|
تفسير الأحلام في الحضارات القديمة
الحلم لغة إنسانية عالمية، لكنها مع ذلك لغة ذاتية إلى أبعد الحدود. فمن الصعب جدًا على الحالم أن يعيد صياغة حلمه بدقة وبذاتية رؤيته له. فالحلم لغة باطنة، أي إنه ليس لغة تعبيرية قاصرة على نقل معلومات معينة، بل لغة تفعيلية شكل جملها ورموزها أفعال وتحولات على مستوى النفس الإنسانية. وعندما نفك رموز الأحلام اعتمادًا على معارفنا الحالية، نجد أنفسنا أمام عملية نفسانية معقدة تسبر أغوار النفس وتحولاتها الديناميكية وتعيد مجمل العناصر الحلمية إلى شخصية الحالم. ومع ذلك، فإن هذه العناصر نفسها تتكرر في أحلام أشخاص مختلفين عبر أزمنة وأمكنة متباعدة. ويسبر علم النفس عالم الأحلام ليستخلص من الرموز والصور الحلمية النماذج البدئية العامة التي لا يختص بها زمان أو مكان. وتشكّل هذه النماذج البدئية اللغة الأم ككل لغة تعبيرية. وهكذا، نجد إلى ما وراء لغة الحلم الذاتية، المعنى الفاعل والمحرّض لتفتح المواهب والقدرات الإنسانية الكامنة. وبالتالي، كان التعامل مع الأحلام يندرج عبر التاريخ تحت أنماط مختلفة بحسب مراحل التفتح النفسي التي مرّت بها الشعوب. ولاشك أن هذا التزاوج بين الحلم الذاتي والأنماط الحلمية العامة يشير إلى التوافق بين الصيرورة الداخلية الفردية والمؤثرات الجمعية عليها. ويعكس ذلك، شكل مواز للتوازن النفسي الذي يعطيه الحلم للحالم، توازنًا أوسع وأعمق على مستوى الجماعة، عندما تظهر أنماط حلمية عامة، وتتأكد من ثم أحلام الأفراد من خلال توافقها النمطي مع أحلام الجماعة. يقودنا ذلك إلى التساؤل حول وجود أنماط حلمية عامة على مستوى الشعوب وعبر المراحل الثقافية المختلفة؛ فإلى أي حدّ يمكن لثقافة أن تنحت نمطها الحلمي، وإلى أي حد ينعكس تفتح اللاوعي وتواتر الأحلام عبر مرحلة معينة في بلورة وبناء البنية الثقافية. تحتاج الإجابة على مثل هذا السؤال إلى جهود وأبحاث واسعة، وحسبنا أن نطرح السؤال، ونحاول البحث عن نقاط سابرة للخلفية الجمعية التي تستوعب الخبرات الباطنة للإنسانية ككل وتدرجها في تراتبية جمعية وفردية بحسب الحالات والأزمنة لتظهر كأنماط حلمية أو رؤيوية. الصور الرمزية للأحلام: ترى، هل تطورت لغة الحلم عبر العصور؟ وهل تختلف أحلام الإنسان القديم عن أحلام الإنسان الحديث؟ ومن أين تنبثق رموز أحلامنا الجديدة؟ وكيف يتوافق المعنى الكامن من لاوعينا مع رمزية الصور المأخوذة من حياتنا المعاصرة؟ أفلا يعبّر هذا التوافق عن وحدة عالمي الظاهر والباطن وعن التفتح المشترك العميق للغتي الحلم والواقع؟ تبين نظرة فاحصة، من خلال العلوم النفسانية والتاريخية والأنتروبولوجية، أن الصور الرمزية للأحلام تُشتق غالبًا من العصور القديمة، بل وحتى ما قبل التاريخية. فنحن مثلاً نجد الكثير من الصور والرموز، التي لاتزال تزور أحلامنا، في أساطير الماضي. وينتمي بعض هذه الرموز إلى بدايات تطور البشريات، إذ يحتفظ اللاوعي الجمعي أولى همسات الوعي الطبيعي الكامن المدرك لوجوده. ومثال ذلك صورة الأرض الواسعة والممتدة. إنها صورة أنثوية غالبًا، فيها من جاذبية الأفق الشواشي بقدر ما تمثّل حالة الاستقرار والعطاء. إنها الألوهة التي أخصبها الحب فأنبتت. وترجع هذه الصورة على الأقل إلى نحو مائة ألف سنة، أي إلى فترة ظهور سلفنا المباشر الإنسان العاقل sapien sapien. وكمثال على صورة أحدث نذكر المحراث، وهي صورة ترجع إلى نمو عشرة آلاف سنة. وقد دخلت هذه الأداة إلى لاوعينا كرمز للإخصاب، ولازالت حتى اليوم تحفظ هذا المعنى. إن الصور الطبيعية كانت أولى الرموز التي تأصّلت في لاوعينا كنماذج بدئية أساسية. وفي الحقيقة، فإننا لانستطيع بحال من الأحوال الفصل بين البيئة الطبيعية ورمزيتها الحلمية. فنحن لانستطيع تمييز النموذج البدئي الذي أبدع الشكل الطبيعي عن النموذج البدئي الذي تفتح فينا كرمز حلمي! والحق إن الوعي الجمعي الكامن هو في الجوهر مبدع الواقع الطبيعي والعالم الحلمي معًا. ويمكننا أن نعدد الكثير من هذه النماذج البدئية - الرموز الطبيعية الأولى، وبخاصة تلك التي تعامل معها الإنسان القديم بشكل مباشر، كالجبل والسهل والصخر والشجر وأنواع الحيوانات والكهف والنار والشمس والقمر والنجوم، والأب والأم، وأعضاء الجسم الإنساني، والبحر والريح والمطر والسحاب والفيضان والجفاف والثمار، والألوان المختلفة كالزرقة والخضرة والسواد والبياض ... إلخ. إن هذا الغيض غير المنتهي يشكل اللغة الأولى التي تواصل معها الإنسان القديم عبر الشكل الواقعي كما وعبر الرمز الحلمي. كذلك اكتسبت بعض أدواتنا معان رمزية في أحلامنا منذ عصور سحيقة، كالعصا والسهم والحربة والمقلاع والحبل وجلود الحيوانات والإبرة والأدوات الحادة والقاطعة والمشغل ثم القنديل والشمعة والموقد. وترجع كافة هذه الرموز إلى عشرات آلاف السنين، ويمكننا أن نلاحظ تطور بعضها مع بدايات عصر الزراعة والتدجين والاستقرار، حيث دخلت أدوات جديدة على حياتنا اليومية وبالتالي إلى مفردات لاوعينا الجمعي. ونعدد منها السور والبيت والحصن والقرية والمدينة والمعبد واللوح الكتابي والرق والعجلة والعربة وأدوات الزراعة كالمحراث والمعول والمنجل واللجام، وأسلحة القتال كالسيف والخنجر والحربة والرمح، وأدوات البيت كالمقعد والطاولة والسرير وأدوات الطعام والملابس والمغزل والنول وأدوات الموسيقا وأدوات الزينة كالأساور والعقود والأقراط إلخ. وخلال مراحل تالية، ظهرت مع تطور المدنيّات والممالك تعقيدات حياتية سرعان ما تطابقت مع نماذج بيئية في اللاوعي الإنساني مما أدى إلى استمرار تفتح وتوسع اللغة الحلمية كما والإبداعات النفسية-العقلية على حد سواء، ونذكر من هذه الرموز المراكب والصواري والأشرعة والقوافل والجيوش والأبنية الضخمة كالزقرات والأهرامات والأقنية والطرق المعبدة والسلالم والملاعب والأسواق المكتظة إلخ. لقد انبثقت عبر هذه المراحل الطويلة رموز كانت بالمقابل آتية من عالم الداخل أولاً لتعبّر عن توق داخلي لتحقيق قيم الحياة الإنسانية. ولهذا اكتست هذه الرموز صورًا معقدة ومركبة من أشكال العالم الخارجي ولاشك أن تواحد الإنسان القديم مع الطبيعة كان أحد المعاملات الرئيسية في تفتح هذه الدوافع، كالتوق للطيران أو للغوص أو للتحول إلى مختلف أشكال الإنسان البدئي الكامل. ورموز الحيوانات الأرضية المجنحة من الأمثلة الواضحة في هذا السياق، مثل الأسد المجنح أو الحصار المجنح. وكان لهذه الرموز أحيانًا رأس بشري كما في أبي الهول المصري. ويندرج حلم البساط الطائر في هذا السياق أيضًا حيث يشير إلى القدرة الكامنة في العالم الأرضي على الطيران. وبالمقابل، نجد في رمزية الإنسان-السمكة وأحلام الغوص في المياه أو الشواش، أو التنقيب في الأعماق الطينية والصخرية رموزًا كتوق مماثل للمعرفة والتواحد مع المحيط الأول. الحلم في المفهوم القديم تُشتق الكلمة الفرعونية التي تشير إلى الحلم من فعل اليقظة أو الاستيقاظ. ويعكس ذلك المفهوم المصري للحلم حيث يدخل الحالم إلى عالم مختلف عن الواقع اليومي ويصبح المستقبل مكشوفًا لديه. وكانت هذه النظرة للحلم سائدة في معظم الحضارات القديمة، إنما مع تفسيرات مختلفة أحيانًا لآلية الحلم أو الاتصال بالعالم الآخر أو حتى لوظيفة الحلم. ففي الموروث السومري-الأكادي الحلم خلق ليلي يتصل اتصالاً وثيقًا بالنوم والموت. وتقع تجربة الحلم مثل أية تجربة ليلية تحت تأثير الشيطان. ويسمح لنا وجود الإلهين ما-مو وزيكيكو ابني الشمس وإله الحلم آن -زا-كا في قائمة الشياطين الليلية بافتراض أن الحلم يولد من الأرض الكبرى، أي الجحيم عند البابليين. لكن مفهوم الجحيم هنا كما هو واضح هو عالم اللاتمايز. إن الحلم هو نفس الحي، ويتألف من مادة هوائية. ويقارن هذا النفس الغريب في ملحمة جلجامش بظل إنكيدو البطل الصاعد من الجحيم. إن النظرية الأساسية في تفسير الأحلام في الصين تقوم على المبدأ الطاوي أن الذات الإنسانية تتألف من عنصرين هما الـ "هوين Houen" و"البو P’ô". والبو هو النفس المتعلقة بالجسد والتي تتحلل بتحلله. أما الهوين فيحل في الجسد عند الولادة، إنه النَّفْس – النَّفَس الذكي. وفي حين ظل البو مرتبطًا بالجسد، فإن الهوين يستطيع مغادرته في ظروف معينة، ومنها حالة الأحلام خلال النوم، فيصادف أنفاس أشخاص آخرين بل وأنفاس سحرة وسرانيين وموتى وقوى فوق طبيعية. ويستطيع الهوين تحقيق رحلات بعيدة في الأحلام الارتحالية إلى بلاد سرانية وذلك خلال ثوان قليلة. وعبر هذا المنظور يمكن أن نستنتج تفسيرًا طاويًا للحلم التنبؤي وإن كانت النظرية لاتذكره بشكل واضح. ونلحظ تراتبية واضحة في مصادر الأحلام الصينية، وبخاصة خلال الفترة التالية لعصر التشو. فالحلم وسيلة للتوصل مع العوالم فوق الطبيعية، وأولها عالم الرب الأعلى في السماء، ثم عالم الآلهة فعالم الأسلاف ثم الأشباح ثم الأحياء. ويمكن أن نجد في هذه التراتبية انعكاسًا لتحقيق نفسي وروحي متدرج. فالمصدر الأعمق للأحلام هو الألوهة العليا، ثم تأتي الآلهة، وهي تزمر هنا للدوافع العميقة في النفس البشرية. ويمكن أن ينطبق ذلك على مجامع الآلهة في مصر وبابل والهند أيضًا. وتمثل الآلهة هنا النماذج البدئية الأساسية. أما عالم الأسلاف فيرمز إلى ما يستقر في اللاوعي الإنساني من تاريخ التطور الثقافي. أما الأشباح فهم إشارة على الأرجح إلى الأوهام والقوى الانفعالية غير المنضبطة في نفسانية الإنسان. وأخيرًا يصبح الحلم فائق التعقيد مع عالم الأحياء الذين يمثلون فيه غالبًا دور الحالة الراهنة لصيرورة التفتح النفسي. أما في الهند، فإن الأحلام تكشف للرائي جوانب من المطلق، قبل أن يصل إلى مرحلة التواحد معه. وتقول نظرية المراتب الأربع إن النفس البشرية تتألف من ثلاث سويات طبيعية ومن رابعة فوق طبيعية. وتكون السويات الأولى غير مستقرة، بدءًا بحالة اليقظة، ثم بحالة الحلم حيث تستطيع النفس البشرية التحرك واستكشاف مجاهل لاتستطيع بلوغها في حالة اليقظة، وانتهاء بحالة الحلم العميق الذي يُعدّ الخطوة الأولى في توحيد الكائن مع المطلق. ويصف أوبانيشاد براشنا Pracna هذه المرحلة بأن الضياء فوق الطبيعي يغمر الكائن فلا يرى بعدها الأحلام وتسري الغبطة كلها في جسده، ويضيف أوبانيشاد كانشيتاكي: عندما لايحلم النائم بأي حلم، فإنه يتواحد مع النَّفّس؛ ففيه تدخل الكلمة مع الأسماء كلها، وفيه يدخل البصر مع الأشكال كلها، وفيه يدخل السمع مع الأصوات كلها. فالحلم في الفلسفة الهندية هو حلم حقيقي للذات الإلهية، ولهذا فهو يعكس ما وصل إليه المريد من شفافية داخلية. وعندما يتجاوز المريد مرحلة الحلم، والنوم بلا أحلام، فإنه يصل إلى السوية الرابعة، وهي رتبة التواحد ببراهمن. ويصف أوبانيشاد مايتريي غيبة المتأمل في موضوع تأمله: إن الذي تنتفي حواسه، كما في النوم العميق، وينتفي فكره تمامًا، ويركز في أعماق شعوره، يتأمل ذاك الذي يُدعى أوم، الذي لاينام ولايهرم ولايموت ولايتألم. وعندها يصبح هو أيضًا الذي نسميه أوم، المرشد إلى النورانية.... ونجد في الشامانية، لدى شعوب سهوب سيبيريا وتركيا ومنغوليا وتونغوسيا وغيرها، تمييزًا واضحًا بين الحلم-الرؤيا والحلم-التحقيق. وحلم التحقيق قريب جدًا من التواحد الهندي بالمطلق وإن كنا لانملك الوثائق الكافية لتأكيد ذلك. في حين أن حلم الرؤيا هو حلم تنبؤي ويتم فيه تلقي رسائل من الآلهة. أما الحثيون فلم يهتموا بالحلم التنبؤي. فالآلهة لاتحاول أبدًا الكشف عن أسرار المستقبل للبشر، والمؤمنون بالمقابل لايحاولون إزاحة النقاب عنها، ومع ذلك فإن أهمية الحلم لديهم تكمن في أن هدف الرسائل الحلمية من الآلهة هو إعادة المؤمن إلى الصراط المستقيم! ويشير ذلك بالتالي إلى الهدف الروحي الذي حمله الحثيون للحلم. نشير أخيرًا إلى الحالات الثلاث للحلم الفارسي. ففي الحالة الأولى لاتستطيع النفس التحكم بنشاطها الخاص خلال النوم، ولايمكن للحواس الخمس الإحساس بالصور الماثلة في المخيلة، وتخضع للأحاسيس الداخلية كالعواطف. وفي الحالة الثانية يحدث أحيانًا أن تتعرض النفس لتغيرات خلال النوم، فيري الحالم أشياء تتصل بحالته النفسية، فإذا كانت روحه حارة يرى نارًا، وإذا كانت باردة يرى ثلجًا إلخ. أما في المرحلة الثالثة، فتتجرد النفس من الأحاسيس وتلتفت إلى النظام الشعوري بالأشياء الروحية، فيكشف لها ما يحدث في عالم الواقع. وكما نلاحظ، فإن هذه السويات تقود أيضًا إلى تجربة عميقة عبر الأحلام الحقة في المرحلة الأخيرة. الحلم والواقع في المنظور القديم قبل أن نعرض إلى مناهج تفسير الأحلام في الحضارات القديمة، لابد لنا أن نتأمل هذا التواحد الذي كان سائدًا في القديم بين الحلم والواقع. فتفسيرات الأحلام القديمة كان يستمد مادته من امتلاء وواقعية الرموز الحية. ولهذا كان لابد من رسالة يحملها الحلم. وكان على المفسِّر أن يعرفها ويحددها. ويعكس ذلك النفسانية العامة التي كانت سائدة في المجتمعات، والتي لاتزال سائدة في مجتمعات كثيرة اليوم، حيث تستحوذ فكرة معرفة المستقبل أو الغيب على الأنماط التفسيرية. ولهذا نجد أن الحالم ومفسِّر الأحلام كانا ينتميان إلى حلقة نفسانية واحدة. وبما أن الحلم يشكل جزءًا لايتجزأ من الحياة، فقد كان على المفسِّر أن يكون قادرًا باستمرار على التواصل النفسي مع الحالم ومع البيئة التي ينتمي إليها. ولهذا لم يكن أي شخص بقادر على تفسير حلم أي شخص آخر. ونجد مثال هذا التواحد مع الحالم وحلمه ومعرفة تفسيره بشكل واقعي صحيح في ملحمة جلجامش. فقد حلم الملك مرات عديدة إن الجبل الذي كان يقف عليه مع صديقه إنكيدو قد انهار. وتبين لنا الأسطورة أن والدة جلجامش كانت كاهنة ضليعة في تفسير الأحلام، وكان معنى الحلم إنه سيغلب عدوه. كان القدماء يأخذون إذن بحقيقة الحلم ومعناه الواقعي. لكن مع تطور مقدرات الإنسان النفسية والذهنية أصبح أكثر قدرة على التواصل مع صور النماذج البيئية في لاوعيه، مع عقلنتها وتلطيفها، مما أعطاها شيئًا من التجريد عن الواقع الملموس لتصبح أكثر مساسًا بحياته الداخلية، ونلحظ ذلك بشكل واضح مع أرطميدوروس والقرون الميلادية التالية له. إن كتب ووثائق التفاسير القديمة، الشعبية منها بشكل خاص، تحفظ لنا بقايا صور النماذج البدئية Archétypes التي لم تكن مفهومة تمامًا في غالب الأحيان، بل ومبهمة في أحيان كثيرة. وقد حفظت لنا بعض هذه التفاسير جزءًا من الحقيقة في هذا الخليط المتناقض بين الرمز والمعنى المنسوب له. فقد لامست بعض مفاتيح تفسير الأحلام القديمة العلاقة الكامنة بين الصور الرمزية والنفسانية، مما أعطى التفسير الواقعي بعدًا ذاتيًا. فرؤية العضو التناسلي الذكري مثلاً تشير رمزيًا إلى الولادة وإلى الولد أو الأم. ومع ذلك رأت فيه التفاسير القديمة رمزًا للموت أيضًا. وكانت محقة في ذلك، فهو يشير إلى العودة إلى حضن الأرض-الأم. ونلاحظ أن الموتى في عصور ما قبل التاريخ كانوا يُدفنون وفق شكل الجنين في الرحم بانتظار ولادة جديدة، الأمر الذي يعني أن القدماء رأوا في الموت والعودة إلى الأرض انتظارًا لحياة جديدة ولقيامة جديدة. وظل هذا المعنى ماثلاً كما نعرف في العديد من الديانات والسرانيات القديمة. أما التفسير الحديث للعضو الذكري في الحلم فيشير إلى الحنين للطفولة، أي إلى الأرض كما ويرمز إلى الرغبة الجياشة للحالة بالحصول على طفل آدمي أو روحي. كذلك فإن موقعه المركزي في جسم الإنسان يشير بحسب الموروث الشرقي إلى التوق إلى المركز الكوني، إلى التحقق الروحي. وهكذا نجد أن اختيار التفسير يتعلق بالدرجة الأولى بالحالم نفسه وبتفاصيل حلمه الدقيقة. وبات الحلم الذي يرتبط بالواقع نمطًا خاصًا هو الأقرب إلى الحلم التنبؤي. وفي الحقيقة، فإن التفسير الذي يطرحه علم النفس الحديث، وبخاصة للرموز والنماذج البدئية، بات يتجاوز التفاسير القديمة كلها. يقول يونغ C.G.Jung: كلما غصنا في أصول الصورة الجمعية، اكتشفنا تتاليًا لاينتهي ظاهريًا من النماذج البدئية التي لم تكن لتسترعي الانتباه قبل العصر الحديث. ولهذا فإننا نعرف حول رمزية الأسطورة والحلم أكثر من أي جيل سبقنا. وفي الحقيقة، كان أناس الماضي لايتفكرون برموزهم، بل كانوا يعيشون ويتأثرون بمعاني هذه الرموز دون وعي منهم. ويمكننا القول إن هذا التماهي مع الرموز، أي عدم تمايز نفسانية الإنسان بشكل واضح عن الطبيعة، هو الذي جعله يحيا صوره الحلمية بشكل واقعي، وينتظر أن يكون لها دائمًا تحقق ملموس. تفسير الأحلام في القديم إن المسافة التي تفصلنا عن الماضي كبيرة، بحيث أنه بات من الصعب علينا فهم المعاني التي كانت تُفسَّر بها الأحلام فهمًا دقيقًا، وذلك على الرغم من الاكتشافات الهامة جدًا في مجال وثائق التدوينات الحلمية. والسبب الرئيسي لذلك في رأينا أن بنيتنا النفسية تغيرت إلى حد كبير عن بنية إنسان الماضي. لقد ارتبط تفسير الأحلام القديم في معظم الحضارات بالفنون التنجيمية الأخرى. ففي بابل، لم يكن مفتاح الأحلام لينفصل عن الموروث التنبؤي الأكادي، لا بالترتيب العام ولا بطريقة تدوين النبوءة. وكان مفسّر الأحلام، الأسير للشكل الخاص بالطرق الأخرى في التنبؤ مثل قراءة الكبد الحيواني أو الزيت أو حركات الطيور أو مواقع النجوم إلخ، يقوم بمماثلة المعطيات الحلمية بمعطيات العلوم التنجيمية الأخرى. وهكذا كان العراف البابلي يحاول دائمًا مكاملة الرمز الحلمي مهما كان غريبًا ومدهشًا في أطر العالم الموضوعي. وينطبق هذا الأمر إلى حد كبير على الكاهن المصري أو على الحكيم الصيني. ومن جهة أخرى، عنيت أمم كثيرة نذكر منها الهندية والفارسية والبابلية والمصرية والكمبودية والصينية بأوقات الأحلام. ومن المدهش الاتفاق فيما بينها على أن أحلام الفجر تكون الأقرب إلى التحقق. ويرى الفرس أن ثمة أيامًا معينة من الشهر القمري هي الأنسب لرؤية الحلم الحقيقي. ولكل يوم من أيام الشهر عندهم تأثيره على التفسير وعلى تحقق الحلم. أما في الصين، فكان على المفسِّر أن يأخذ بعين الاعتبار السنة والفصل ووضع الأرض والسماء ويحدد أنفاس الين واليانغ مع أخذ القمر والشمس والنجوم بعين الاعتبار من أجل تفسير الحلم. ويعكس ذلك نظرة الصينيين الفلسفية لكلية الوجود. نشير أيضًا إلى اهتمام القدماء بحماية أنفسهم من الأحلام. فالحلم الذي يكشف للإنسان المصري ما يخبئه له المستقبل من معوقات يجعله يلجأ إلى القوى السحرية للتخلص منها عندما يستيقظ. فالدخول إلى عالم الحلم عند المصريين هي لحظة دخول إلى عالم الشواش، ولهذا على المصري أن يتخذ الاحتياطات كأن يأخذ معه الآلهة مثل نيت Nieth. وبحسب المنظور الديني البابلي تُعدّ كل تجربة في عالم الأحلام خطرة. ولهذا، كان ثمة أهمية فائقة منذ أقدم العصور السومرية "لتحرير" الطاقة السحرية المركزة في الحلم. ويُعبَّر عن هذا التحرير في الطقوس البابلية بفعل "شارو" الذي يعني حرر (من الشر أو الخطيئة) كما ويعني فسّر وشرح! وهكذا، كان سرد حلم على أحدهم هو الطريقة الأكمل للتحرر ذاتيًا ولإبعاد الآثار السلبية للتجربة الحلمية. أما في الهند فنجد موروثًا كاملاً للحماية من الأحلام السيئة. فالنوم بعد الحلم يلغي الحلم. ولهذا عند رؤية حلم سيء يجب على الحالم أن يصلي ويعود للنوم. وربما كان اليابانيون هم الوحيدون الذين شككوا بضرورة أو بفعالية طرق التخلص من نتائج أحلامهم. لكنهم بالمقابل كانوا يلجأون إلى طريقة لجعل أحلامهم سعيدة، فيضعون تحت وساداتهم صورة طقسية خاصة. سنحاول فيما يلي أن نعرض باختصار شديد لأهم طرق تفسير الأحلام في الحضارات القديمة التي وصلنا منها وثائق وفهارس خاصة بهذا الأمر. ونهدف من عرضنا هذا إلى إعطاء فكرة عن طريقة فهم الإنسان القديم للحلم مقارنة مع فهمنا الحالي له. كان ثمة عدة تقنيات لتفسير الأحلام في مصر. وكان أهمها التلاعب بالألفاظ ومدلولاتها، أو ربط الأفكار بالاعتماد على لفظتي كلمتين. كذلك كان يتم الربط رمزيًا بين الحلم وتفسيره، ومثال ذلك أن رمز الثعبان يعني وفرة المؤن، لأن إلهة الوفرة الزراعية هي الثعبان. أما تفسير الحلم بعكسه فكان تقنية أندر استخدامًا. وتكشف لنا التفاسير المصرية عن الحاجات والتطلعات التي كان المصريون يعيشونها: فهم كانوا يخشون السرقة والسجن وفقدان الوظيفة، وكانوا على المستوى الشخصي يخشون الآلام والموت والمرض والحياة القصيرة والبؤس. ويعكس ذلك نفسانية مرهقة بسبب الفقر الهائل الذي كانت تعيشه طبقة عامة. ومقارنة بالأحلام الكمبودية مثلاً نجد أن تفاسير الكمبوديين كانت بمعظمها لصالح الإنسان، ويشير ذلك إلى راحة نفسانية وفرتها إمكانية عيش مقبول وقابل للتحسن. أما التفسير البابلي للأحلام فكان يتم بواسطة جداول خاصة. وكان واضع هذه الجداول لايتردد باختراع المزيد منها ليستنفد كافة الاحتمالات الممكنة. ولهذا كانت قائمته تصويرًا للواقعين الحسي والتحليلي معًا. ومع ذلك فإن هذا المسرد ما كان ليكفي دون وجود العراف القادر على فهم الرسالة الإلهية. وتثبت المفردات المستخدمة صلة الحلم البابلي بالعالم السفلي، الأمر الذي يتوافق مع كون الإله المرسل للأحلام هو الإله الشمس قائد نفوس الموتى في الليل. وكما الأمر بالنسبة للمصريين، فإن جداول الأحلام تصف اهتمامات وحاجات البابليين، وتُظهر اهتمامًا خاصًا بالحصول على الأطفال وعلى المناصب والثروة، وهي تعكس أيضًا الخوف من المرض والمصائب، وتدل على نفسانية أكثر استقرارًا وأكثر تعلقًا بالحياة الدنيا. إن الأحلام الكنعانية-الفينيقية التي وصلتنا قليلة جدًا وهي تتصل بالأسطورة مباشرة، وتعبر عن الاهتمام بالدورة الزراعية. ففي أحد النصوص الأوغاريتية نجد أن الإله إيل يحلم أن عليان بعل سيعود من الموت بعد أن خلصته الإلهة عنات. وتلك إشارة إلى أن السموات ستمطر سمنًا والوديان ستسيل عسلاً. وعلى الرغم من عدم توفر وثائق لتفاسير الأحلام الكنعانية، لكننا يمكن أن نستنتج من دراسة الأساطير، بل والموروث الآرامي والسرياني والعربي في المنطقة، أصول التفاسير البعيدة في بلاد الشام عمومًا، والتي كانت ترتبط كما يبدو بحياة زراعية غنية ونفسانية متوازنة في تطلعاتها المعيشية والروحية. أما في الهند، فقد مرّت التفاسير بعدة مراحل تبين بوضوح تطور مفهوم الحلم وتفسيره خلالها. ويرجع أقدم تفاسير الأحلام الهندية إلى الفيدا. ونجد فيه وصفًا لنفسانيات الأفراد بحسب طبائعهم. فمثلاً: يرى أصحاب الطبع الدموي في أحلامهم مشاهد جبال وأراض وغابات تعصف فيها الرياح، وعددًا من الكواكب والنجوم المعتمة، والقمر وقد فقد نوره. في حين أن أصحاب الطبع الأكثر برودة يرون مشاهد أكثر اعتدالاً، إلخ. ونلحظ في هذه الرمزية إشارات تعليمية حول طبيعة النفس أكثر منها تفاسير للأحلام. والحق أن الحضارة الهندية تميزت بهذه التعاليم المهذبة للنفس فانعكست على مجمل الحياة الإنسانية. ومع ذلك، نجد أن الأحلام خلال مرحلة أحدث استقلت عن طبائع البشر وأفسحت مجالاً للأحلام القادمة من أعماق النفس، وذلك عبر رسائل الآلهة. ويتواتر ذكر الأحلام في الأدب الهندي، كما في ملحمتي المهابهاراتا والرامايانا. وتتكرر في بعض القصص الشعبية الشبيهة بألف ليلة وليلة الأحلام التي يرى فيها أمير فتاة في نومه فيغرم بها فيبحث عنها حتى يصل إليها. وتحفظ هذه الأحلام الأدبية المعاني التي تعبر عن مراحل بحث الإنسان الهندي عن المعرفة وعن توقه إلى اللامحدود. وهكذا يتحول تفسير الحلم في الهند إلى ممارسة سرانية، كما في مدرسة كشمير Trika. ويُعدّ الحديث عن الأحلام الهندية مدخلاً إلى دراسة أحلام الرؤى والتحقق وتفاسيرها وبخاصة في البوذية الهندية والصينية، وسنعود إلى هذه النقطة لاحقًا. وينطبق ما ذكرناه عن التفسير الهندي على الأحلام الصينية إلى حد كبير. كانت الأحلام الصينية تُصنَّف قديمًا وفق ثلاث مراتب. لكن هذا التصنيف غامض جدًا بالنسبة لنا اليوم. وفي مرحلة تالية صُنّفت وفق ستة صنوف تعكس حالات نفسانية واضحة. وهي حلم الرعب وسببه حالة رعب وحلم الفكرة وسببه ما كنا نفكر فيه قبل النوم وحلم الأمس، وسببه ما جرى الحديث حوله أو ما حدث في اليوم السابق، وحلم الفرح وسببه حالة فرح، وحلم الخشية وسببه خوف من شيء ما. ويتم تفسير الأحلام وفق هذه التصانيف التي تشكل بالأحرى تحليلاً لنفسية الحالم، إضافة إلى ما تشير إليه طاقة الحالم من توازن وتناغم مع العالم. فكل شيء في بنية وآلية الجسم بكليته، بما فيه الأحلام، يتوافق مع حدي الأرض والسماء. ولهذا، عندما يكون الين قويًا فينا نحلم مثلاً إننا نجتاز كمية كبيرة من الماء ونحن خائفون. وعندما يكون اليانغ قويًا نحلم أننا نجتاز نارًا عظيمة وإننا نحترق. وعندما يكون الين واليانغ متساويي القوة نحلم بالحياة والموت. إن هذه الطريقة في التفسير تعتمد كما نلاحظ على فكر فلسفي عميق، وهي تجعل من الحلم وسيلة لمعرفة الذات ولتحقيق توازن نفسي وروحي عند الحالم. ولهذا فإن المفسّر هو بدرجة معينة حكيم يعمل عمل الطبيب النفسي في سبر نفسانية الحالم وفهمها. إن تفاسير الأحلام في مختلف الحضارات القديمة، رغم خصوصياتها وتباعدها الزمني والجغرافي، تلتقي في أنماط عدة كما لاحظنا. ولعل الحكايات الشعبية التي لاتزال تتكرر حتى أيامنا هذه حول بعض الأحلام تعبر خير تعبير عن هذه النقطة. فالحكايات الشعبية اليابانية مثلاً تورد قصص شراء حلم الآخرين المتكررة في أكثر من ثقافة شعبية عالمية. ومنها أن أحدهم حكى لصديقه أنه رأى في الحلم موقع كنز، فعرض عليه صديقه شراء الكنز منه فقبل، وكان أن استطاع الشاري الوصول إلى مكان الكنز والحصول عليه! ولايخفى علينا ما في هذه القصة من عبرة وجوب التمسك بأحلامنا وطاقاتنا وعدم التفريط بالمواهب الممنوحة لنا. كذلك نلاحظ أن تفسير بعض الرموز الحلمية يتطابق في أكثر من ثقافة. ففي اليابان، كان كتاب التنجيم مستعارًا من الصين، واسمه طريق الين واليانغ. وعلى الرغم من أننا لانجد في الصين هذا النهج في التفسير، لكن اليابانيين طوّروا الفلسفة الصينية باتجاه أكثر تصنيفية بحيث يمكن تفسير الرموز بشكل مباشر أو غير مباشر. فالحلم بالماء مثلاً يمكن أن يشير إلى حريق في حين يشير حلم النار إلى الطوفان. ونجد مثل هذا التفسير المعاكس في مصر القديمة وثقافات أخرى. ومن الرموز المتكررة أيضًا الحلم براهب أو زاهد أو عابد يعطي الحالمة جوهرة لامثيل لها في العالم فيكون ذلك دلالة على الحمل بطفل سيكون ذا مواهب وحظ كبير، كما في أحلام الكمبوديين. وفي الأحلام اليابانية نجد الراهب الذهبي نفسه يدخل عبر فم الحالمة ليملأ أحشاءها. وتتكرر القصة في الأساطير السرانية السورية والمصرية القديمة، حيث يشير الحلم بطفل أو شيخ يدخل الفم أو الأحشاء إلى ولادة عظيمة. لابد أن نشير أيضًا إلى حلم هام يتكرر في تفاسير اليابانيين والسياميين والكمبوديين والصينيين والمصريين وغيرهم، وهو فقدان سن أو ضرس، وتفسيره موت أحد الأقرباء، وإذا كان السن مكسورًا فقد يشير إلى المرض والموت، ويمكن تحديد المتوفى بحسب موقع السن وحجمه إلخ. ويتفق هذا التفسير تمامًا مع تفسير أرطميدوروس الذي لابد أن ننهي حديثنا عن التفاسير القديمة به، وهو الذي يُعدّ دون شك الأقرب إلى المنهجية العلمية الحديثة. لم يكن أرطميدوروس الوحيد الذي ترك لنا كتابًا في "تعبير الرؤيا" لكنه كان أول من عالج مفهوم الحلم وتفسيره بطريقة منهجية صحيحة. وقد عاش في القرن الميلادي الثاني في أفسس، لكن شهرته انتسبت إلى قرية والدته فلقب بالدالديائي De Daldia. وقد اشتهر بتواضعه واعترافه بخطئه إذا لم يحسن التفسير. وهو لم يعرف بالطبع مصطلح اللاوعي الحديث، لكنه كان يتعامل معه ويشعر به كمفهوم، فلو تأملنا في عمق تفسيراته للأحلام لوجدنا في معظم الحالات رمزًا أساسيًا ينطلق منه. والحق أن أيًا من المسائل النفسانية التي نعالجها اليوم لم يغب عنه. وتبين لنا أعماله أنه كان يعرف تعددية الرموز ومعانيها، وإنه كان يعرِّف على المستوى الموضوعي كما وعلى المستوى الذاتي دون أن يفصل بين المنظورين. ويلعب الجسد الإنساني دورًا هامًا عنده، فداخل الفم يرمز إلى البيت والأسنان هم سكانه. والرأس يمثل الأب. ومن تفسيراته مثلاً التي تتفق مع التفسيرات الحديثة الحلم بأنف كبير أو جميل، وهو دلالة جيدة على الرضى الداخلي عند الحالم وعلى نجاح أعماله وعلى اتصاله بأشخاص مرموقين. ولكن إذا حلم أحدهم بأنه بلا أنف فإن أعماله ستنهار، والمريض سيموت. والتفسير مستمد هنا من قوة النَّفّس الذي يستنشقه الأنف، وهو يأخذ منحى آخر في حلم آخر بالنسبة لإرطميدوروس. فإذا حلم أحدهم إن له أنفين فهذه دلالة أكيدة على نزاعات عائلية، وهو يرتكز بذلك دون شك على فهم رمزية الأنف من كونه حلاً شكليًا أمثليًا وحيدًا في الوجه المتجانس. يقول أريطميدوروس: إن الرموز التي تتكرر عدة مرات في الأحلام تشكل بالنسبة لفكرنا دعوة للتفكر بشيء محدد وبجذب وتوجيه انتباهنا له. وتعليقه هذا على الحلم المتكرر يأخذ به علم النفس الحديث. وإن كنا لم نتطرق إلى الحلم المتكرر في الحضارات المختلفة، لكن معظمها أولته اهتمامًا خاصًا، ورأت أنه منبه إلى حدوث أمر هام. ووفق التحليل النفسي فإن أعماقًا بعيدة في النفس تحاول بذلك النفاذ إلى نطاق الوعي والبقاء فيه. إنها أشبه برسالات تحمل أخبارًا عاجلة وتتكرر باستمرار حتى يُسمح لها بالدخول وتصبح مقبولة في نطاق الوعي. أحلام الرؤيا والتحقق ارتبط غالبًا مفهوم الرؤيا في الحلم بنبوءة قابلة للتحقق. ونجد أمثلة كثيرة على أحلام ملوك مصريين أو آشوريين أو فرس أو غيرهم يظهر فيها إله للملك ويعلمه بوجوب خوض حرب ضد الأعداء أو هزيمتهم. وكان الحلم يأتي معاكسًا أحيانًا، ويشير إلى هزيمة واندحار جيش الملك. وكانت الرؤى تستشف مسافة زمنية أوسع أحيانًا، لتتنبأ بمصير الأمة. ويتكرر هنا حلم هام يصف فيه الحالم أنه رأى نفسه وقد تحولت أعضاءه إلى مواد مختلفة. ومن الأحلام الشهيرة في هذا المجال حلم سلطان قونيه الذي فسّره له بهاء الدين ولد والد الشيخ جلال الدين الرومي، مفاده أنه رأى رأسه من ذهب وصدره من الفضة وبقية جسمه بدءًا من السرة من البرونز وإليتيه من الرصاص وقدميه من القصدير. وكان التفسير إنه بعد عصره الذهبي ستتراجع الأمة تدريجيًا إلى أن يحل عصر يكون فيه التحلل كثيرًا وتكثر الأمة وتنتهي مرحلة السلاجقة. لكن أحلام الرؤيا ارتبطت في حالات أخرى كما سبق وذكرنا بتحقق روحي رفيع. وفي هذه الحالة يكون الحلم نذيرًا بالمرتبة التي بلغها السالك أو المريد، ويكون في بعض الأحيان مشاركًا، بما هو رؤيا، في التحقق والاستنارة. ولاشك أن الفلسفة البوذية الهندية بلغت مرحلة عليا في هذا المضمار، نستشفها من إجابات الحكيم الموقر ناغاسينا الشهيرة على تساؤلات الملك ميلندا الذي جاءه طلبًا للمعرفة. فعندما سأله عن طبيعة الحلم أجابه إنه إشارات تجتاز طرقات الفكر. وهناك ستة أنواع من الحالمين كما سبق وذكرنا آخرهم أصحاب الحلم الحقيقي. وهؤلاء يحققون شروطًا خاصة يحدثنا عنها أحد معلمي اليوغا القدماء: فعندما يضبط الإنسان نَفَسه يستطيع أن يكون حرًا في أحلامه، ويحقق خلالها الرؤى التي يطلبها. وشرط تحقيق هذا الحلم-الرؤيا هو ألا يكون الحالم في حالة غير واعية، بحيث يكون مستيقظًا على حقيقة ذاته، فلا يكون نائمًا أو غافلاً ولا مستيقظًا. كذلك عليه قبل أن يلجأ إلى النوم أو الاسترخاء أن يتنفس وفق طريقة خاصة ليضبط أنفاسه ويصبح على تماس مع الطاقة التي فيه. تحفل حياة أو أسطورة البوذا بالأحلام الرؤيوية التي فسّرها أو التي حلم بها هو نفسه. وثمة ثلاثة أحلام رئيسية في الأسطورة تصف مراحل حياته الأخيرة. أولها لأمه التي تصف دخوله إلى صدرها كفيل أبيض هو أجمل الفيلة التي رأتها. وعندما اقترب موعدة ولادة البوذا رأى والده حلمًا خرج فيه البودهيساتفا من البيت تحف به الآلهة ليتشرد في الغابة. وعندما كان على البوذا أن يترك البيت في رحلته بحثًا عن الاستنارة تروي الأسطورة حلمًا عتيق اللغة وبالغ الأهمية رأته زوجه وتصف فيه ما يصيبها من هزة أرضية واقتلاع الأشجار وتروي تفاصيل كثيرة مخيفة، فالشمس والقمر يهويان، ويُقص شعرها وتقطع يداها وقدماها وتصبح عارية إلخ، لكن البوذا يطمئنها، فتفسير ذلك ليس شيئًا، إذ أن حليها المبعثرة ويدها المقطوعة وعريها وأهوال الطبيعة من حولها، ذلك كله يشير إلى أنها ستمر بمرحلة تتخلى فيها عن أنوثتها لتصبح إنسانًا! وتذكر الأسطورة أخيرًا مجموعة من الأحلام رآها بالتتالي البوذا نفسه. وكان أولها يشير إلى أنه لم يحقق الاستنارة بعد، ثم تتدرج لتتحقق استنارته فيأتي إليه رؤساء العائلات والطبقات ويحصل على كل ما يلزمه ليكون قادرًا على مساعدة الآخرين. تشير هذه الأحلام إلى المعنى الفلسفي العميق الذي كان للحلم في الهند. وفي الحقيقة، فإن هذا العالم الذي نحيا فيه هو الحلم، في حين أن ما ندعوه حلمًا ليس لا أقل ولا أكثر مما نتعامل معه على أنه واقع. ومع الاستنارة، يصبح الدخول إلى عالم الحلم استيقاظًا إلى عالم وحدة العالمين والباطن. ويعبر الفكر الطاوي عن ذلك بطريقة أخرى. فخلال النوم، الحكيم لايحلم، وخلال اليقظة لاشيء يعكر صفوه. إنها نظرية اللافعل الصينية. فالحلم الطاوي لايمنع محاولة فهم الحلم وتفسيره إنما ذلك بالنسبة للإنسان العادي الذي لم يرتق روحيًا بعد. أما الإنسان المتأمل فعليه أن يرتفع إلى مستوى أعلى. وليس ذلك دعوة إلى اللامبالاة كما قد نظن، فبدلاً من معرفة العالم بتحليله يستطيع الحكيم أو الرائي معرفته بالتواحد معه داخليًا. كذا، يتأمل تشوانغ تشو مفهوم الحلم والحالم ووحدتهما بأسلوب بات شائعًا في الأدب الصيني: حلم تشوانغ تشو إنه كان فراشة، فراشة سعيدة. كان يصفق دون أن يعرف إنه تسو. وفجأة استيقظ وعرف نفسه تشو. فلم يعد يعرف إذا كان تشو الذي حلم بأنه فراشة، أو إنه إذا كان الفراشة وقد حلمت بأنها تشو! نجد في نوع أدبي ياباني يسمى النو (nô) الفكرة نفسها. وهو يعتمد على أن كائنًا إلهيًا يظهر للإنسان وينقله في الحلم إلى مفترق وتقاطع عالم الأرض وعالم البوذا والموتى، فيرى تداخل هذين العالمين بحيث لايستطيع تمييز أي منهما هو الحقيقي:
هذا العالم، هل هو حلم؟ *** *** *** المراجع 1. تعبير الرؤيا، أرطميدوروس الأفسسي، نقله إلى العربية حنين بن اسحاق، تحقيق د. عبد المنعم الحفني، دار الرشاد، القاهرة، 1991. 2. علم النفس المركب، تفسير أعمال يونغ، شارل بودوان، ترجمة وتقديم سامي علام، دار الغربال، دمشق 1992. 3. الفكر الفلسفي الهندي، د. سر قبالي راد كرشنا ود. شارلز مور، ترجمة ندره اليازجي، دار اليقظة العربية، دمشق، 1967.
|
|
|