|
مذكرات مَن نجا
لدوريس ليسينغ في العربية
لا يتمدد مناخ الرواية البريطانية مذكرات من نجا لدوريس ليسينغ بشكل سريع بما يكفي لابتلاع قرائه، فالرواية الصادرة عن "الدار العربية للعلوم ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، والتي ترجمها محمد درويش، تحوي مناخًا بطيئًا، يتطور شيئًا فشيئًا بحسب نضج شخصيتي العمل الرئيستين: امرأة متقدمة في السن، تعيش بمفردها، وطفلة تدعى إميلي يؤتى بها للمكوث في شقة المرأة المتعددة الغرف في الطبقة الأرضية. تكتشف المرأة أن تلك الفتاة لا تمتاز بصفات الأطفال ممن هم في مثل سنها، وهي طفلة شديدة التكتم والخصوصية. تتسلق شخصيتها حبل العمل الروائي في مقابل حراك المرأة في المساحة الأضيق طوبوغرافيًا إنما الأوسع والأكثر تشظيًا وجدية وهدوءًا على المستوى الفلسفي والاجتماعي، مما يؤدي الى ابتعاد الكتلتين البسيكولوجيتين للمرأة والطفلة الواحدة عن الأخرى، لكن من دون أن يؤدي ذلك إلى شرخ العلاقة بالكامل، لأسباب مثل التحليل الذي تقوم به المرأة، ومحاولتها سبر أغوار شخصية تلك الشريكة الجديدة في السكن، الأمر الذي يجعلها تلقائيًا مجبرة على تغذية القارئ بتفاصيل سابقة عن حياتها، وتاليًا نتواجه مع ما يشبه التعرية الآلية للذات وعلى مراحل.
تشكل دائرة حياة الفتاة المساحة التي يُعمَل فيها على طبخ شخصية تلك الصغيرة، فتتصرف بما يمليه عليها عقلها المتشابكة أفكاره وأحلامه مع قلقه وخوفه مما سوف يأتي لاحقًا. غير أنها الطفلة التي تستحوذ على المكان والجو الداخلي للمنزل بخفة ظل، أو سلطة سحرية تستخدمها لاستخراج الآخر–المرأة من دون أن تُمكِّن هذا الآخر من اكتشاف أيٍّ من تفاصيل نظرياتها، مما يخضع صورتها دائمًا للشك أو الاحتمالات، الأمر الذي يملأ الرواية بالتطورات البسيكولوجية ويدهشنا، لامتلاك ليسينغ القدرة على البحث النفسي المشوق، والصبور والذكي. تقرر الفتاة في مرحلة لاحقة أن تقوم بعلاقة مع أحد فتيان عصابات الشارع، مما يزيد من صلابتها، وحدَّة ثقتها بنفسها، ويفسح مجالات أمام القارئ والكاتبة لمتابعة لعبتها الروائية، بثبات. ذلك أن التطور الأدنى في تفاصيل العمل يشكل بالنسبة إلى ليسينغ فسحة أو نفخًا في حجم المناخ، ليحتمل المزيد من الاسقاطات والمساءلات التي لا تستثنينا كقراء. ليسينغ وبخبرتها الروائية، وهي الحائزة جائزة نوبل للآداب عام 2007، تتملص من العوامل السياسية أو الاقتصادية أو حتى التأثير الإيديولوجي الشيوعي أو الرأسمالي على مجتمع أو فكر ما، فتعزل بشكل حاد، ومنذ صفحات الرواية الأولى، الحالة الاجتماعية وتؤسس في ذاكرتنا خيوط المتوقع أو ما سوف يأتي لاحقًا، تجعل فينا مساحة من اللاوعي التي تحتلها بالكامل تفاصيل العمل. هي رواية تمتلك تقنية متصوفة في التحضير لما سوف يحدث. تتماسك الرواية بفعل عاملين يسيران في خطين متوازيين–متقابلين: هناك في جهة أولى المرأة–المنزل، وفي الجهة المقابلة لتماسك هذين الكائنين البنيوي، تظهر الطفلة–الشارع، ونشهد في مرحلة لاحقة تطور هذه العلاقة بين هذه الطفلة والشارع مما يشكل متراسًا في قبالة المتراس الأول، ليبدأ الحراك البسيكولوجي بينهما والذي يضمر في طياته إشارات اجتماعية واقتصادية وشخصية بشكل هادئ يقارب الملل إلا أنه يحملنا على الالتصاق به، فنكتشف أنه ملل زائف. ما يربِّت كتف هاتين الضفتين هو التخييل الذي تسقطه ليسينغ على الغرف المهجورة في شقة المرأة المسنة، إذ تستعاد الحياة فيها فتصب في حيز إميلي، لنكتشف مع السطور العلاقة الماورائية أو الصوفية تحديدًا التي تحكم تلك المرأة بالطفلة الصغيرة حتى قبل التعرف إليها. هذا إضافة إلى الكلب هوغو القبيح الذي يتأرجح وجوده ما بين إميلي صاحبته، واضطراره إلى البقاء في المنزل خوفًا من تبعات سلوك فتيان العصابة المشين، في ظلِّ غياب شبه تام للسلطة الحكومية عن تلك المدينة. وهو كلب قبيح يحمل الكثير من الأهمية نظرًا إلى اتخاذه موقع الإبرة التي تُجبر المرأة على حملها، في كمِّ سرِّها متجاهلةً ألم الوخز المتواصل. يؤدي التخييل دورين هنا، إذ يعيد الغرف السابقة إلى حياة أكثر نشاطًا، تحتمل الاسقاطات التي تحملها ليسينغ باستقدامها عائلة إميلي، على أنها التي كانت تعيش في إحدى تلك الغرف، مما يلغي الصورة القذرة المادية لتلك الغرف، ويهيئ القارئ للتواطؤ مع الزمن الذي سوف تشكله ليسينغ وفق ما يلائم الحادث العام للرواية. وكأن في ذلك تشذيبًا للزمن الفائت أو تكديسًا لطبقاته الأكثر لمعانًا أمامنا. ما يقصد به مروره على تلك العائلة، عائلة إميلي وتاليًا استعادتها في الذاكرة، وإحاطتها بكل العناصر والسلوكيات الذكورية للأب وقلة وعي الأم بالشأن التربوي العائلي. هذا ما يجعلنا نشعر بالتصاق طيف الفتاة إلى جانب المرأة، وبحاجتنا إلى تبديد هذا الشعور، وتغييب الفتاة لاحقًا بحسب مقتضيات عيشها تحديدًا، وبحسب ما تقوم به كل من هاتين الامرأتين (كرد فعل) من قراءات لمحيط يجمعهما، وهو الحي وعائلة الجيران الفخمة نسبيًا والعصابات والركاكة الاقتصادية والتعفن الاجتماعي والفقر والصداقة التي تدور بين إميلي الأنضج وجون الأكثر طفولة على رغم تقارب سنيهما. لتدور حوادث الرواية داخل سياج من التضاربات البسيكولوجية والانكشافات التي تتعمد الكاتبة الإضاءة عليها بمنهج حيادي قدر المستطاع.
مرت روايات ليسينغ بأنماط كتابية مختلفة، كالكتابة الشيوعية التي اختزنت الإيديولوجيا وتأجج الوجود الإنساني أو خفوته في خضم ما تفرضه مناخات العالم الجديد على الفرد الأضعف. ثم الكتابة البسيكولوجية التي أظهرت ليسينغ كواحدة من قلائل ممن يمتلكون القدرة على اختبار ذواتهم بوضعها في مآزق اجتماعية متعددة، ومن ثم قراءتها بشكل مفصل لتذليل كل سؤال قد يغلف الذات. غير أن ليسينغ لم تكتف بإضفاء مسحة التشكيك الكبيرة على تلك الذوات من خلال غلق الأبوب عليها، بل وظفت هذا التشكيك لفكفكة رؤوس العامل المؤثر وكيفية التفاعل الإنساني والنتيجة. وأخيرًا هناك النفس الكتابي التصوفي الذي يعزل الفرد عن أي مؤثر سياسي أو إيديولوجي، مما يريح الكاتبة في تقنيتها أو يؤمِّن لها تركيز طاقتها بما يخدم الحراك بين البسيكولوجيا والإيديولوجيا، من دون أن تعلن لنا هذا كقراء، الأمر الذي سوف يشكل دفعة لنا في اتجاه عمق العمل الروائي بشكل خاص. تقول في إحدى جمل الرواية: واصلتُ الكتابة من دون أدنى تردد أو افتقار إلى المتعة، في معرض وصفي لعالم الفوضى، والتبدل، والزوال. لا بد لي الآن من العودة إلى العالم الذاتي، وهي عودة تثير الحزن وتفتقر إلى الرغبة. *** *** *** النهار |
|
|