|
التباس الحداثة والتحديث في المشروع النهضوي العربي
رفض أنصار التيار الإسلامي، منذ عهد الشيخ محمد عبده، الدخول في عالم الحداثة، لأن مرجعيتها كانت غربية. وذلك لأنها المشروع الحضاري الذي أقيمت على أساسه دعائم نهضة المجتمعات الغربية التي تحولت من المجتمعات الزراعية إلى المجتمعات الصناعية الرأسمالية. ولا شك في أن شعار الحداثة المدوي ومقتضاه أن "العقل هو محك الحكم على الأشياء" وليس النص الديني، هو أحد الأسباب التي جعلت أنصار التيار الإسلامي يهاجمون الحداثة الغربية. وذلك لأن النص الديني الإسلامي هيمن على المناخ السياسي والثقافي العربي والإسلامي قرونًا طويلة، وكان من الصعب الابتعاد عنه، والاعتماد على العقل اعتمادًا مطلقًا في حل مشكلات الحياة والمجتمع. غير أن رفض الحداثة الغربية الذي بدأ منذ عصر النهضة العربية الأولى سرعان ما تجدد بعد سقوط الخلافة الإسلامية في أواخر العشرينات، بعد أن هوى الرجل المريض والذي تمثل بالإمبراطورية العثمانية المتداعية. منذ هذا التاريخ وجهود أنصار الإسلام السياسي لا تنقطع في سبيل استعادة الخلافة، والتي هي بالنسبة لهم الفردوس المفقود. ولذلك لم يكن غريبًا هجومهم على الحضارة الغربية ورفضهم القاطع لها، باعتبار أنها هي وليس غيرها التي أفرزت القوى الاستعمارية التي حطمت الخلافة الإسلامية من جانب، واستعمرت بلادًا عربية وإسلامية عديدة من ناحية أخرى. وقد يكون مقبولاً هجوم الإسلاميين على القوى الاستعمارية الغربية، غير أنه من غير المقبول في الواقع النظر إلى الثقافة الغربية وكأنها كتلة واحدة صماء، لا تمايز فيها ولا تنوع. والحقيقة أن الثقافة الغربية عاشت طويلاً في ظل المركزية الأوروبية التي زعمت أن أوروبا هي التي تحدد معايير التخلف والتقدم، وأنها هي منبع القيم الإنسانية والحارسة على حسن تطبيقها. غير أن هذه الثقافة أوسع كثيرًا من الدوائر الاستعمارية والصهيونية التي مارست بوحشية منقطعة النظير الاستعمار الاستيطاني في الجزائر وفلسطين، والاحتلال التقليدي في عديد من البلاد العربية الأخرى. غير أن هذه المركزية الأوروبية وصلت إلى منتهاها، ووجهت لها الانتقادات العنيفة من داخل الثقافة الغربية ذاتها. وهكذا يمكن القول أنه لا ينبغي التعميم الجارف على الثقافة الغربية، وادعاء أنها بطبيعتها مضادة للقيم الإنسانية الرفيعة، التي تتعلق بالحرية والعدل والمساواة. كما أنها ليست معادية أيضًا للإسلام وللمجتمعات الإسلامية. ولو نظرنا إلى الثقافة الغربية بصورة موضوعية لاكتشفنا أنها في الوقت الراهن توجد بها تيارات عنصرية، أعادت إنتاج الخطاب العنصري القديم الذي صيغ في القرن التاسع عشر، لكي يبرر شرعية الاستعمار الغربي لدول العالم الثالث. وهذه التيارات العنصرية الجديدة يزعجها أشد الإزعاج تواجد ملايين من المهاجرين المنحدرين من أصول إسلامية في قلب البلاد الأوروبية. ونحن نعرف – على سبيل المثال – أن الإسلام هو الدين الثاني في فرنسا. وأن عدد المسلمين لا يقل عن أربعة ملايين مسلم، بكل ما يعنيه ذلك من مشكلات ثقافية تتعلق بعجز شرائح من هؤلاء عن التكيف مع الثقافة الفرنسية، ومشكلات اقتصادية تتعلق بإدماجهم في المجتمع. غير أنه بالإضافة إلى هذه التيارات العنصرية هناك في الثقافة الغربية تيارات تقدمية تؤمن بحق العالم الثالث في أن ينعم بثمار التنمية على المستوى العالمي، بالإضافة إلى تأييدها لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة جنبًا إلى جنب مع الدولة الإسرائيلية. ولا ننسى في هذا المقام التظاهرات المليونية التي خرجت في عديد من عواصم العالم الغربي محتجة على الغزو العسكري الأميركي للعراق. ولو أضفنا إلى ذلك أن الاتحاد الأوروبي قد دخل في شراكة اقتصادية وثقافية مع عديد من البلاد العربية وخصوصًا في مجال البحر الأبيض المتوسط، لأدركنا أن الصورة السلبية التي ترسمها الجماعات الإسلامية السياسية المتشددة ليست موضوعية تمامًا. غير أنه أخطر من التحيز في رسم هذه الصورة النمطية السلبية للثقافة الأوروبية، فإن ادعاء الإسلاميين المتشددين أن الخراب لم يلحق بالبلاد العربية والإسلامية إلا بسبب تبني مبادئ الحداثة الغربية، ومن بينها تطبيق القوانين الوضعية، ووقف تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، ادعاء ليس له من أساس. وفي تقديرنا أن الرفض الإسلامي للحداثة الغربية – والذي يظهر في بعض الأحيان رفضًا مطلقًا، وفي أحيان أخرى رفضًا جزئيًا لبعض جوانبها – يمثل مخاطر ثقافية على المجتمع العربي لا حدود لها. وذلك لأن هذا الرفض القاطع يعني في الواقع رفضًا لمجموعة من القيم المتماسكة التي قامت على أساسها الحداثة الغربية، وأدت في الممارسة إلى تقدم المجتمعات الغربية. ومن هنا فلابد من الدراسة التأصيلية لمفهوم الحداثة، والذي يستخدم في الخطاب العربي المعاصر – بمختلف مستوياته – بكثير من الالتباس. ويبدو ذلك واضحًا وجليًا في الخلط الذي وقع فيه عديد من الكتاب العرب بين مفهومي الحداثة والتحديث. "الحداثة" كمفهوم يشير إلى المشروع الحضاري الأوروبي الذي صاغته الطبقة الرأسمالية الأوروبية الصاعدة على أنقاض المجتمع الإقطاعي. والحداثة – كما يقرر عدد من الكتاب الغربيين الثقات من أبرزهم أنطوني جيدنجز عالم الاجتماع البريطاني الشهير – تقوم على أسس عدة. وأول هذه الأسس احترام الفردية، بمعنى إعطاء الفرد باعتباره فردًا كيانًا مستقلاً له حقوقه السياسية في ظل نظام ديموقراطي يؤمن بالتعددية السياسية والحزبية، وحقوقه الاقتصادية والتي تتمثل في حقه بالتنقل والعمل من غير اكراه، وحقوقه الاجتماعية والثقافية، والتي تتمثل في الخدمات التي توفرها الدولة للمواطنين. والأساس الثاني من أسس الحداثة الغربية هو العقلانية. وقد نجحت الرأسمالية باعتبارها تنظيمًا اقتصاديًا متميزًا بحكم اعتمادها في التخطيط الاقتصادي والصناعي وفي التنفيذ على العقلانية، التي لا بد أن تنعكس على عملية صنع القرار. وهذه العملية لا تتم في الغرب بالطريقة العشوائية التي تتم في عديد من البلاد العربية، ولكن لها أصول علمية ومناهج في علم الإدارة معترف بها. والأساس الثالث من أسس الحداثة الغربية هو الاعتماد على العلم والتكنولوجيا لإشباع الحاجات المادية لملايين السكان. وقد عبر عن هذه الحداثة الغربية المجتمع الصناعي، الذي استفادت ملايين البشر من إنتاجه لسد احتياجاتها الأساسية. إذا كان ما سقناه من حجج صحيحًا – وهو صحيح تاريخيًا – فكيف ترفض الحداثة ومشتقاتها في العالم العربي والإسلامي؟ يمكن القول إن ما سبب الالتباس الخلط بين الحداثة كمشروع حضاري وعملية التحديث، والتي تعني تطوير مجتمع ما كالمجتمع الزراعي لكي يتحول مجتمعًا صناعيًا. غير أن عملية التحديث، كما تمت في العالم العربي الذي يزخر بالنظم الشمولية والسلطوية وشبه الليبرالية، تمت في الواقع بطريقة عشوائية افتقرت إلى شمول النظرة لعملية التنمية المستدامة. ونظرة إلى عديد من البلاد العربية التي اتسعت دوائر الفقر فيها في العقود الأخيرة تشير إلى فشل التحديث من ناحية، وغياب الحداثة بمفهومها الأصيل من ناحية أخرى. وأيًّا ما كان الأمر فإنه يمكن القول إن رفض التيار الإسلامي للحداثة من الناحية الحضارية يعد أحد أسباب التناقضات الكبرى بين التيار الإسلامي باتجاهاته المختلفة والمجتمع العربي الذي يسعى منذ عقود إلى التقدم مستعينًا في ذلك بأسس الحداثة الغربية. غير أن رفض التيار الإسلامي، بالإضافة إلى ذلك، الديموقراطية مثَّل في الواقع عقبة كبرى في سبيل التحديث السياسي للمجتمع العربي المعاصر. وإذا كان بعض التيارات الإسلامية، وخصوصًا تيار الإسلام السياسي، قد قبل – بصورة تكتيكية – مبادئ الديموقراطية الغربية فذلك حتى يتاح له أن ينقلب – باتباع الوسائل الديموقراطية – على الدولة المدنية لتأسيس الدولة الدينية التي هي في صميم مشروعه الحضاري. *** *** *** النهار |
|
|