|
صورة أخرى للسعادة٭
فابريس
ميدال
على هامش مهرجان فيلوصوفيا، قام فابريس ميدال مع عبد الوهاب المؤدب بمناظرة بين وجهتَي نظر الإسلام والبوذية في السعادة. وقد بدا لهما أن الغبطة – وهي أبعد ما تكون عن حال التأمل المجرد – لا تنفصل عن البصيرة وعن الإقرار بالشقاء البشري. أهي مفارقة؟ ليس بالضرورة. فالرياضة الروحية، هنا، لا تقود إلى التبلد، بل إلى "حكمة مجنونة" تجمِّل الحياة! بات طلب السعادة، على غرار فلاسفة الأنوار، هو شوق البشرية الألح والأثبت. فكأن البشر، وقد انعتقوا من وصاية الآلهة ومن انتظار الآخرة، باتوا منذورين لاستعادة السعادة الأرضية بوصفها غاية وجودهم القصوى. فهل لا يزال لعالمية السعادة هذه من معنى؟ ألا يوجد، وراء رغبة البشرية المشتركة هذه، العديد من تصورات الحياة السعيدة؟ من الفرد إلى الجماعة، من الجسد إلى النفس، من السعادة الواهية إلى الغبطة الروحية، أليس كلٌّ من مختلف طُرُق اختبار السعادة فريدًا بحدِّ ذاته؟ وباختصار، أليست الفكرة الغربية عن السعادة آخر الأوهام الفلسفية الكبرى؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، لا شيء يعدل سفرًا خارج الغرب الحديث، إلى دارَين روحيتين – البوذية والفكر الإسلامي – عُبِّر فيهما عن فكرة السعادة بعبارات جذرية الاختلاف. عبد الوهاب المؤدب – الفرنسي التونسي الأصل، الشاعر، المترجم والكاتب وأستاذ الأدب المقارن في جامعة باريس العاشرة – هو مؤلف كتب عديدة يشجب فيها الأصولية الإسلامية ويدعو إلى تجديد الحوار الفلسفي بين الإسلام والغرب (داء الإسلام، مواعظ مضادة، الخروج من اللعنة: الإسلام بين الحضارة والهمجية[1]). تراه، إذ يستمسك بروح العَلمانية وبفكرة أن الحداثة تُلزم كل امرئ إحداثَ قطيعة مع أصوله، يبشر في الوقت نفسه بـ"تعايش" جديد بين المنقولات الروحية الكبرى للإنسانية.
أما فابريس ميدال – الدكتور في الفلسفة والمدرِّس في جامعة باريس الثامنة – فقد ولد في أسرة يهودية أشكنازية، لكنه تحول مبكرًا إلى البوذية، دارسًا على العديد من أساتذة المنقول التبتي، ولاسيما تشوگيَم ترونگپا[2]. إنه مؤلف كتب عديدة، منها: أي بوذية للغرب؟ والوجيز في الحداثة في الفن، ومؤخرًا، المجازفة في سبيل الحرية: الحياة في عالم بلا معالم[3]، وتراه يجد في الحوار بين البوذية والفلسفة فرصة قد تتيح تحرير الفلسفة من التجريد وتحرير البوذية من الوعظ.
بمناسبة مهرجان الفلسفة في سانت-إميليون [2009][4]، حيث قدم كل منهما مداخلة، اقترحنا على هذين الاختصاصيين في الإسلام والبوذية النظرَ في نقاط الاختلاف والائتلاف بين منقولَيهما حول مسألة السعادة. * * * عبد الوهاب المؤدب: حتى نعرف إذا كان طلب السعادة عالميًّا، لا مناص لنا أولاً من التفاهم على تعريف مشترك. إذا اقتصرت السعادة على حال من الرضا المادي والوجودي للفرد، فمن المؤكد أن السعي في بلوغ هذه الحال ليس عالميًّا، بل مختص فقط بالغرب الحديث، حيث بات تحقيق الذات، الخاص والعَلماني، يتصدر سائر أشكال الهناء الأخرى. أما في الحضارة العربية-الإسلامية، فإن مفهوم السعادة أرحب: إنه، في آن معًا، اجتماعي وروحي وديني: اجتماعي، لأنه، بنظر غالبية المفكرين المسلمين، لا يفترق عن الصلة مع الآخر؛ ديني، لأنه مرتبط بالغبطة السماوية؛ روحي وفلسفي، لأنه، في الفكر الإسلامي، يقع في القلب من تعريفه بالحياة الطيبة في مدينة فاضلة. فابريس ميدال: ليس للتصور الغربي للسعادة كذلك من مكافئ في البوذية، التي يساورها نوع من الريبة حيال طلب حال من الرضا ننعتق فيها من قلقنا الوجودي. فالإيعاز النفساني بالسعادة، في البوذية، إنما هو إلزام مضلِّل يجعل الفرد يتهرب من الواقع ويسجنه في قوقعة متمركزة على الأنية égocentrique. البوذية أكثر حساسية للفرح بوصفه لحظة تلوح بغتة؛ وواجب الفرد إذ ذاك عبارة عن ترك مثل هذه اللحظات المباغتة تنبسط في حياته. ع. م.: كلمة سعادة، بالعربية، متصلة أيضًا بمعنى فعل ساعَد، أي "عاوَن". إذ إن السعادة ليست خبرة فردية؛ إنها بالحري خبرة خروج من الذات، يحملنا فيها شيء يتجاوزنا، يحركنا شيء يسمو بنا. وللمصطلح أيضًا بُعد وظيفي وتقني. فكلمة ساعِد، المشتقة هي الأخرى من الثلاثي سَعَدَ، تعني "الذراع": لنيل السعادة يُعتقَد أن من الضروري تحريك الجسم؛ فكما أن الطائر الذي ينطلق محلقًا في الأجواء يستعمل جناحيه للطيران ويفوز بهذه الحركة بشكل من السعادة، كذلك فإن جسم الإنسان هو الآلة "التقنية" للسعادة. ومنه فإن كلمة "سعادة"، التي تعني في الآن نفسه الهناءة والغبطة، تشترك في الجذر مع كلمة "ساعِد" التي تنطوي على معنى "التعاضد" والقدرة على التحرك، بفضل الجسم، نحو الآخر ونحو العالم. وهذا التجاور اللفظي يوجِد كثافة معنوية تستحق الاستفسار عنها. أخيرًا، فإن معنى كلمة "سعادة" وارد في القرآن: فحتى إذا كان المصطلح غير وارد فيه بحرفه، يتكرر فيه حديث "الذين سُعِدوا"، الأصفياء الخالدين في الجنة، في مقابل "الذين شَقوا"، الخالدين في النار (سورة هود 105-108). السعادة التامة مرتبطة هنا بفكرة الخلود، وليست متاحة إلا في الآخرة. بيد أن انتظار السعادة السماوية يقتضي سلوكًا معينًا على الأرض...
ف. م.: يمكن لمفاهيم مختلفة مرتبطة بالسعادة أن تساعد على فهم روح البوذية. الـنرڤانا nirvāna، أولاً – وهو مفهوم غالبًا ما يسيء أهل الغرب فهمه إساءة شديدة لأنه ليس معرفًا في الكتب إلا تعريفًا سلبيًّا. معنى هذا المصطلح ليس مكافئًا للفردوس الساذج الذي يشبَّه به عمومًا اليوم، بل يقتضي انفتاحًا غير مشروط على العالم. لعل مفهومَي دُكها dukkha وسُكها sukha أكثر تنويرًا بهذا الصدد: كلمة دُكها تعني "الشقاء" أو "الألم"، أو بتعبير أدق، "العجلة التي تَصُرُّ ولا تدور دورانًا سلسًا". وعلى الضد من دُكها، نجد مصطلح سُكها الذي يُترجَم بـ"السعادة"، أو بتعبير أدق، "الغبطة"، إنما الذي يدل على حركة العجلة حركة حرة وسلسة. الشقاء هو أول "الحقائق الشريفة الأربع" في مذهب البوذا، كما عرضه في الموعظة الأولى التي ألقاها في بنارس، وفيها يعاين البوذا أن كل شيء شقاء: الولادة، المرض، الشيخوخة، الموت، الاجتماع بما لا نحب، أو بالعكس، الافتراق عما نحب. وهذه المعاينة لا تقود إلى أي يأس، إلى أي تشاؤم بتاتًا، بل هي نقطة انطلاق لـ"تأليب الحياة" ameuter la vie، بحسب تعبير أنتونان أرتو[5] الجميل جدًّا. البوذية تبين أنه بالإقرار بواقعية الشقاء – لا بإنكاره البتة – يصير اكتشاف "الغبطة" ممكنًا. والالتزام الروحي وممارسة التأمل يرميان، في المقام الأول، إلى تعليمنا عقد صلة مع وجودنا أكثر انفتاحًا وحيوية، أكثر فضولاً وفطنة. ع. م.: إن فكرة أن السعادة تقتضي نوعًا من الرياضة الروحية موجودة كذلك في القلب من الفكر الإسلامي. فالسعادة تُتصوَّر بوصفها مصاحِبة للحقيقة. وهذا الارتباط بين السعادة والحقيقة قد يبدو لنا اليوم باليًا بعض الشيء، لكنْ هذا لأننا نتصور الحقيقة تصورًا نظريًّا بحتًا، فنختزلها إلى علم، إلى جدل عقلاني صرف. غير أن البحث الفلسفي، كما بيَّن ذلك پيار هادو، كان يُتصوَّر أصلاً كأسلوب حياة يتضمن رياضات روحية لتنقية النفس وأخلاقًا[6]. كان هذا مدار الفلسفة عند الإغريق، لكنه كان كذلك عند الفلاسفة المسلمين في العصر الوسيط أيضًا. ف. م.: مع مراعاة الفوارق، يصح قولنا إن التأمل البوذي هو كذلك أسلوب حياة فلسفي، رياضة تأملية. ويدهشني أن القوم لا يشددون على البوذية تشديدًا أكبر بوصفها مذهبًا بطوليًّا، إذ إن هذا هو اللب من تعليمها: إنها لا تستهدف إطلاقًا حمايتنا، بل انفتاحنا على الواقع، حتى إذا كان ذلك غير مريح أو مؤلمًا. العبارة الفصل فيها هي: "انظرْ إلى الأشياء كما هي". اعتناق البوذية هو أبعد ما يكون عن "الارتياح" être zen بالمعنى الدارج الذي يفهمه أهل الغرب! فالزنْ Zen من مذاهب البوذية واحد من أشدها زهدًا وتقشفًا، وليس بتاتًا طريقة يكون المرء فيها "مسترخيًا" être cool. لا مناص من القطع مع "البوذية المخففة"، وهي نسخة عنها مزيفة. فالبوذية لا ترمي إلى أي طمأنينة، بل إلى تنمية أكثر ما يمكن من الصفاء المتوقد – حتى إن البوذا عارض جميع معلِّمي الحكمة في زمانه حول هذه النقطة بالذات. فالحقيقة التي بشَّر بها هي مساعدة البشر على الفكاك من أسْر صلة هاربة وجزئية مع الواقع وعلى الاضطلاع بألم الوجود. ومنه، فإن التأمل ليس الاتصاف بصفات الضفدع، بل شحذ سيف التمييز الذي وحده يحرر من الجهل. ع. م.: ألا يوجد فارق لا يلتئم بين المشاهدة الفلسفية للحقيقة التي وعد بها سقراط تلامذته وبين الطمأنينة التي يعد بها التأمل البوذي؟ ف. م.: البوذية لا تعد بأي طمأنينة، بل على العكس تمامًا: إنها طريقة صارمة، متشددة حتى. كان ترونْگپا يؤكد أن الكلمة الفصل في النهج البوذي هي "اللاأمل"، التي كان يميزها عن اليأس. فالتأمل البوذي، في الواقع، ليس عبارة عن تأمل في شيء بعينه، بل هو حال انتباه للهنا-الآن، حال حضور للذات، حال تيقُّظ. يجب عدم طلب أي شيء والتخلي عن كل وعود. فوحده هذا الصفاء المتوقد من شأنه أن يحررنا من انغلاق الجهل. الفارق بين البوذية وبين فكر سقراط متأتٍّ من أن البوذية تشدد على بُعد الحضور غير التصوري، على الفطنة الحدسية، لا على الديالكتيكا [الجدل].
ع. م.: لقد كتب ابن طفيل – أحد فلاسفة الأندلس المسلمين، حامي ابن رشد ومقدِّمه للأمير – رواية فلسفية، يصح أن نقارنها برواية روبنسون كروزو، هي بعنوان حي بن يقظان[7]. والعنوان ذو مغزى: إذ يبدو أن الـ"حي" مرتبط بنوع من الانتباه التأملي إلى العالم. إنها قصة الطفل حي، الذي تركته أمه بعد ولادته في جزيرة غير مأهولة من جزائر الهند، فربَّته ظبية. وهو، إذ انتزع نفسه من الشرط الحيواني بقواه العقلية الخاصة، وجد السعادة في تأمل الكوسموس بوصفه تناغمًا كونيًّا. ف. م.: التأمل ينمِّي فطنة هي أقرب ما تكون إلى الحدس الخالص؛ والمقصود هو الذهول عن النفس لترك الـ"ما هو" يظهر. وبهذا المعنى، تكون البوذية أقرب إلى الفينومينولوجيا[8] منها إلى الفكر الميتافيزيقي المنهجي.
ع. م.: لعل هاهنا نقطة الافتراق بين البوذية والفلسفة. فعند الفلاسفة أن طلب الحقيقة يأتي أولاً، فيسمو على الخُلُق أو الاعتقاد، اللذين يجب عليه في الوقت نفسه أن يأتلف معهما. بين القرنين السابع والثاني عشر، حين انصهرت، من بغداد إلى قرطبة، المنقولات اليونانية والفارسية والهندية في بوتقة اللسان العربي، ارتسمت ثلاثة تصورات للحياة السعيدة. وفق التصور الأول، تلعب شخصية سقراط دور الأسوة الحسنة، وتتماثل السعادة مع مشاهدة الحق والإله. أما التصور الثاني، الأكثر جماعية، فقد برز مع الفيلسوف العربي اللسان والتركي الأصل أبي نصر الفارابي، الذي كيَّف الفكرة اليوطوپية لـجمهورية أفلاطون مع السياق الإسلامي، مبتكرًا "مدينته الفاضلة"[9]. وعنده أن النبوة تصدر عن الحقيقة نفسها [العقل الفعال] التي تعبِّر عنها الفلسفة؛ ولكنْ في حين أن الفلسفة تستعمل خطابًا تقنيًّا وجدليًّا، تلتمس النبوة نصًّا أغنى بالصور، يُعتقَد أنه أقدر على نشر هذه الحقيقة بين عامة الناس. يتقاطع في مدينة الفارابي الفاضلة ملكوت الدنيا مع ملكوت الآخرة، المشروع السقراطي، حيث يبلغ كل فرد مشاهدة الحقيقة بفضل رياضة النفس، مع حُكم المدينة. فالرئاسة الفاضلة تقود الأمة إلى نيل السعادة والخلاص. وكردِّ فعل على هذه الرؤية الدينية والجماعية، برز من بعدُ تعريف ثالث بالسعادة، جذري الفردية والتوحد. لقد وصلتنا من أواخر القرن العاشر موسوعة بديعة الجمال، مؤلفة من اثنتين وخمسين رسالة كتبها إخوان الصفاء؛ وهؤلاء المؤلفون – فيثاغورثيو الإسلام – يُرسون أسس السعادة في سلوك محض فردي، نجد في اللب منه مفهوم التصفية catharsis المستلهَم من الفكر اليوناني، الفيثاغورثي، والهندي. وهذه عبارة عن رياضة معنوية للتطهر ترمي إلى تحرير النفس، حبيسة جسم يُنظَر إليه بوصفه سجنًا. ف. م.: لا يتفق التأمل البوذي مع هذا التصور، المتفرع عن الأفلاطونية، عن جسم يعاش كسجن. بلوغ اليقظة لا يتم بالفكاك من أسْر الجسم، بل بالتكامل بين الروح والجسم، باستعادة وحدتهما الجوهرية. ففي المنظور البوذي أن العالم ليس مشطورًا، بل "واحد"، والروحانية لا تنفصل عن عمل يكاد أن يكون "نحتيًّا" على الهنا-الآن – كما يبيِّنه مبدأ الـمندل[10]. فالاعتقاد بأن التأمل يفصل عن العالم والجسم إنْ هو إلا حكم مسبق غربي نمطي!
ع. م.: في الفلسفة الإسلامية، يمكن لطلب السعادة أن يفضي إلى قطيعة مع العالم. إنها الطريقة "المونادية" التي دشنها في القرن الثاني عشر الفيلسوف ابن باجة السرقسطي، الذي يعرفه الأوروبيون أكثر باسم Avempace المحرف إلى اللاتينية. ففي رسالته تدبير المتوحد[11]، تراه يماثل بين طلب السعادة وبين مشروع توحدي، يكاد أن يكون استباقًا لـ"مونادولوجيا" لايبنتس[12]: فقط في معزل عن المدينة برمتها، وفي سبيل الفرد، يمكن لطلب السعادة أن يكون ذا معنى. ف. م.: يميل القوم إلى الظن بأن العمل على النفس هو انشغال بالنفس، لكنه في الحقيقة محاولة للتوافق مع الخارج توافقًا أفضل. ففي البوذية، شخصية الـبودهستڤا bodhisattva، "البطل في سبيل اليقظة"، إنما هي شخصية كائن تدفعه الرحمة إلى العمل في سبيل خلاص الإنسانية ككل[13]. ويمكن تقريب ذلك من طريقة الفروسية[14] كما بسطتْها، على سبيل المثال، سِيَرُ فرسان كريتيان دُه تروا[15] في القرن الثاني عشر: الفارس يشتغل في آن معًا على نفسه وفي سبيل خير الجميع؛ فالبطولة التي يحاول إظهارها في كلٍّ من المواقف التي يواجهها لا تنفصل عن إرادة مساعدة الأمة جمعاء[16].
ع. م.: برأيي أن التصوف هو، أغلب الظن، مكان التقارب الأشد بين الإسلام والبوذية. ففي تصوف كليهما، على كل حال، ترتسم فكرة واحدة عن السعادة. أود أن أقرأ لك قصيدة صوفية لأبي مدين الغوث، الصوفي الأندلسي من القرن الثاني عشر والمولود في نواحي إشبيلية، تشهد على هذا التقارب. فالشاعر الصوفي يتغنى فيها بحال السكر المرتبطة بنشوة التجلِّي – تجلِّي عالم الغيب في عالم الشهادة. قد يبدو هذا مفاجئًا إذا علمنا أن الإسلام يحرِّم شرب الخمر. فالواقع أن المحظورات تشجع على شهوة المعصية؛ والإسلام، بتحريمه للخمر، ولَّد شاعرية باخوسية[17] باذخة. إليك هذه القصيدة التي تجوز قراءتها بوصفها ترجمة صوفية لمفهوم النرڤانا البوذي:
طابت أوقـاتي بمحبـوب لنا * حـبُّــه ذخــــري
أنا هو شيخ الشراب، ساقي الملاحْ * لُذَّ لي التمزيقْ
يـا أنـا مَـنْـهُ أنــا حتى أنـا * هِمْتُ في سُكري
كي نفيق، يـا فُقَـرا، من سـكرتي * نقِّـروا في العـودْ
واجعلـوا أوراقهـا لي كفنــا * ماؤهـا طهـري
بعـتُ دنفـاسـي ودلفـي والإزارْ * وبقـيـت عريــانْ
ليس لي عن الشرب غنى * والهوى سكري
كــان ظـنِّـي أنَّنـي نعـشــقـه * وهـو لـي يعشـقْ
تجلَّى الحب، تدلَّى، فدنى * سـاعة الذِّكـر
فسهـام البيـن دَعْ ترشــقـنـي * سـلِّـمـوا ما لـي
وهو لي روحٌ أقـام البدنـا * هو في سـرِّي
ف. م.: هذا بديع! ع. م.: بذل النفس كليًّا للراح، للمحظور بوصفه سرًّا – أي جرأة خارقة! والاستفاقة بفضل السكر! فكأن المحرَّم هو فاتح الفضاء للسر، ينبوع السعادة واليقظة. ف. م.: أنت على حق. التصوف حليف السر. ففي البوذية التنترية bouddhisme tantrique، المسماة أيضًا ڤجْرَيانا، مفهوم التصوف هذا مفهوم مركزي: إنه طريقة لاعتناق الكل. كأن ذلك أشبه بالكحول، الذي يمكن له أن يُغرقنا في أشد أنواع البلبلة، إنما يمكن له أيضًا أن يحررنا من الذهنية الخوافة المتمركزة على الأنية. ففي التنترا Tantra، لا مندوحة لنا من أن ننعتق من نقاط علامنا المثبتة مسبقًا للدخول في شساعة الحرية، للمجازفة بحياتنا من جديد. في الكثير من التمثيلات التنترية، نجد آلهة عجيبة تحمل بيدها، لهذا السبب بالذات، كأسًا من الخمر: إنها تريد للذهن الوضيع والضيق أن يثمل. هناك جانب مترع بالبهجة والحياة في هذا الفرع من البوذية: فهو يشدد في المقام الأول على الحب واتقاده؛ وتحرير هذا الحب يقتضي سيرورة دائبة، تصفها القصيدة التي قرأتَها أحسن الوصف. إنه التجرد من الخوف والخشية، القفز في الشساعة. وفي ذلك، لا غنى أيضًا عن شيء من المرونة حيال الشريعة؛ وفكرة "الحكمة المجنونة" تبيِّن ذلك. فالحكمة الاتفاقية غالبًا ما تكون مذهبًا أخلاقيًّا ضيقًا، غُلاً، سجنًا. لذا لا بدَّ للمرء من المجازفة في سبيل حريته، من أخذ الغلو فيها على عاتقه. و"الحكمة المجنونة"، على ما يبدو لي، واحدة من ذروات الفكر البوذي الشاهقة[18]. ع. م.: عند الغرب، هذه أقرب إلى الجمع بين نقيضين oxymore؛ أما في التصوف البوذي أو الإسلامي، فهو تعريف جيد بالسعادة... سجَّل الحوار: مارتن لوگرو المترجم عن الفرنسية: ديمتري أڤييرينوس *** *** *** سماوات ٭ «Une autre idée du bonheur», dialogue entre Abdelwahab Meddeb et Fabrice Midal, propos recueillis par Martin Legros, Philosophie Magazine, numéro 29, mai 2009, pp. 30-35. [1] Cf. Abdelwahab Meddeb, La maladie de l’Islam (Seuil, 2002) ; Contre-Prêches (Seuil, 2006) ; Sortir de la malédiction : l’islam entre civilisation et barbarie (Seuil, 2008). [2] هو تشوگِيَمْ ترونْگپا رنپوتْشِه (1939-1987): علامة وشاعر، أستاذ في التأمل بحسب أهم طُرُق البوذية التبتية الباطنية، ومؤسس طريقة شمبهلا؛ نقل تعاليم الـڤجْرَيانا Vajrayāna "المركبة الماسية" إلى الغرب وجسَّد في حياته مثال "الحكمة المجنونة" (راجع آخر الحوار) في المنقول التبتي. (المحرِّر) [3]Cf. Fabrice Midal, Quel Bouddhisme pour l’Occident ? (Seuil, 2006) ; Petit traité de la modernité dans l’art (Pocket, 2007) ; Risquer la liberté : vivre dans un monde sans repères (Seuil, 2009). [4] ما بين معقوفتين [...] من إضافة المترجم توضيحًا للمقصود. (المحرِّر) [5] أنتونان أرتو (1896-1948): كاتب وشاعر فرنسي، أثر تأثيرًا عميقًا في الأدب المعاصر، سواء من خلال مغامرته الداخلية، التي انتهت به إلى الجنون، أو من خلال تصوره لـ"مسرح القسوة". (المحرِّر) [6]Cf. Pierre Hadot, Qu’est-ce que la philosophie antique ?, Gallimard, Paris, 2005. [7] راجع: ابن طفيل، حي بن يقظان، بتقديم وتحقيق فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، طب 3: 1980. (المحرِّر) [8] هي، بالعربية، "الظواهرية" phénoménologie: نهج فلسفي يستهدف، بالعودة إلى معطيات الوعي المباشرة، إدراك البُنى المتعالية لهذا الوعي وماهيات الموجودات. (المحرِّر) [9] راجع: أبو نصر الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، بتقديم وتعليق ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، طب 5: 1985. (المحرِّر) [10] الـمندل mandala: طارة أو دائرة سحرية؛ رسم تخطيطي يشتمل على دائرة تحيط بأشكال هندسية، كالمربعات والمثلثات، وفي مركزها يستوي الإله أو ما يرمز إليه. والمندل، الذي يرمز إلى المقايسة بين العالم الأكبر والعالم الأصغر، يعين المريد على تركيز خواطره وتثبيتها على موضوع تأمله. (المحرِّر) [11] راجعها في: رسائل ابن باجة الإلهية، بتحقيق وتقديم ماجد فخري، دار النهار، بيروت، طب 2: 1991، ص 35-96. (المحرِّر) [12] المونادولوجيا monadologie نظرية وضعها الفيلسوف الألماني ڤولفگنگ ڤلهلم لايبنِتْس (1646-1716)، مفادها أن الكون مكوَّن من مونادات monades؛ والمونادات (من اليونانية: مونوس monos، "متوحد") جواهر بسيطة، فعالة، غير منقسمة، لانهائية العدد، تتألف منها الموجودات كلها. (المحرِّر) [13]See: Shāntideva, The Way of the Bodhisattva: a translation of the Bodhicharyāvatāra, Translated from the Tibetan by the Padmakara Translation Group, Forward by the Dalai Lama, Rev. ed., Shambhala, Boston & London, 2006. [14] تقابلها الفتوة في التصوف الإسلامي. (المحرِّر) [15] كريتيان دُه تروا (1135-1183): شاعر فرنسي يُعدُّ مؤسِّس "أدب الكياسة" littérature courtoise؛ كتب العديد من سير الفرسان، أشهرها: پرسڤال أو سيرة الگرآﻝ. (المحرِّر) [16] Cf. Fabrice Midal, La voie du Chevalier : dépassement de soi, spiritualité et action, Petite Bibliothèque Payot, Paris, 2009. [17] نسبة إلى باخوس (ذيونيسوس): إله النبات، ولاسيما الكرمة والخمر والنشوة، عند الإغريق والرومان. (المحرِّر) [18] See: Geshe Chaphu, The Divine Madman: The Sublime Life and Songs of Drukpa Kunley, Translation and introduction by Keith Dowman, Preface by Dugu Choegyal Gyamtso, 2nd ed., Dawn Horse Press, Middletown, California, 1998.
|
|
|