فـِ قـِ، أو العَقْدُ والوَفاءُ
حوارية من فصل واحد

 

علي جازو

 

شخصان على رصيف شارع ضيق فارغ. مساء عادي، ثم عتمة كثيفة تدخلها إضاءة شحيحة من مصباح أرضي قريب..!

الأول: لقد وعدتَني. ألم تعدني؟ لا تنكر؛ لأنك لن تقدر أبدًا إثبات أنك لم تعدني بأي شيء. هذا واضح، واضح وحاسم.

الثاني: كنتُ حزينًا. ألا تتذكر كم كنتُ حزينًا!؟ كيف تطلب من حزين مثلي أن يفي بوعد أرغمه الحزن عليه!! ثمّ .. ثمّ.. ما الذي ترجوه من حزين مثلي!

الأول: لذلك.. آه أنت تعترف.. إذن لذلك .. لذلك فقط يجب أن تفي بوعدك.

الثاني: دائمًا يحدث لي ما يحدث معي! وما حولي يغزوني ويمتصني ويكربني. هكذا، يا لي من خائب محطم العقل والتدبّر!! لا أعرفُ.. أتدخل في شؤون غيري، على حسبان أنني راجح الفكر والبصيرة، ثم سرعان ما أنسحب وأتوارى. دائمًا يحدث لي ما يحدث حولي! ما شأني أنا بكل ذلك الذي يملأ الهواء بسموم البشر القساة؟؟ دائمًا أتعرض مثل شخص شديد الأهمية لأشياء هي بالأساس تعني أشخاصًا شديدي الأهمية، ذلك أنني أبدًا أبدًا لا أميز حقيقة الأمر الذي يعنيني وحدي، أنا وحدي ما الذي يعنيني بمفردي فقط!؟؟

الأول: هذه هي المسألة، هي المسألة كلها. على كل حال أنت مسؤول، أنت المسؤول الوحيد. لذلك، لذلك ينبغي أن تنفذ العقد.

الثاني: ما لا يتكرر هو ما يعذبني. ما لا يمكن أن يخلد إلى الأبد يعذبني؛ هذا الذي يحدث مرة ولا ينتهي..؟!! حقًا كان على حياتي كلها أن تتكرر أمامي حتى أميز حياتي فقط، ما يحيا مني فقط، ما يحيا ولا يعذب أحدًا سواي. لقد تدخلتُ لأنني- مثل كل من يتدخل عن حسن نية- عرفت بالأمر محض صدفة، وكان علي - مثل الجميع آه من هذا الجميع الذي لا أعرف أحدًا منه سوى نفسي الحزينة- أن أتدخل وأرضخ لرغبتي فيما ينقذني من حيرتي - كوني شخصًا عامًا ينبغي عليه التدخل والمؤازرة والتعاضد. يا للكلمة: التعاضد به واه.. التضامن! الآن أدركت أن الأمر لم يكن يعني سوى مرة واحدة، مرة واحدة فقط. قلت لي: حسنًا مرة واحدة لا تعني شيئًا. لكنها اللعينة المرة الواحدة كانت تعني كل شيء! مرة احدة.. مرة واحدة ينبغي أن تتكرر حتى أعرف أنها لا تخصني أبدًا.

الأول: نعم نعم. أنت تعترف. على كل حال هذا أمر جيد منك. جيد حقًا أن تعترف. أما بخصوص حيرتك وترددك فهذا شأنك وحدك. لذلك - أنت تعرف ذلك- يجب أن تتحمل تبعات أفعالك الحرة. هكذا هي الحياة؛ واحدة بواحدة. لافرق، أنت مثل الجميع. ألم تقل أنك مثل الجميع واحد من الجميع؟؟

الثاني: مرة واحدة وحسب! رغم ذلك تراجعتُ، وأنا الآن أتعذب، أتعذب دون سبب! دائمًا ثمة من يصمك ويوقفك ويخرسك بهذه الكلمة الجامعة المانعة: هكذا هي الحياة، هكذا هكذا هي الحياة هي الحياة. كأنها بئرٌ، حقيقة من الغلبة والقوة والشمول..! ثم ماذا .. ما.. ما .. ذا.. يحدث لي طالما أنها هكذا.. هكذا تخص الجميع. أنا.. أ .. أنا حقًا واحد من الجميع، مثل الجميع؟؟

الأول: ينبغي أن تتحمل تبعات أفعالك. هكذا هي الحياة؛ واحدة بواحدة دائمًا أبدًا. وأنت تعرف أن الحياة ثابتة حصينة مسؤولة. أنت تعرف.. تعرف. ولأنها كذلك دائمًا، تلفظ من لا يتحصن ولا يثبت على رأي. لذلك ينبغي أن تتحمل تبعات أفعالك الحرة كي لا تلفظك الحياة من فمها كحلزونة تلفظ بزاقها خلفها.

الثاني: هكذا هي الحياة، آ..ااه هكذا إذن!! يبدو الأمر بسيطًا وواضحًا. أنا لا أحتاج حياتي طالما أنها تخص الجميع ولا تخصني أنا وحدي. لتكن ملك الجميع، لتكن هكذا إذن. أنا أحتاج إلى مشفى أموت فيه. إنه لأكثر موطئ يرغبه المرء الحديث كما أنا عليه من حداثة العمل والكد والاشتراك في شؤون الحياة العامة.. يا للكلمات يا للكلامات: شؤون الحياة العامة، إنها لتبخر الحياة ...

.... ثم أنك تعرف تمام المعرفة كم كنتُ حزينًا حينها! كيف لك إرغام فعل شخص حزين على تلبية جزاء لم يكن ليخطر له على بال. الحزين يشرد، الحزين ينسى، الحزين طفل. من يمكنه محاكمة طفل؟!! ماذا قلتَ: حلزونة، مثل حلزونة، مثل بصاق حلزونة..؟!

الأول: كانت الشمس تغرب حينما وعدتني.

الثاني: ومعها، مع بطء غروبها الغريب تركتُ قلبي بين يديك. من قال: وسط مراكز الوجود هذه.. مبغى ومعبد، ومشفى يموت المرء فيه؟ يا للمراكز!!

الأول: أنْ تستغل عاطفتي. وجداني وتعاطفي. هذا لا يجوز. وإن كنتَ طفلاً، وإن كنتَ في حزنك مثل طفل، ما شأني أنا بكل ذلك؟ أنا واحد مثل الجميع، أرضخ عن قناعة أو عن غيرها لما فرضته الحياة العامة على الجميع. أنت تعرف أن استقرارًا للتعامل البشري ينبغي أن يسود، وما لجوءك الماكر إلى حزن طفل سوى لتخلصك من تبعات الحياة الرجولية. الحياة رجل لا يخلف وعده. ينبغي أن تنفذ العقد.. أنت أيها الرجل، يجب أن تفي بوعدك الصادق. هذا واضح، واضح وحاسم، وأكيد، ولا شك فيه قيد نملة، قيد مليم واحد. واضح وحقيقي.

الثاني: ومع غياب الشمس مضى وعدي خلف حياتي!

الأول: بعد الغروب اكتمل عقدنا. وكم من نهار واضح تلا الليل، وأنت تتوارى وتتملص وتتلكأ عن عمد. هذا لا يجوز. لقد وعدتني، وينبغي أن تنفذ العقد الآن، الآن في ضوء النهار تحت عين الشمس الشاهدة كل شيء.

الثاني: ومع غياب الشمس مضيت مثل وعدي مثل حياتي. أنت تطلب ما لا يطلبه أحد من أحد. كيف لميت مثلي أن يفي بما صار الآن تركة عفنة تحت شمس النهار المستبد.

الأول: لا تخلط الأمور علي. ليس للوعد عهدٌ غير ما قيل فيه. لتكن شمس، ليكن ليل. الوعد مجرد عن الزمن. مجرد عن التعاطف الماكر، وأنت بتجرد أيضًا، ينبغي أن تفي بوعدك.

الثاني: وعدي لا يعود إليّ. أنا لم أعد مثلما كنت بالأمس. لا شيء يعود سوى الذكرى. أنت تعرف، الجميع يعرف. لم يصمت من يعرف!! لا شيء يعود مثلما كان. هذا محض هراء. أنا لا أصغي إلى هراء.

الأول: لقد جعلتَ مني دمية بين أرجل كلماتك الظالمة القاسية. وهي ظالمة لأنها عمياء، وهي قاسية لأنها بلا قلب. لقد جعلت مني أضحوكة على كل لسان. ماذا يسعني أن أطلب غير نفاذ العقد! وإذا لم تفِ بوعدك، أي رجاء حينها أرجوك!؟

أرجوك ، فِ وعدكَ، قِ الروحَ التي فيَّ من العوز والذعر. أرجوك، أتوسل إليك.

الثاني: هذا شأنك أنت وحدك. أنا لم أرغمك على شيء. أنت من قبلتَ الوعد. والوعد مضى مع مضي الشمس.

الأول: أنا ساقط، أنا ساقط.

الثاني: والساقط لا يعود. الساقط لا ينهض.

الأول: حسنًا، حسنًا.. إذنْ هكذا.. هكذا. إذنْ لا بأس، هيه هيييه .. سنرى!

الثاني: عقدٌ ووعدٌ. حياة. واحدة بواحدة. ثمة من يترقب ويتصيد. ثمة ما يحدث. أهي لعبة، محض لعبة؟ أهو رهان يائس؟ ولم فجأة نبدو مثل الدمى!! مثل قطع بلاستيكية رخوة ..!

الأول: لن تفي بوعدك أيتها القطعة البلاستيكية!!؟؟

الثاني: ما تتوقع من بلاستيكة رخوة! فكرْ معي، تخيّلْ وراقب، وانتظرْ!!

الأول: لن أنتظر بعد الآن. سأستدعي الشرطة، فأنت شخص وضيع، وينبغي إرغامك على الوفاء بالعهد.

الثاني: حقًا حقًا؛ إنه لأمر وضيع! وإن قدوم الشرطة، وإن الإرغام الذي تستنجد به سيلوث هذا الأمر الوضيع. لكن ما العمل؟ لا شك، أنهم هم من ينبغي الاستنجاد بهم. على كل حال، أنا ، أنا أحتاج إلى مشفى أموت فيه.

الأول: أخيرًا، أدركت ما العمل؟

الثاني: دمية، دمية. دملة، دمامة، دماء .. ماء ماء .. ما ا  ااا ءءءء آااه . أنا أحتاج إلى ماء بحجم العالم! أحتاج إلى مشفى أموت فيه: أتخيل سريري: هذه مخدتي، وهي نظيفة بيضاء؛ وثمة منها بالقرب منها نافذة، وعبرها- فيما أنا مستلق على ظهري- أرى قبة الكنيسة، رأس البرج أو الهرم أو الحياة، ثمة من يغطيني بلطف أخرس،.. وأرى أيضًا ذرى أشجار الصنوبر- أهي حقًا أشجار صنوبر لها صمغ كالدموع ؟ - يا لنعيمي! ياه كم أنا محظوظ، كم أشعر بسعادة تغمر جسدي مثل ماء داخل فمي، مثل قبلة ما زال لها طعم على لساني!! آه  عمتِ مساء يا أشجار الصنوبر، فلأمتْ بالربيع، سأكون محظوظًا لو متُّ بأمسية ربيع. على لون أخضر أحب أن أغمض عيني. كم أنا سعيد لأنني أردتُ أخيرًا أن أغمض عيني!!

الأول: أنظرْ في وجهي. ألا تقدر تنظر في وجهي!؟ وتشعر أيضًا بالسعادة. يا للوقاحة!! ما شأني أنا بما تشعر؟ ينبغي في كل حال الاستعانة بالشرطة. إنه الحل الوحيد، وإن كان رديئًا، وإن كان سيلوثني معك في شكاوى بلا جدوى. نعم، .. آه .. اللاجدوى هي الطريق الوحيدة، وما عليّ سوى المضي في هكذا طريق. ثمة ما يدعى بتسلط الأفكار الخبيثة، .. الآن أدركتُ ما ترمي إليه بألاعيبك. ستطلب طبيبًا، وبعد ذلك سيقرر الطبيب أنك مصاب بتسلط الأفكار الخبيثة، وبذلك ستنجو من وفائك بالعقد. يا لخيبتي، يا لي من حطام بين يدي عقلي!! لكن، مع ذلك، رغم كل شيء، .. ما العمل، ما العمل!؟؟

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود