|
من إيمان العقل إلى دين القلب
يا إله الحب القدّيسة تيريزا
استهلال -1- من جديدٍ، ارتدى الإيمانُ كفنَه الأبيضَ في جلالٍ مهيبٍ، بعد أن لفّ حولَ وسطِهِ عبوةً ناسفةً، ثم صلّى في سكينةٍ وصمتٍ، خاتمًا صلاته بالدعاءِ والتوسّلِ، مطلقًا العنان لدموعه تناجي اللهَ، وتخبره أنه يفعلُ ما يفعلُ لأجله، حبًّا به وقربةً إليه، ويقدّم أغلى ما يملكُ، قربانا لديه. قرأ بعضًا من قِصار السورِ، ثم في هدوءٍ أغلقَ القرآنَ، قبّل الغلافَ ورفعه إلى الجبينِ، كعادته، ثم ودّعه بنظرةٍ حانيةٍ أخيرة، واندفع نحو غايتِه المشرِّفة. لم يعد بينه وبين النهاية سوى لحظاتٍ، دقّّاتُ قلبه تتسارعُ وتعلو ما عاد لها ضابطٌ وهيهاتَ يقدرُ أن يسيطرَ عليها، والخوفُ ماردٌ يثورُ على قمقمِ وصايته، معلنًا عن وجوده بارتعاشِ الأطرافِ واصفرار اللون. للموت رهبةٌ، وللمجهول عتمةٌ، لكن التراجعَ فكرةَ ساذجة ومستحيلة. تتابعت الصور سريعًا أمام ناظريه، سنواتُ حياته المعدودة، أهله والأقارب، فتيةٌ في مثل سنّه، يتأهبون لملاقاة الله كحاله اليوم ويغبطونه على سبقه لهم، شيوخٌ كانوا له دومًا القدوةَ والمثل المحتذى. ثم تجمّد فكرُه تمامًا، توقّف عند صورةٍ واحدةٍ لم يعد يرى سواها، صورةُ الحبيبِ المصطفى، رسولِ الله، باسطًا ذراعيه، يستقبله عند بابِ الجنان، واهبًا إياه الحور الحسان. هكذا وعده المعلّمُ، فآمن بوعده وصدّقه. وكيف لا يصدّق من تربّى على يديه ونهل من معينه، ولم يعرفْ مشربًا له سوى من نبع مائه. ثمّ إن غاية مناه أن يردّ بطاعته وامتثاله لأمره فضله عليه. كم حضّهم على الجهاد في سبيل الله، وكم حثّهم على الموت فداءً لدينه الذي عبثتْ به الفرقُ والشيعُ، وما استشهاده اليومَ إلا ليعودَ الأمر إلى ما كان عليه زمن الرسول ويكون الدينُ كلّه لله. وكم زرع في نفوسهم الثبات والقوة وهو يردّد من حين لآخر: "خذوها عني وليروها الأبُ للولدِ، أنه ما من أمرٍ أشدّ رعبًا للكفّار أعداء الله، كمرأى مؤمنٍ يفجّر نفسه، مضحيًا بحياته، مقابل أن يقتلَ ولو واحدًا منهم" "ولأن الساكتَ عن الحقّ شيطانٌ أخرسٌ، ولأننا إذا تهاونّا في دين الله، لم يلقَ من يحميه أو ينصرُه ويزودُ عنه، سنقلقلُ مضاجَعهم ونبثّ الهلعَ بينهم كالوباء، لا يستطيعون له دفعًا، طالما لا يعرفون من أين يأتيهم الموتُ المباغتُ، وعلى يدِ من تكون النهاية". سنبيد الدخلاءَ على الدين، أبالسةَ الإسلام وشياطينَه، مروجي الفتنة وأهلَ البدع، ما دام فينا حيٌّ يُرزق، وما دام فينا عرقٌ ينبض. ولن ندعهم ينخرون كالسّوس قواعد الإسلام وأسسَه الراسخة، لأنها ستكون القاصمة القاضية التي لن تقوم للإسلام قائمةً بعدها، إن تركناهم يفعلون" إنه موعدُ الانصراف، والتعليماتُ دقيقةٌ وواضحةٌ، تنصّ على أن يضغط َعلى العبوة لتنفجرَ لحظةَ تدفّقِ الأطفال من باب المدرسة، وقد طمأنه ربّه ووليّ أمره أن ولادة روحه ستكون بلا ألم، وسريعًا سيتحوّل الجّسدُ المنذورُ إلى أشلاءٍ، لتبعثَ من جديدٍ يومَ الحشرِ والنشورِ. سيُخلّد كشهيدٍ في سفرِ الشهداء الأحياء، لأنه اختارَ أن يخلّص الأمة من بذور الشرّ. بذورٌ صغيرةٌ لو تركتْ تنمو وتكبر، لعاثتْ في الأرض فسادا وتخريبًا. فليدع العواطف والمشاعر جانبًا، إذ لا مكان لها في هذا المقام، ويكفيه لإقصائها أن يتصور كلّ طفل منهم رجلاً كافرًا أو امرأةً فاسدة في مستقبل قريب. "الله أكبر" .. صيحةٌ أطلقها قبل أن يستحيلَ رمادًا وأشلاءً بلا هويّة، إلا هويته المكتوبة اسمًا ونسبًا وانتماء دينيًا في سجلّ أربابه المصطنع في معسكر الإسلام الصحراوي، تضيفه إلى قائمة الشهداء والمبشّرين بالجنّة. سريعًا حدثَ الأمرُ، كما وعده ربّه المعبودُ، وسريعًا كانت جثثُ الأطفال تملأ المكانَ، فيما حقائبهم تتعبثرُ وكلُّ محتوياتها، الصغيرة كوجوههم، كأعمارهم، تفوحُ بعطرِ الفجيعةِ، وتبوحُ بمأساةِ الإنسان. وتصرخ: "ويحكم، أيها الكبار الراشدون!! ألا ترون ما فعله بنا الإيمان؟؟!!! آه لو تعلمون، كم تسخر الطفولة من أربابه. أيديهم تمسك بأعناقنا الرقيقة، وأناملهم تقطر بدمانا، ونحن نرى من قال: "أفشوا السلام بينكم"، وأوصى بتحيّة الإسلام، والردّ بأحسن منها، يرقب دامع العينين منفطر القلب، رسالته، تشوّه بأيدي من نصبوا أنفسهم نوابًا لله، وأعادوا الجنّة التي زرعها قفرًا موحشًا تنعق فيه الغربان والبوم، وصحراءً أهلها من الأعراب، ورؤيتهم فيها سراب. وكلّ ذلك تحت لواء آيات الجهاد في الكتاب. * * * -2- وفي كنيسةٍ قديمةٍ، ما زالت حناياها وثناياها تفوحُ بعطرِ الروح اليسوعيّ الأول، ويكاد كلّ حجر فيها ينطقُ دالاً على المسيحيّة الأولى، وعلى عهدٍ بَعث فيه المسيح تلامذته قلبًا واحدًا رحمةً وخلاصًا للناس، فإذا بكلّ حبّة رمل قد جُبلت بعرقِ ودمِ من أسّس ورفع. قبل أن يجرّد الهيكلُ من روحه، وقبلَ أن يرتفعَ صرحُ دينِ المؤسسات على أنقاضِ الإنسانِ. هناك وأمام أيقونةٍ لمريمَ، كادت تنطق معلنةً الحقيقةَ البسيطةَ التي غطتها الأيام بركام الأوهام، وقفتْ العاشقةُ تصلي. لكأنّ المجدليةَ تقوم من بين الأموات في الألف الثالثة لمسيحها مما نعدّ، وفي اليوم الثالث مما يعدّ الله "إن يومًا عند ربّك كألف سنة مما تعدّون" لتحقق نبوءةَ يسوعَ من جديد: "ملكة التّيمن ستقوم في الدّين مع رجال هذا الجيل وتدينهم" المجدليّة التي آمنت ولم تر. المجدليّة التي أتت مسيحها مسلِمةً، كما أتت بلقيسُ سليمانَها، يقودها العشقُ إليه لما رأت ذاتَ عرشها عنده. تاركةً عبادة "الشّمس - النّفس"، لتعبدَ ما يعبدُ الحبيب. عشقٌ حرّرها ليجعلَها ترى الأشياءَ بعينيها لا بعيون الغير. وتستنشقُ الأنفاسَ بأنفها لا بأنف سواها. وتتلمّسُ الوجودَ بيديها، ساعيةً بقدميها إلى توحيد ذاتها، في دربِ إخلاصها لكينونتها. مسدلة بينها وبين مفاهيمِ الغير حجابا. ملقية عن كاهلها حملَ الحطب، وخالعةً أثواب التقليد والموروث الكثيفة الثقيلة. غرقتْ الزائرةُ العابرةُ في نورانيّة الحضور، وتلاشى الإحساسُ بالزمان والمكان عندها شيئًا فشيئًا، حتى إذا ما امتلأت محبةً ورحمةً ونعمةً، وشعورًا بأنها الوجود اللا محدود، لفّتها تلك الغبطةُ التي تمنحُها الاستنارةُ لعشّاقها، وتلاشى الفرقُ بين الأنا والأنت والهو، حيث لا هو إلا هو. رأت مريمَ المطوّبةَ منذ الأزلِ إلى الأبد. المكرّمةَ بأن تكون المرأةَ الوحيدةَ التي يُذكر اسمُها في القرآن، بنسب المسيح إليها. مريمَ - الرحم الذي ضمّ إنسانًا كان تجسيدًا خاصًا للرحمن. مريمَ الكوكب الدريّ .. وقارورة الطيبِ التي أحالت الدمَ حليبًا. وسمعت ترنيمةً سماويّة تلفّ أرجاء الكنيسة وتحملها معها إلى أعلى علييّن:
مريمُ وقف الإيمانُ يرقبُ بتوجّسٍ صلاةَ تلك الغريبة، وساوره الشكُّ حولها، بل بلغ به الظنُّ حدًّا خمّن به أن يستبطنَ تواجدُها غايةً سياسية، إذ رأى في ملابسها ما يشي بهويةٍ ما، وازداد اضطرابه حين سمعها تحاورُ صديقةً لها أثناء تجوالها في أرجاءِ الكنيسة، عن آراءٍ فكريّة ورؤىً قلبية حول صلبِ المسيح. عن تساؤلاتٍ ظمأى لا يروي غليلها الأناجيلُ الأربعةُ المعتمدة وفضولٍ نهمٍ لعينِ القلب المحبّة التي تقرأ بأميّة معرفيةٍ وصدق نيّةٍ وصفاء طويّةٍ، متقصيّةً عن الحقيقة بعد أن أغلقتْ عينَ الحس التي تبحث بين السطور عما يدينها. كان السؤالُ يجرّ السؤالَ: لماذا اعتُمدت هذه الأناجيل الأربعة من بين العشرات، ليُهملَ مثلاً إنجيلُ برنابا الزاخرُ بالتعليمات والإرشادات، لا الآياتِ والمعجزاتِ فقط. فقد أنكرته الكنيسةُ منذ البدء رغم أن كاتبه كان تلميذًا مباشرًا ليسوعَ يوصفُ بأعمال الرسل أنه كان مؤمنًا وصادقًا. ثم .. أين إنجيلُ توما التوأم وفيه من الحقائقِ الخفيّةِ ما فيه؟؟!! أين إنجيلُ فيليب، بطرس، بل أين إنجيلُ مريم؟؟ ثمّ راحت تحكي لرفيقتها كيف عاش كتبةُ الأناجيل الأربعة في فترات لاحقةٍ لزمن يسوع، وفي ظلّ الحكم الروماني الذي استدعى سترَ الكثير من الحقائق لضمان رضى روما كقوةٍ مهيمنة، أولاً، ثم لاحقًا لاستمرارِ هيكلية المسيحيةِ كرسالةٍ متمثلة بالكنيسة، ولتتوارى السلالةُ الروحيّة متمثلةً بأهل بيته - كما حدث في الإسلام - في طيّات الكتمانِ والنسيان. وهكذا كانت الأناجيلُ تتعرضُ لعملياتِ التعديلِ والتنقيحِ والحذفِ والإضافةِ لتأتي في النهاية أربعةً فقط، وبهذه الصورة التي نراها، جاهدةً أن تقدّمَ يسوعَ كإلهٍ قد تجسّد، مكرسةً جلّ إصحاحاتها على ما كان يفعله يسوعُ من إحياءِ الموتى وإبراءِ المرضى، واجتراحِ المعجزات، فيما يقدمه لنا برنابا مثلاً، كإنسانٍ قد تألّه، هادٍ ومرشدٍ ومجدّدٍ وثائرٍ متمردٍ على عبادةِ العبيد. ازدادت دقاتُ قلبه تسارعًا، وتضرّج وجهُه كعلامةٍ على ارتفاعِ ضغطِ الدم، حين وصلتْ في تصاعدِ كلماتِها إلى درجةٍ أعلنت بها أنها ترى يسوعَ - التجسيد الخاص للرحمانية - إنسانًا كسائرِ الرسلِ، ولا ترى ضيرًا أن يكونَ قد تزوّج وله نسلٌ باقٍ حتى هذه اللحظة، طالما دعت الدياناتُ كلُّها للزواج ولم ترَ به نقيصةً بل كمالاً، متسائلة إن كان يدنّس الزواجُ إلوهيتَه، إن كان إلهًا، طالما هو قد تجسّد، وطالما صار في حكم عليه أن يأكلَ ويشربَ ويُجرّب أربعين يومًا من إبليس!! سريعًا احتشدتْ الأفكارُ في ذهنه، لتدورَ كلّها حولَ محورٍ واحدٍ وهو ما كتب في الآونة الأخيرة، وتلك الضجةُ المفتعلةُ للتأثيرِ على الكنيسة، وبدا متأكدًا من الجهةِ التي تدعمُ وتموّلُ ترويجَ أفكارٍ ماسونيّةٍ كهذه. فهاهم فرسانُ الهيكلِ وشهودُ يهوه والحشاشونُ يُبعثون من جديد، وموقعُه يحتّم أن يتصرفَ بسرعةٍ وأن يحسمَ الأمرَ قبل أن يصعبَ السيطرةَ عليه. اقتربَ من الزائرةِ وحيّاها بابتسامةٍ سمحاء، وتمنّى عليها راجيًا عدمَ المساس بمقدّسات المسيحيّة أو إثارةِ أفكارها الخاصة بمكانٍ له حرمته، من بابِ احترام المعتقداتِ والأديان. واستهجنَ أن تتكلمَ غريبةٌ مثلها - ليست من أهل الدار - عن يسوعَ، "فأهلُ مكةَ أدرى بشعابها"، كما يقال؟؟!! حاولت أن تفهمه أنها حرّةٌ لا تنتمي لمذهبٍ أو دين، وأنها تجرّدت عن الهويّات، وبالتالي فهي لا تتمترسُ خلفَ أية هويّة بما فيها الإسلام. وأنها لا تقلّ عنه حبًّا ليسوع وغيرةً عليه وعلى دينه، بل ربما فاقته حبا، لأنه عندها اختيارٌ بينما هو عنده إرثٌ لازمٌ حاكم. راحتْ تحدّثه عن حقيقةِ صلةِ الرحمِ كما تراها وكيف أنّها لا علاقة لها بالدم، فأحبةُ المسيح هم أهلُ بيته، وأهلُ بيته هم الذين مضوا على أثره وحملوا صليبَه وتمثّلوا تعاليمه في أيّ زمان ومكان، ومن أيّ مذهبٍ أو أمّة. فكانوا هم الأهلَ لأنهم لحملِ الحقيقةِ والصلبِ على شجرةِ محبتها أهل. فهاهو ابنُ نوح الكافر، وهو من صلبه، يقول عنه الله: "إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غيرُ صالح" - هود 46. في حين يشيرُ النبيُّ محمّد (ص) إلى سلمانَ الفارسي قائلاً: "سلمانُ منّا أهل البيت" رغم أنه لا قرابة جسديّة بينهما ولا دم. وينادي مريمَ "يا أخت هارون" وبينهما بحسابِ الزمنِ قرون. ثم ألم يقلْ يسوعُ لتلميذه الذي استأذنه ليدفنَ أباه: "اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم" - إنجيل متى. ألم يقلْ لهم يومَ أتت أمُّه وأخوته يطلبونه ليكلموه: "من هي أمي ومن هم أخوتي" ثم مدّ يدُه نحو تلاميذه وقال: "ها أمي وأخوتي. لأن من يصنعُ مشيئةَ أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي" - إنجيل متى. وسألته بشفافيةٍ عن غايةِ الله من الخلق، وإرسالِه الرسل تباعًا، وهل يريدنا اللهُ عبادًا أحرارًا أم عبيدًا، وما الغايةُ من إرساله رسله إن لم تكن لدلّنا وإرشادنا إلى طريق الحريّة لا إلى التبعيةِ العمياءِ لدين الآباء. وهل من الحرية أن نقبلَ التاريخَ على أنه مقدسٌ لا يجوز الاقترابُ منه خوفًا من الله، لنحجبَ عن معرفة الله بقداسةِ الوهم تلك، التي كان الأربابُ صنّاعها على الدوام، ليتثنى لهم أن يبقوا نوابًا له على أرضه، يقضون بالدينونة التي لطالما نهى يسوع عنها. وإلى متى تبقى المجدليّة في عين كلّ إنسان طوال هذه السنين إما مومسًا - وما أكبر الفرق بين المومس والخاطئة - أو مجنونة لعجزهم عن فهم حقيقةِ الشياطين السبعةِ التي أخرجها منها عبرَ مقاماتِ العروجِ وسلوكِ الطريق. وهي التي كانت أول من شهدَ قيامته، وفاقتْ بمحبّتها له جميعَ التلامذة، فكانتْ الأقربَ إليه. يشهد بذلك فيليبوس إذ يقول: "لقد أحبّ المعلّم مريم أكثر من كل رسله. وغالبًا ما كان يقبِّلها من فمها." وقد شاهد باقي الرسل حبّه لمريم، وقالوا له: لماذا تحبّها أكثر منّا؟ فأجابهم المخلِّص قائلاً: لماذا يا ترى، لا أحبكم بمقدار ما أحبها" - إنجيل فيليبوس. ولماذا أهملَ ذكرُها عمدًا في الأناجيل إلا لمامًا، رغم كونها كما يرى كلّ فكر حرّ أنها الرحمُ أو الكأسُ المقدسة أو الوديعةُ، التي حملت سرّ يسوع ودمَه الملكيّ، وهل ستقدر الكنيسةُ أو أيّ مؤسسةٍ دينيةٍ أن تمنعَ إلى الأبد هذا الفكرَ الحرّ من أن يطرحَ إشاراتِ استفهامه التي راحت تتمردُ على نيرِ إيمانِ التقليد. كأن تتساءل عما تخفيه كلماتُ يسوع في ردّه على بطرس الصخرة: "قال لهم سمعان بطرس: على مريم أن تغادرنا، فإن الإناث لسن أهلاً للحياة. فقال يسوع: أنظر، فإني سوف أرشِدها لأجعلها ذكرًا، حتى تصير هي الأخرى روحًا حيَّة تشبهكم أنتم الذكور. فإن كل أنثى تجعل نفسها ذكرًا تدخل ملكوت السموات" - إنجيل توما 114. فيا لجمالِ مريمَ الثانية، العاشقة الحقّة، القوية الشجاعة كمريم الأولى، كعشتار، كإنانا، كإيزيس، وككلّ تجسّدٍ وصورةٍ للأم الأولى. تقف وسط الحواريين، بعد أن ارتفع يسوعُ لتقولَ لهم مطمئنةً إذ تراهم خائفين حزانى من الكرازةِ التي طلبها منهم المخلّصُ: "لا تبكوا ولا تحزنوا ولا تتحيروا، لأن نعمته ستكون معكم بالكامل وستحميكم. لكن بالحري، دعونا نمجّد عظمته، لأنه أعدنا وجعلنا للناس." - إنجيل مريم. "اصمتي بحقّ الآب والابن والروح القدس"، قالها متهالكًا وهو يكتمُ دمعةً كادت تفضحُ شدةَ تأثره. ويرسمُ وهو يبتعدُ عنها علامة الصليب، حين لم يعد يقوى على سماع تجديفٍ كهذا عن مولاه وربّه، متوسلاً في سرّه أن يغفرَ الغفورُ لها لأنها تهذي بما لا تعلم. فمن المؤكد أنها قد وقعتْ تحت سيطرةِ من يحاولُ تشويه صورةِ الربّ وتلامذته النجباءِ المختارين. أما هي فرغم ما وصلتْ إليه من عبثيةِ الاستمرار في الحوار مع الإيمان، كانت عيناها معلقتين على غدٍ تكادُ تقسم عليه، وفجرٍ واعدٍ لابدّ آت. فجرٌ يبشّر بصباحاتٍ مشرقة، الإنسانُ فيها سيّد نفسه وربّ الكون، يحملُ تكليفَه دون خوفٍ أو كتمٍ للأنفاس التي خلقها الله لتسبحَه في عليائه، كما يسبّح كلُّ كائنٍ فطرةً على سطحِ هذه الأرضِ المختارة. وحينها سيسفرُ يسوعُ عن وجهه الحقّ، لا ما رسمته المخيلةُ الشعبيّةُ بإيحاء الأربابِ فصار وعيًا جمعيًا مسلّمًا به. وحين يسقط حجابُ القدسيّة، ستتطابق صورةُ يسوع أو عيسى كإنسان تاريخيّ من سلالةِ داود، وصورةُ المسيح كمعنى، تحملُ به كلّ عذراء تصل لمقامِ مريم متحققةً بالرؤية دون واسطة، ليولدَ نورُ الله فيها ولادةً روحيّةً، كنتاجٍ طبيعيّ لعشقها لمعشوقٍ روحيّ:
لأن المعشوق الإلهي روح بلا جسد ابن عربي -3- ومن جديدٍ، أسدل الإيمانُ الستائرَ، سدّ حتى المنافذ الصغيرة، ثمّ أغلق البابَ وراءه، وهو يديرُ المفتاحَ في القفلِ مرّتين، متأكدًا أن أحدًا لن يقدرَ أن يدخلَ الغرفةَ غيره، أو يسترقَ السمعَ والنظرَ، كما أن ابنتَه السجينةَ، لن تستطيعَ الخروجَ إلا بإذنه وإرادته. "هكذا لن تتسللَ الغوايةُ إلى بيتي، وستكون حبيبتي الصغيرةُ في مأمنٍ، بعيدةً عن أبالسةِ البشر وشياطينهم" حدّث نفسه وهو يغادرُ تلفّه الطمأنينةُ الواهمةُ. وتمتم في محبةٍ وحنانٍ وهو يمسحُ دمعتين اغرورقتْ بهما عيناه: "آآآآه لو تدرين كم أحبكِ يا صغيرتي". غرقتْ الفتاة في بحر الصمتِ والذهولِ، تأمّلتْ عتمةَ الجدران، تنشّقتْ رطوبةَ الزوايا، تلمستْ فراغَ السرير، حزنتْ على شبابها الغضّ يذبلُ في الصقيعِ، في انتظار الذي قد يأتي وقد لا يأتي، من قد ينقذها من الأسر أو يضع قيدًا آخرَ حول عنقها. واستسلمتْ لتداعياتِ الذاكرة في ضعفٍ وسكون، فإذا بها الطفلةُ البريئةُ المدللة، تلهو ما طابَ لها، تغريها الروابي والسهوبُ فتجري إليها، بلا رقيبٍ ولا حسيبٍ، بلا عينٍ راصدةٍ، وسبابةٍ تتوعد بألف لا. ليتها لم تكبرْ، ليت أنوثتها لم تضجّ فيها، لتعلنَ عن نفسها بصدرٍ تكوّر، ووجه كالبدر تدوّر، وثغرٍ عذبٍ عن بسمةٍ أعذب افترّ. لم تكن تعلم أن الأنوثةَ ستكون نقمةً لا نعمة، وأن صوتها ككلّ جوارحها سيكونُ عورةً يتوجبُ عليها إخفاؤها. ولا كانت تعلم أن الأبوةَ والأمومةَ خوفٌ وحصارٌ وملكيةٌ وتبعيّةٌ عمياء. ولا كانت تعلم أن المحبةَ عتمةٌ، وأبوابٌ موصدةٌ، وأوامر ونواهٍ لا تنتهي. وكيف تعلم كلّ ذاك، وهي التي حلّقت لسنين في سماءِ محبة جبران اللا متناهية: "أولادكم ليسوا لكم ... أولادكم أبناء الحياة". حاولت أن ترسمَ لله، نورُ السماوات والأرض، صورةً تشبه أبيها، فلم تقدرْ، ونفرتْ كلّ جوارحِها وعاداها الخيالُ والتّصورُ، فمحالٌ أن يمثّل الإلهُ كخليفةٍ على الأرض، بصورةٍ بائسةٍ كهذه. الله رحمةٌ وخيرٌ وجمالٌ وحريّةٌ، وحاشا لله أن يخنقنا بركامِ التصوراتِ الضيّقة، أو بغبار الأفكارِ المنحرفةِ عن قيّومتها. "وإذا كان هذا هو الصراط المستقيم، فإني أوّلُ كافرٍ به يا أبتاه" قالها قلبها في تحدّ سافرٍ وبصوت أنثويٍّ إنسانيٍّ يحاول أن يتحدى، فتتلجلجُ نبرتُه وينكفئُ من جديد على ذاته، ليختنقَ في حنجرةٍ اعتادتْ الصمت. أشفقتْ على أبيها، من هذا الكمّ الهائلِ من الأفكار يحملُه فينوءُ بحمله، ورثتْ لحاله وهي تراه أشدّ أسرًا منها، رهينَ ما تعلّمه وتربى عليه، وها إيمانُه الراسخُ بمعتقداته يجعله لا يرى أيةَ صورة أو فكرة بديلة. كما أن قناعاتِه ليست وليدةَ يومٍ وليلةٍ، بل هي نتاج سنوات طوال، وحصيلة موروثٍ وتربيةٍ، تأصّلت جذورُها في نفسه، والتخلّي عن أيّ منها، يعني بالمقابلِ أن تتزلزلَ الأرضُ تحته، ويفقد صلابتَها الداعمة. ثمّ أنه لا يفهم كما يردد على مسمعها كلّ وقت، كيف تشقّ السفينة عباب البحر بلا قبطان، أو كيف يرتفع بيتٌ بلا عماد، فعجبًا لجيل فاسدٍ متمرّد، ينطلقُ كفرسٍ حرونٍ بلا ضابطٍ أو قانون!! وعجبًا لنساءٍ أخذن مواقع الرجال، تحت اسم المساواة والحريّة، وضربن عرضَ الحائط بما جاء في القرآن من قوامةِ الرجالِ على النساءِ، وأنّ لهم عليهنّ درجة، ومن ينكر ما جاء في القرآن إلا القوم الكافرين؟؟ كم تمنت لو تحاوره، أو توصلُ إليه نداءَ أعماقها وفطرتَها الصادقة، علّها تفكّ بعضَ خيوط شرنقته، فيحرّرها بدوره، ويطلقها للحياة بثقةٍ ومحبةٍ. لتخوضَ غمار تجربتِها بنفسها، وتخرجُ بنتائج تعزّز ثقتها بالله والحياة والآخر. لكنه ما كان ليسمعَ إلا صوتَ الخوف عليها، ولا يرى إلا الشرَّ متربصًا ليفتكَ بها، كمخلوقٍ ضعيفٍ في غابةٍ للذئاب. لو أنه يصغي مرّة واحدة إليها، لعلّمته - وهي الصغيرة - ما لم يعلم. لهمستْ له: لو تلقي السمعَ إلى قلبك بدل عقلك لقصّ عليك أحسنَ القصص، مادام القلبُ مهبطَ الوحيِ وعرشَ الله. لقالت له: كيف يرى الجميلُ كلّ الوجود جميلا. وكيف الشرّ يجذبُ إليه مثيله، كذلك يفعل الخير، ما دامت "الأرواح جنودٌ مجنّدة ما تشابه منها ائتلف وما تنافر اختلف"، وكيف يقومُ الوجود على ثنائية الخير والشرّ، يمارسان رقصةَ الجذبِ والتحوّل منذ الأزلِ وإلى الأبدِ، ولا قيام للوجودِ بدونهما. فكأنهما الدمُ النقيّ والدمُ القاتمُ يضخهما القلبُ، ليتحولا من حالٍ لحال، ما دام الشيطانُ يجري في العروق، وما دام الرحمنُ أقرب من حبل الوريد. لقصّت عليه قصةَ حواء، الكينونةِ المستقلّة، لا التّابعةِ، "ناقصة العقل والحظّ والدين"، كما راق للمفسرين أن يفسروا قول علي عليه السلام لصالحهم لا لصالح المرأة . فما نقص عقلها بمنقصة لها بل ميزة، لأن العقول إن كان لها وظيفة التدبّر وتعقل الحضور الوجودي الظاهري للإنسان في الحياة، فإنّ القلبَ هو الميزة الإنسانية العظمى بالنسبة إلى الله وهو محل كمال الإنسان، كما جاء في كلّ الكتب السماويّة. ثمّ إن المرأةَ لا تحتاجُ إلى ذلك الكمّ العقلي كما يحتاجه الرجل لاعتباراتٍ معروفة، لكنها تحتاج إلى كمّ قلبي ودفقٍ روحيّ أعظم من الرجل لاعتبارات أمومتها!! ولذا وهنا فعلاً يصبح نقصان عقلها ميزة لها، لأنه عنوانٌ لكمالِ قلبها ودقة إحساسها ومشاعرها المعنوية والتي تجعل الجنة تحت أقدامها. وأما نقصانُ حظها، فكذلك لعدم حاجتها للعبِ دور الرجل في الخدمة الظاهرية التي حمّلته أعباءً وهموما وواجباتٍ ارتأى الله جل وعلا أن يجعل حظه (الظاهري المادي) أعظم منها، لكي يقوم بالتالي بخدمتها هي فعلاً وهذه ميزة أخرى لها!! وأما نقصان إيمانها، فلقوة ارتباطها المعنوي بالله باعتبارِ أن الإيمانَ هو الوصلة ما بين الإنسان والله، بينما هي متحققة فعلاً فيما لم يتحقق به الرجل من صلة مع الله، وهي ميزة (ملائكية) أخرى أعظم. وفي شتّى حالات نقصها تلك، ستفيض محبةً ورحمةً، حياةً واحتواءً، على أسرتها ومجتمعها .. لأنها أمٌّ وإن لم تفعّلْ أمومتَها بالإنجاب. وبالتالي فإن قوامةَ الرجلِ على المرأةِ، لا تعني حتمًا سلطةَ القهرِ والخوفِ أو السيطرةِ والأسر، كما سعى العقلُ الذكوريّ الجمعيّ لتعزيزه عبر تاريخ طويل، حتى عند المرأة نفسها، بربوبيّة مطلقة للبيت بكلّ ما فيه ومن فيه، بل تعني أن يأخذ كلّ منهما مكانَه الحق، ودورَه الحق، لتساويهما أمام الله في الحقوق والواجبات. فقوامتُه حتميّة بحسب ما يقتضي دورُه الدنيوي الظاهري، الذي قدّره الله له، وطاعتُها له أيضًا حتميّة، إنما على منهاجِ المحبةِ والرحمةِ والتكاملِ، لا القسرِ والقهر. وحينها ربما تصل وصيّة تلك الأعرابية لابنتها ليلة ودّعتها وسلّمتها لزوجها من بين وصاياها العشر: "كوني له أمةً .. يكن لك عبدًا .. والله يتخيّر لك" .. وحينها سيعود الضلعُ القاصر بالمحبة - ولا سبيل سواها - إلى صدرالرجل طواعية ورضىً، لتحقيق الكينونة الواحدة التي شاءها الله، وأرادا مشيئته. ابتسمتْ ساخرةً من أملٍ يبدو مستحيلاً، ثمّ تهاوتْ على السريرِ منهكةً، لتدخلَ متاهةَ الهروبِ من جديدٍ، كما تدعو النومَ أو الموتَ المؤقّت. وفي الحلمِ ... ومن الغيبِ الشاهد، أطلّ الفارسُ الجميلُ الغامضُ كعادته كلّ ليلة، مسربلاً بالوعدِ والفرحِ، عانقها بلهفةِ عاشقٍ متيّمٍ، فاستسلمتْ لدفءِ ذراعيه حيثُ الأمان من جحيمِ فكرِ البشر المستعر، حيثُ جنّة الله التي لا يهدرُ فيها صوتُ الربّ مجلجلاً متوعدًا: "عليكِ الرجم أيتها الزانية" رغم أنّ "الأعمالَ بالنيّاتِ ولكلّ إنسانٍ ما نوى"، كما يقولون ولا يفقهون ... * * * -4- ثمّ جلس الإيمان على كرسي الحكم، ليقضيَ ويفتيَ ويحكمَ بالعدل. لقد درس القانونَ والنُظُمَ، كما تفقّه في الشرع، وعرف جيدًا ما يجوزُ وما لا يجوزُ، ما يتوجب وما يُنهى عنه، ما الفرضُ وما السنّة، واستحقّ أن يتولى هذا المنصب العالي بكلّ ثقةٍ وجدارةٍ. قبالته، وقفَ اللصُّ "المفترضُ" مكبلاً بالأصفاد، كسيرَ الفؤاد، مطرقَ الرأسِ، ليدافع عن نفسه، بعد أن أعجزَه العوزُ عن الاستعانة بمحامٍ يتولّى هذه المهمّة. أراد أن يوضّح للقاضي المفتي الذي ارتدى جبّة الإيمان، ملابساتِ ما يدعونها بالجريمةِ، وأنّه لم ينوِ السرقة ولا خطر له يومًا ذلك ببالٍ، لكن الجوعَ كافرٌ، و"لو كان الفقرُ رجلاً لقتلته" قالها يومًا سيّد البلاغة؟؟!! تمنّى لو يصغي له "كإنسان" بعيدًا عن النصوصِ والأحكامِ، ليشرح له أيّ واقعٍ مريرٍ يعيش وأسرته، وأنه ما سرق إلا بعد أن ضاقتْ به السبلُ، أمام أفواهٍ صغيرةٍ تطالبه بحقها عليه ما دام جاء بها إلى هذه الدنيا. وأن يقول له أنه ما افتقر فقيرٌ إلا من غنى غنيّ، وأن الجريمةَ بكلّ أشكالها، تكثرُ حيث تسودُ الفروقُ الطبقيّة، وحين تتسابقُ رؤوسُ الأموالِ المتطاولةِ في عدٍّ تصاعديٍّ، لا يعرف حتى أصحابها نهايةً له، لتتوارى العدالةُ أمام سطوةِ التملّك، منتظرةً وعدَ الغيبِ بنصرةِ المستضعفين في الأرض. تمنى أن يعلنها ثورةً بوجه الظلمِ، ويصرخ: "لا لنصٍّ شرعيٍّ خالٍ من الإنسانيّة" فما الشرعُ إلا ليعيدنا إلى إنسانيّةٍ حقّة، ضاعتْ تحتَ ركام الأوراقِ والنصوصِ، إلى آدميةٍ منتصبةٍ، اعوجّت من كثرة الآراء والاجتهادات والأفكار على مرّ السنين. وأن نصًا لا يأخذ بالأسباب والنتائج، وينظرُ بعينِ الرحمةِ وهو يقيم الحدّ، نص خاوٍ فارغ من الحياة، فنحن من ينفخّ فيه الروح، لصالح الإنسان، وحاشا لله أن يكون ظلاّما للعبيد، فيقطعُ يد السارق بحجّة أن النصَّ الشرعيّ ثابتٌ وصريح. وأن الدين متمثلاً بالشريعة، بعد أن وجد ليكون وسيلة وطريقًا مفتوحًا لبلوغ الكمال الإنساني المتجسد بالرسول محمد، زحزحه التعنّت الفكري عن وظيفته فاستحال إلى غاية بحدّ بذاته، دافعًا الإنسان ليكون عبدًا له، وحلّ هو محلّه، فكانت الكارثة، أو الطّامة الكبرى ... فكانت المحصلة، التضحية بالإنسان على الدوام، لصالح النص الشرعيّ المقدّس، غير القابل للتفسير والتأويل!! وراحت عيناه تسألان في رجاءٍ يبتهلُ الجواب: "ألا يمكن أن تحتمل القاعدةُ الشرعيةُ القائلة بقطع يد السارق، تأويلاً لصالح الإنسان لا ضدّه، ككفّ يده عن السرقة مثلاً، بتحسين ظروفِ معيشته، أو تهذيب نفسه، أو كفّها عن عمل السوء لتؤدي عملاً آخرًا شريفًا .. أو .. أو ؟؟!! طالما القرآن "حمّال أوجه" كما قال مولانا عليّ، وأردف موصيًا وناصحًا: "فخذوه على أحسن وجه". وماذا لو كان لكلّ زمان شرعُه، ونحن غرقى في أوهامنا وتصوراتنا، أن هذا التشريعَ كسائر المقدّسات، سماويٌّ إلهيٌّ، لا يحقّ لمخلوق أن يتدخّل به أو يغيره ؟؟!! أراد أن يشير إلى كلّ تلك القصور الشاهقة ويسأله: يا قاضي العدل ألا تقل لي "من أين لهم هذا"، أم أن القانون يحكمني ويعفيهم. يا قاضيَ العدل، هل أنت على يقينٍ أنك لا تأكل إلا الحلال، وأن لقمتي حرام؟! أراد وأراد ... لكنّ الصممَ آفةٌ بشريّةٌ مستشريةٌ، وهيهات لصوتٍ ضعيفٍ كصوته، أن يصلَ لأذنِ من به صممُ. وازداد يقينه بعبثِ الاعتراض، وهو ينظر إلى عصا القاضي - الربّ، التي لم ير بها إلا التهديد والوعيد، وأين منها عصا موسى، يتوكأ عليها ويهشّ بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى؟؟!! فآثر أن يبتلع كلّ ما كان بودّه أن يقوله من كلماتٍ، حتى ولو وقفت في حلقه لتخنقه، فذلك أرحم من تهمةٍ جديدةٍ توجه إليه، وهي الطعنُ بالتشريع المقدّس ونزاهة القضاء. بكى السّارق بصمتٍ وهو يُساق إلى مصيره البائسِ، والتفتَ حوله مستنجدًا، علّه يبصرُ واحدًا من أصحابِ الوجدان، لينصفَه فيما فعل به الإيمان؟؟!! * * * -5- قادتِ الصدفةُ المقصودةُ - باعتبارها سرٌّ من أسرار النظام الكوني اللطيفة - الإيمانَ، ليقرأ فاتحةَ المقالِ، وما سيق من قصصٍ كاستهلالٍ للاستدلالِ، ولم يكن المقالُ إلا رؤيةً على أيّ حالٍ، وشهادةَ شاهدٍ في زمن المسيح الدجّالِ، شهادةَ فعلٍ لا انفعال. فهاجَ وماجَ، وأرعدَ وأزبدَ، وفارَ وثارَ. وإذا بكلماته التي كانت قبلَ حينٍ، منتقاةً مشذّبةً مهذّبةً - طالما لا ندّ مخالفٌ قبالتَه - تتكوّر كقبضةٍ من حديدٍ، وإذا بوقاره وتوازنه يستحيلُ غضبًا جامحًا، وينهالُ كحممٍ أو حجارةٍ من سجّيل. وإذا بأرضه المستقرّةِ الساكنةِ تتزلزلُ وتخرجُ أثقالَها، وإذا بادعاءِ تقبّلِ الآخر، وحقّ الاختلاف، يتهاوى، كأنه ما كانَ إلا صنمًا مزخرفًا، كسائر الأصنامِ المنصوبةِ للعبادة. "أيّة هرطقةٍ هذه بل أيّ كفر" صاح الإيمانُ مستعيذًا بالله من شرّ شياطينِ الإنس والجنّ. "ما هذا إلا دسٌّ للسمِّ في الدسمِ، وتلبيسٌ للباطلِ اسم الحقيقة. يا للأفكارِ المخرّبة، ولفظاعةِ ما يُخطط له لهدم الإسلام. يا لجرأةِ هؤلاء الكفّار على الله وكتابه. أيريدون أن لا يبقى قانونٌ إلهيّ حاكم، بإلغاء كلّ المرجعيّات، ليكونَ مرجعُ الإنسان إلى نفسه وهواه في المعضلات؟؟!! أم يريدون أن ينسفوا تاريخًا حافلاً بالاجتهادات والأفكار، لتبدأ البشريّة رحلتها من نقطة الصفر، بعد كلّ هذا المخاضِ العسير. والمصيبة أن كلّ ذلك يتمّ تحت عناوين زئبقيّة برّاقة "كالعودة للفطرة" و"القلب قرآن السالكين" و"كلّ إنسان خليفة أو آدم" إلى آخر هذه التهويمات والأراجيف الباطلة، من أئمة الكفر والضلال". ثم أفتى بإخراجِ الكاتب عن الإسلام - قبل أن يتمّ قراءة المقال - قاذفًا إياه بما يستحقّ من أوصافٍ وألقاب، وله في ذلك عذر؟؟!! فما كان الكاتب كما يرى إيمانه، إلا مثيرًا للفتنة. وبدهيٌّ أن يكون ملعونًا ومطرودًا - وفق الشرع - من أيقظ فتنة نائمة. "فالفتنة نائمة لعن الله من أيقظها". ابتسم الكاتب في تسليمٍ وسكينةٍ، وهو يشهد جنايةً أخرى للإيمان، فما تحتَ الشمسُ من جديدٍ. والقصةُ ذاتها تتكرر، منذ أول دمٍ لهابيل سفك ظلمًا بيد إيمان أخيه قابيل، مرورًا بيسوع الذي صلب بيد إيمان اليهود، وصولاً إلى كلّ وليّ قُتل على وجه هذه الأرض الشهيدة، وهو يتوسل أن يغفر الله لقاتليه لأنهم لا يعلمون، ويفعلون ما يفعلون نصرة لدين الله كما يرون. "وتلك الأيامُ نداولها بين الناس" - آل عمران 140. ما دامَ مرجعُ الناسِ للاعتقاد بمنأىً عن القلب. ومادامت أفكارهم تطغى على المحبّة والرحمة. وما دام القياسُ شرعًا وسنّة عندهم. والشرع غاية لا وسيلة. ومادام "الناسُ أعداء ما جهلوا". يتبع ... *** *** *** |
|
|