الطفولة ماض أم مستقبل؟
أمجد ريان
هناك باب الزنزانة،
وهناك باب الحديقة،
وبين البابين تتراص كل أبواب المدينة.
لي ذكرياتي الحميمة
مع الأبواب
وزخارفها الأرابيسكية،
وحلقاتها السيمترية غير المكتملة،
أبواب البيوت التي عشنا حولها في الطفولة.
قطعت مسافات هائلة فوق الشوارع
ولا زلت أحس بالجوع للانطلاق.
إنني أبحث عن بذرة خفية
واللانهائيُّ يلوح لي دائمًا،
وها أنا ذا أمشي في الشوارع المصرية
وهي تقدم مشاهدها المسرحية:
بشر هائمون، وبيوت متراصة
بأضواء تتراوح ما بين الظلام ونور المصباح الصغير.
أمشي في الشوارع الحزينة،
وعندما أصل المحطة، أدخل الشباك الزجاجي
فأواجه الرجل ذا الذقن الخضراء نصف الحليقة.
أناوله النقود، فيناولني تذكرتي دون أن ينظر فى وجهي.
أذكر كل الأبواب التي مرت عليَّ في
الحياة
كانت دائمًا تخفي خلفها
الأسرار والحكايات.
الأبواب ذات الزخارف الخشبية المجسمة،
تعاني من الشيخوخة
في شوارع بولاق
وفي دروب السبتية القديمة.
كما أن هناك أشياء كثيرة
أريد أن أمحوها من حياتي، ولكنها قابعة في اللاوعي.
تمر السنون، وتتغير أحداث وعهود
ولكن هذه الأشياء الأليمة تظل قابعة في اللاوعي
تخرج بين الحين والحين لكي تجعلني أتقلُّب في مواجعي
وتجعل الدموع تطفر من العينين.
عندما نحلم بالجمال نرى إلى الأسماك
تطير في السماوات ممسكة بالكمانات لتعزف هذا اللحن الذي يجرفنا، فنمد أبصارنا لنرى
قوس قزح هائل يدور في الأعالي ليمنح المشهد غطاء من ألوان الطيف، ونرى أسطح البيوت
وقد تحولت إلى مرايا تعكس المشهد الذي يخلب القلوب، ويصبح الأفق منشورًا بللوريًا
هائلاً يبعث بالنور الساحر الذي لم نر مثله فى حياتنا.
كانت طفولتي طفولةً حقيقيةً
تخضعُ للخلَََلِ الاجتماعي العام.
ورغم كل شيء كنت أهوى أكلَ الدُّوم، والبلحِ الأخضر، وأضربُ أشجارَ النبقِ
بالحجارةِ لإسقاطِ الثِّمار، وأتسلقُ شجرَ التوتِ مستعينًا بالسُّورِ الحجري ذي
الحوافِ المعدنية.
كنت في طفولتي ألعبُ بـ"نوى" المشمش، وأحكُّ طرفَ النُواةِ في الحجرِ فأحدِثُ فتحةً
لأفرغُها من محتواها لتصبحَ صفارةً تسُدُّ الآذانَ إذا ما وضعتُها أمام فمي ونفختُ
فيها بكلِّ ما أملكُ من قوة.
كم نحتاج، ونحن غارقون في غفلة الشقاء
الدنيوي، إلى لحظة وعي بارقة.
وأنا أريد أن أعقل الدنيا حتى أعترف بوجودها،
أحاول الغوص في أعماق الذات باحثًا – بلا جدوى – عن الملجأ.
ولكنني متأكد أن هناك قلب عميق فى الكون
تصل إليه كل الخطوط.
عندما يتحرك الباب
مرتكزًا على وسائط نحاسية متعاشقة فى ظهره،
يحدث هذا الأزيز الذي يثير النفس،
ولا أعلم لماذا
يثيرني صوت الباب
الذي ينفتح رويدًا رويدًا.
لعلنا ننتظر دائمًا أشياء جديدة
لم نكن نتوقعها،
أو
لعلنا نبحث عن نوع من الخلاص.
كل إنسان يمتلك في ذاكرته أفكارًا
أليمة أو مخزية
يحاول أن يبعدها عن ذهنه ولكنه لا يستطيع
وكأن هناك صندوق مهملات لا يمكن التخلص منه.
ويحاول الإنسان، على الأقل، أن يحكم غطاء هذا الصندوق
بلا فائدة
وتظل تفوح، بين الحين والحين، رائحة غير مستحبة
لهذه الرموز الباقية لوضاعة الظروف التي يمكن أن يعيشها الآدميون.
الكونُ يتمدَّدُ
وطفولتي تبتعدُ على الرغم مني.
وكانوا فى لعبة "الاستغمايةِ" يضعون الرباطَ على عيني
فأمشي بلا هدى أضربُ بذراعي الهواء،
وبعد ذلك أيقنت أن "الاستغماية" رمز للحياةِ نفسِها،
وأنا الآن كمن يمشي مغمضَ العينين فى "استغماية" لانهائية.
إنني أقبض على "الأكرة" الباردة
بكل كفي
وأضغطها لأسفل
كي ينفتح الباب العملاق فأنظر خلفه
بعيون شديدة الاتساع.
***
*** ***