الطموح الذي يقود إلى النجاح والثروة، ويستوجب ذلك وجود الوقت والقوة. لكن هذا الحلم زاد عند الجميع، وشجع الطمع والتصرف الأناني والغرور والتنافس بين شخص وآخر. لقد استحوذ الحلم الأميركي على شخصية ويلي لومان، واعتقادًا منه بإحدى قيم المدينة، التي تقول إن القوة تأتي بالمال، فقد فضَّل الريف الحر المفتوح، حيث لا يوجد ضغط كبير هناك، على المدينة التي تثير "إرهابًا بالاحتجاز". وأراد ويلي أن يحقق ذاته من خلال النجاح كبائع متجول، ولكن دافع الربح وغريزة المنافسة ومجموعة من ضغوط العمل تسببت بضعف في الشخصية، وأدى فشله المتكرر إلى فقدانه كل الاحترام لنفسه، وتدمير حياته الخاصة، وبات يشعر بعدم الأمان، وبأنه ليس رجل الأعمال الناجح الذي يدَّعيه. تقول اليزا كازان، مخرجة المسرحية في برودواي، إن خطأ ويلي القاتل أنه بنى حياته ومفهومه للاحترام على كل شيء زائف تمامًا، لقد فشل في الحياة إلا أنه يشعر بوطأة أكبر لذلك الفشل بسبب حقيقة افتراضه أن النجاح في الحلم الأميركي متوافر لأي شخص. وأثَّر هذا الأمر في أسرته بصورة جدية، وخصوصًا أبناءه. ويمكن أن توجد ثلاث وجهات نظر لهذه المسرحية: أولاً، إنها تراجيديا حديثة، وإن ويلي هو هيئة تراجيدية، أي أن حياته كليًا كانت مما لا يمكن التنبؤ بها. يقول جون ماسون برو إن مسرحية ميللر تراجيديا حديثة خاصة، وليست كلاسيكية أو ملحمية. وشكلها المركزي هو رجل صغير حُكم عليه بأن يكتشف صغره، وليس رجلاً كبيرًا تحطمت عظمته. ثانيًا، إنها مسرحية عن العلاقات، ما بين ويلي وليندا التي لا يهتم بها ويلي أو يرعاها كما يجب، في حين تهتم هي به، إنها معجبة به، وبطبيعته المتقلبة، ومزاجه وأحلامه الكبيرة، وقسوته الضئيلة. ثالثًا، إنها مسرحية ذات بناء أصيل، وكان ميللر يريد أن يسمِّيها "في داخل رأسه" لأن المتلقي يرى أحلام يقظة ويلي في داخل ذهنه. إنها طريقة ذكية لإخباره (المتلقي) بما حدث في الماضي، ولماذا أصبحت الأمور على ما هي عليه الآن. كتب ميللر خلال ستين عامًا أكثر من ثلاثين مسرحيةً، منها لقاء مع الغستابو 1942، الرجل الذي كان يمتلك الحظ كله 1944، كلهم أبنائي 1949، البوتقة 1953، المحنة 1953، مشهد من الجسر 1955، ساحرات سالم 1956، المختلون 1961، حادثة في فيشي 1964، السقوط 1964، الثمن 1969، خلق العالم وأعمال أخرى 1972، الساعة الأميركية 1980، قيادة أسفل جبل مورغان 1991، اليانكي الأخير 1993، الزجاج المكسور 1994، علاقات مستر بن 1998، انبعاثات ناعمة 2002، وإكمال صورة 2004. كما كتب مجموعة أعمال سردية، وكتابين في أدب الرحلات، وسيرته الذاتية، وتمثيليات إذاعية، وكتابًا في أدب الأطفال. يعيد ميللر في البوتقة كتابة تاريخ أحداث بلدة سالم بطريقة دراماتيكية مثيرة تركِّز على الأعمال الوحشية التي ارتكبها "البيوريتانيون" البروتستانت ضد المواطنين الأبرياء، خلال "محاكم السحرة"، بحجة الدفاع عن النقاوة الدينية، التي لم ينج منها حتى العديد من المتدينين أنفسهم. تبدأ أحداث بلدة سالم بعد انتشار نبأ مفاده أن مجموعة من المراهقات أقمن حفلة رقص إباحية في الغابة المجاورة للبلدة، بمن فيهن إبنة قس البلدة وابنة أخته وخادمته. ولاتقاء شر العقاب، تبدأ الفتيات بإلقاء التبعة على النساء الساحرات في البلدة، بأساليب متقنة من النفاق والصخب والشعوذة، لتمتد في ما بعد إلى الرجال، بما يخلق جوًا هستيريًا بين المواطنين، يدفع أغلبهم، في محاولات للتبرؤ من التهمة إلى إتهام الآخرين، فنشهد سلسلة لا حصر لها من تصفية الحسابات القديمة بما فيها ما يتعلَّق بالملكية والحدود والسعي إلى النفوذ وتحقيق أهداف شخصية وإيديولوجية مبيَّتة. هذه الأحداث التي تفجِّر لدى العديد من المواطنين مشاعر دفينة من البغض، الجشع، الحسد والأنانية، تفضح، في حد ذاتها هشاشة الإيمان الديني الذي كان يسود البلدة قبل نكبتها اللاحقة. وتسفر الاكمات عن اعتقال ما يزيد على مئة شخص، يعدم منهم عشرون، ويموت العديد داخل السجن في انتظار المحاكمة. في مشهد من الجسر يتناول ميللر انشغال الإنسان بالرغبات الحيوانية والشذوذ الجنسي، ويعالج فكرة الذنب حين يقع الإنسان فيه، وكيف يعاني شعوره بالذنب، ويصل إلى اكتشافه لنفسه وتحديد علاقاته بالغير. إنها مأساة شرف وانتقام أسرية في ظل جسر بروكلين تنجم عن لجوء مهاجرين إيطاليين دخلا الولايات المتحدة بطريقة غير مشروعة إلى شقة إدي كاربون، وهما من أقارب زوجته وابنتها. وتقع الابنة في حب أحد الإيطاليين فتثور غيرة إدي لأنه كان يكنُّ للفتاة، وهي منه بمنزلة الابنة، حبًا مكظومًا، ويشي باللاجئين لدى السلطات فتلقي القبض عليهما. وتتميز حادثة في فيشي بكونها مسرحية ذات بعد سياسي قائمة على حادثة فعلية هي تحقيق قام به النازيون، في أثناء الحرب العالمية الثانية، واستجوابهم عددًا من الفرنسيين بتهمة أنهم يهود. ولا تنفصل هذه الخيوط الاجتماعية والسياسية عن اهتمامات ميللر الأخلاقية التي تتخذ شكل انشغال بالصراع بين القانون الوضعي والقانون الأخلاقي. في مسرحية السقوط يطرح ميللر قضايا فكرية كبيرة، ذاهبًا إلى أن أكثر الأماكن براءةً في بلده هي مصحة الأمراض العقلية، وكمال البراءة هو الجنون، وقد أتهم بأن هذه المسرحية عبارة عن سيرة ذاتية لفترة حياته مع زوجته ماريلين مونرو، لكن معظم النقاد عدَّها أعظم حدث في تاريخ المسرح الأميركي. بطلها كونتين، محام يساري ليبيرالي في الأربعين، يجري الحدث التعبيري داخل رأسه، محاولاً تتبع جذور أفعاله وفهمها على حقيقتها، وإدراك معنى علاقاته الشخصية في الماضي. لقد قصَّر في حق أبيه وزوجته الأولى، ولم يمتلك شجاعة الجهر بمعتقداته الليبيرالية، والدفاع عن صديق له في سنوات الاضطهاد المكارثي، ولم ينجح في صون زواجه الثاني من مغنية شعبية مشهورة. يجمع ميللر في مسرحية الثمن بين خيوط السياسة والاجتماع والأخلاق في مقاربة لمسائل الذنب، والمسؤولية، والصراع بين الذات والمجتمع ممثلاً في الصراع بين أخوين (شرطي وجراح) من خلال إقامة تضاد بين حياة هذين الأخوين اللذين ظلا منفصلين طويلاً، وأخيرًا التقيا لكي يتخلصا من بيت الأسرة القديم. وتوحي المسرحية إلى فكرة تقبل "فقدان البراءة"، بوصفه حالةً محتومةً للإنسان. وهي تستخدم التقنية الابسنية، تقنية العرض الارتدادي إلى الخلف، في أصفى أشكالها، وإذ تنتهي الشخصيات إلى إدراك حقيقة دوافعها المعقدة، تنفتح عيون المتلقين على قدرة الإنسان على خداع ذاته. إن ما كان يشغل ميللر أساسًا في هذه المسرحية هو ما يتكلفه المرء من أجل أن يكون شخصًا يرفض الانجراف وإغواء قيم المجتمع. إنه بمعنى ما ثمن الصدق مع النفس، وبمعنى آخر فقد رفض الشرطي أن يختار الجنس ودوافع النجاح في المجتمع، وقد أقام بينها وبين نفسه حائطًا، وحافظ على نوع من الصدق الأحمق العنيد مع النفس نتيجة لموقفه، ولكنه دفع ثمنًا باهظًا في مقابل ذلك. عُرف عن ميللر أنه كان يتدخل دائمًا في الإخراج، ولا يكتفي بدور كاتب المسرحية، اعتقادًا منه بأن دور الكاتب لا ينتهي عند صنع المسرحية، ويخطئ من يظن أن طباعة ورق المسرحية وغلافها هي مجرد مظاهر شكلية معزولة عن العملية الخلاَّقة، فكيف عندما يتعلق الأمر بتحويل المسرحية تجسيدًا حيًا ومتحركًا على الخشبة أو على الشاشة؟ لذلك، وعلى رغم شيخوخته فقد ظل يتنقل، قبل وفاته بعام، ما بين مقر إقامته في نيويورك ومدينة روكسبوري بولاية كونكتكت للإشراف بنفسه على اللمسات الإخراجية لمسرحيته انبعاثات ناعمة، التي عرضت على مسرح مينيابولس العريق، لا سيما أنه كتبها وفي ذهنه هاجس عدم تقبل الجمهور لها، وهي تراجيديا غرائبية قريبة من الخيال العلمي، وتدور أحداثها في بلد متخيل من بلدان أميركا اللاتينية، وتركز بصورة خاصة على تحويل إنسان هذا العصر سلعة دسمة للتسويق والدولرة (من الدولار). وقد انتابته دهشة كبيرة لما لاقاه عرضها من نجاح جماهيري واسع، وعبَّر عن ذلك بقوله: أكاد لا أصدق أن المواطن الأميركي لا يزال قادرًا على تذوق الفن، واستيعاب الثقافة وسط كل هذه الأجواء المشحونة بالدم، وبهستيريا الحرب! مثلما قدمت مسرحياته في معظم دول العالم، فقد كان المسرح العربي، ولا يزال منجذبًا إلى ما ترجم منها، وخصوصًا كلهم أبنائي، وفاة بائع متجول، السقوط، والثمن، ولا يكاد يمر عام من دون أن يختار هذا المخرج، أو ذاك، من مخرجي الفرق المسرحية المحترفة، أو المطبقين في المعاهد والكليات المسرحية، واحدةً منها لإخراجها، سواء كما هي في نصها الأصلي، أو بعد تكييفها لتكون ملائمةً لقضايا المجتمع العربي. وكان صاحب هذه السطور قد شاهد آخر مرة تجربةً إخراجيةً رائعةً جدًا لنص كلهم أبنائي قدمها المخرج العراقي الكبير جاسم العبودي في بغداد أواخر السبعينات، قبل أن يموت في دار للعجزة في أميركا عن عمر يقل بكثير عن عمر آرثر ميللر. النهار |
|
|