|
لم يكن المبحث الإيقاعي في الشعر العربي حديثًا وإنما هو قديم قدم الممارسة الشعرية، لذلك سوف لن نتناول بالدراسة تجلياته وإنما سنحاول البحث في دلالة الظاهرة الإيقاعية من حيث أبعدها النفسية والجمالية والتعبيرية لاعتقادنا إن هذه الجوانب الثلاث تمثل بحق عمق الإيقاع. فكيف تتجلّى هذه الأبعاد انطلاقًا من الممارسة الشعرية وهل يمكن أن تكون ظاهرة عامة في كل الشعر؟ إن الحديث عن البعد النفسي للإيقاع لا يمكن أن يتوفر في الشعر القديم، ذلك أن الكتابة القديمة تتم في قوالب جاهزة تتجسد في البيت الشعري الذي ينجز وفق عدد معين من التفعيلات هي نتاج جماعي أكثر منها نتاج فردي، لذلك فمقولة إن الشعر "كلام موزون ومقفّى" تجعل هذه العملية مشتركة من منطلق أن الوزن الواحد يمكن أن يركبه مئات الشعراء ولا مجال للشاعر فيه أن يختار ما يتلاءم مع حالته النفسية؛ ومن ثمَّ فدراسة هذه الظاهرة تكون جلية في الشعر الحديث والمعاصر ذلك أن مفهوم الشعر قد تغير ولم يعد الشعر كلامًا موزونًا ومقفى، بل هو الإقامة في الكون على نحو شعري. وبات الإيقاع في النص هو إيقاع النفس في قلقها وتوترها وهي تواجه ألم الكتابة. ومتأت من حركة الذات لا من هدير التفعيلة، وبات ممكنًا رصد حركة الذات الشاعرة من خلال رصد الحركة الإيقاعية في سعيها إلى تنويع التفعيلات وتنمية الموسيقى الداخلية. فإن كانت الإيقاعات القديمة تدفع إلى الخطابية، حسب رجاء عيد، فإن الشاعر المعاصر قد وعى العالم وعيًا دراميًا بسبب تعقد الحياة المعاصرة، لذا بات انتشار شعره على الورقة ضربًا من تشظية هذا العالم وإبراز لمشاعر الألم والحزن الذي يعيشه. ونلمس هذا في كثير من القصائد المعاصرة كـ رؤيا فوكاي للسياب، أو في العديد من شعر قاسم حداد هذا الذي يسعى إلى نشر الحروف على الورقة علّها تحدث صوتًا ينقل لنا تشظيته في هذا العالم. يقول:
أدخلت الحروف في فوضاي إن هذا المقطع يدل دلالة واضحة على تشظي هذه الذات تشظية الحروف وتداخلها وتعقد أصواتها، وبالتالي تعقد قيمة الإيقاع هو تعقد يعيشه الشاعر. ولعل المفاهيم المتعددة للشعر حديثًا تكشف هذا البعد النفسي للإيقاع. ومثلاً على ذلك هذا التعريف لميخائيل نعيمة: إنه الحياة باكية أو ضاحكة، وناطقة وصامتة، وملونة، ومهرولة، وساعية، ومسجية، أو مقبلة ومدبرة .... نرى من خلال هذا التعريف الذي يقوم على ثنائيات يختزلها الإيقاع هي ثنائيات تتركب منها النفس الانسانية المتشظية بين عالمين: الوجود والعدم، الضحك والبكاء، الصمت والكلام، السكون والحركة. فيكون بذلك الإيقاع كشف لآلام هذه الذات، وهذا يكسبه دلالة نفسية تعبر عما يعتمل في الذات. أما القيمة التعبيرية والجمالية للإيقاع فتكمن في النظر في خطابين: الخطاب النثري والخطاب الشعري، وذلك لمعرفة أسباب الأهمية التي اكتسبها الشعر على حساب النثر، والتي يرجعها كل النقاد إلى الإيقاع. فابن قتيبة يفضل الشعر من هذا المنطلق، وكذلك التوحيدي والخليل ابن احمد الذي يجعل من الشاعر سلطان كلام. ومن هنا نشأ مفهوم الشعر عند القدامى الذي يقوم على الإيقاع، يقول ابن رشيق: إن ألذ الملاذ كلها الألحان والأوزان وقواعد الألحان الأشعار معايير الأوتار. وهذا التوقيع في النظرية القديمة جعلت للشعر خاصية وهي سرعة الحفظ. ومن مظاهر الجمالية في الشعر اعتماد العرب عليه في استنباط القواعد البلاغية القديمة والبيانية والتركيبية، وعادة ما يعرفون الشعر بأنه الكلام البليغ. أما حديثًا فقد ازدادت مكانة الإيقاع في الشعر إذ أصبح جوهر العملية الشعرية وصار جزءًا منها لا خارجًا عنها باعتبار أن الموسيقى داخل القصيدة مكون من مكونات النص على عكس النظرية القديمة التي هي قوالب جاهزة. وبذلك تغير مفهوم الشعر الذي جعلنا نتحدث عن إيقاع الذات لا عن إيقاع التفعيلة، ذلك أن الإيقاع في الشعر الحديث قد انفتح وخرج عن أوزان الخليل المعروفة نحو عوالم أكثر اتساعًا، ولعل هذا ما عبر عنه جبران حين قال: لكم منها (أي اللغة) العروض والتفاعيل والقافية وما يحشر فيها من جائز وغير جائز، ولي منها جدول يتسارع مترنمًا. ألا يكون هذا الجدول الذي يتسارع مترنمًا هو الحياة بتدفقها وغزارتها. وخرجنا بذلك عن ذلك النظام الصارم الذي يمثله عمود الشعر إلى نظام أكثر مرونة. ولكن رغم هذا الاختلاف في النظرية الإيقاعية بين القديم والحديث فإن الإيقاع لا يخلو من قيمة تعبيرية وجمالية بما أنه خطاب يسبر أغوار الذات عبر انتظام ما دام الإيقاع تناغمًا وما دام للإنسان ميلاً فطريًا لتقبل الإيقاع الذي هو جوهر حياته وجوده ما دام الكون نفسه متناغم. ولعل هذه الموسيقى والتناغم هي الإيقاع الذي هو شرط قيام الشعر، إذ أن الشعر إيقاع ومجاز. وهكذا نلمس أن للإيقاع بعد نفسي وتعبيري جمالي، ولكن رغم هذا فإننا نرى للإيقاع حدودًا يقف عندها في إبراز هذه القيم الثلاث، خاصة إذا كنا نعني أساسًا الإيقاع الشعري دون سواه ذلك أن الإيقاع مظهر عام أي تحتوه كل العناصر. إن القيمة النفسية للإيقاع قد تفقد إذا تناولنا النظرية الشعرية القديمة باعتبار أن الإيقاع فيها ينهض به الوزن، بل إن العرب جعلوا الإيقاع الشعري مرتبطًا بالوزن والقافية. يقول ابن يعيش إن الأوزان من جملة جوهر الشعر، والقافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر، ولا يسمى شعرًا حتي يكون له وزن وقافية. ومن هنا نتبين إن الإيقاع قديمًا قد حصر في الوزن والقافية، أي حسب نظام البيت القديم. ومعلوم أن البيت نظام جاهز ليس للشاعر فيه فضل غير أن يصوغ المعاني "الملقاة على الطريق" وفق ذلك العمود، فلا يمكن بهذه الحال أن يبرز الحالة النفسية للشاعر بل إن معاني الألفاظ هي التي تكتسب هذه القيمة. هذا على مستوى القيمة النفسية أما على مستوى القيمة التعبيرية والجمالية فإن الإيقاع يكاد ينحصر في هاتين الخاصيتين، ذلك أنه لا يخلو من التعبير والجمال، وفي جميع الفنون، سواء كان رقصًا باعتباره أداء جسماني للإيقاع، أو الرسم الذي يخضع لإيقاعية تساعده على خلق جمالية، وكذا الشعر الذي ميزه الإيقاع قديمًا وحديثًا عن باقي الفنون القولية. وفي هذا السياق تقول اليزابث درو إن ما يفرق بين الشعر والنثر في المكان الأول هي تجربة الأذن ذلك أن الشعر كلام يمتاز بزخرفة موسيقية ... ولعل هذه السمة جعلت من الشعر من أعلى درجات البيان قديمًا، واعتبار منشئه سلطان كلام، بل مصدر الفتنة والغواية إنما يعود إلى الإيقاع. وقد تدعّم هذا الموقف في الشعر الحديث بأن أصبح جوهر العملية الشعرية لامنفصلاً عنها، واكتسب بذلك أبعادًا تعبيرية وجمالية أكثر، وباتت دروب الإبداع كثيرة، وصار الإيقاع ليس الوزن والقافية وإنما هو التجربة التي تختزل معاناة الواقع والإبداع. وهكذا نرى أن للإيقاع قيمة نفسية تتجسد في الشعر الحديث خاصة وتتقلص في القديم. لكن القيمة التعبيرية والجمالية توجد قديمًا وحديثًا، بل تبدو كأنها جوهر العملية الشعرية لا بل جوهر الحياة الإنسانية مادام التناغم هو الذي يسود هذا الكون ويعطيه نظامه وما النظام إلا الإيقاع الذي يختزل كل قيم الحياة. *** *** *** [1] هذا المقال قسم من دراسة مطولة حول الأبعاد النفسية والجمالية والتعبيرية للإيقاع في الشعر الحديث.
|
|
|