سرُّ اخضرار الطفولة

 

كاجو كاجو

 

يبدو أن الله، حين شاء أن يتجلّى، تجسد الطفولة، ولما أراد أن يُظهر براعته أوجد هذه الكينونة، وتوّج بها كل ما صنعت يداه، وتكشف عنه إبداعه، فلولا الطفولة لكانت جهود الخالق مضيعة للوقت، وهدرًا لمادة الكون الفضفاض.

لو قيّض لي أن أختار اسمًا جديدًا للخالق - بعد أن بهتت أسماؤه العزيزة من سوء الاستخدام - ما ترددت في اختيار الطفولة إسمًا يليق بجلالته.

لِمَ يطالبنا الحكماء، من كل الأديان والأزمان، بالعودة إلى حالة الطفولة وتمثل البراءة؟ وما سرُّ الطفولة البريئة، ولم يُشار علينا، أن نتعلم من الأطفال، ونمعن في مراقبتهم، ونتفكر في ذهابهم وإيابهم؟

تأمل رضيعًا ينظر أمه، لاحظه وهو يهفو إليها. هو لا ينظرها فحسب بل يندفع بكل جسده منشدهًا صوبها. تأمله وهو يبسط كلتا يديه لما يثير حواسه، إن كان مصباحًا أو قمرًا، ومهما تناءى عنه، فيناغيه ويحاوره، يقبض عليه، يعصره ويلاعبه. نحن نفسر ما يقوم به نتيجة جهله البعد الهندسي، بُعد العمق، ما يلهينا نحن الكبار عن اتصالنا الخفي بجذورنا الممتدة في كل أشياء الطبيعة.

حين يكبر قليلاً، وبفضل تدخلاتنا، تغادره بعض البراءة، لكنه لا يفقدها كلها. مازال بعيدًا عن جحيمنا وتفصله عنه مسافة سنوات أخرى.

انظره وهو منكبٌ على ألعابه، منهمك في تفكيكها وتركيبها. إنه منصرف عنا، مستغرق فيما يفعله، لا يشغله أمر آخر، وهذه خاصّية ثانية للبراءة: التركيز على عمل بعينه في الوقت ذاته.

حين يتعثر في توليف لعبته يبدأ من جديد، يعيد الكرّة دون ملل أو كلل، لا يعرف أو يعترف بالفشل، فلا وجود لمثل هذا المعيار في قاموسه. ولأنه لا يحدد أهدافًا ويتعلق بها، لا يكتئب لما نسميه إخفاقًا، لأن وجوده ولهوه هما كل الأهداف، لا شيء ينال من استمتاعه ويعكر صفو احتفائه بالفرح، وهذه سمة ثالثة للطفولة: لا أهداف ولذلك فما من أسى أو تعاسة.

تابعه وهو يقود دراجته الصغيرة، متسللاً بين أثاث المنزل، ملتفًا حولها بمهارة هواة المخاطر. ولأنه لا يقيم وزنًا للخوف يتجاوزها بيسر وخفّة. وذلك سر نبض الحيوية في الجسد البض للطفل.

ارصده، بتأنٍ، وهو يصول ويجول في ساحات الملاعب، ينطلق رشيقًا كالحصان، خفيفًا كالنسمة، متموجًا كالبحر. فإن أحسنت رصده، بتحاشي صخب الذهن لأن ضجيجه يحجب الفطنة، سيتكشف لك أن انبثاق الكون كان ضرورة لتُنجب الطفولة.

إن سرًا غريبًا، قد لا يُعرف قريبًا، يتخفى في رغبتنا الملحة، في الأسرة والمؤسسة التربوية، لينضج طفلنا قبل الأوان. نجهل لِمَ استعجالنا إتمام هذا التحول الآثم؟ أهو ما ندّعيه حبًا له؟ أم هو الجهل بطبيعته؟ أم أن الحسد هو ما يقبع في قعر خافيتنا، هو ما يدفعنا لنخمد طاقات الفرح المتفجرة في كيانه، لنصادر تلقائيته ونخرس تغريده؟

إن شئت أن تكون مربيًا جديرًا للطفل الملك دعه ينمو ويزدهر بحسب محتوى كيانه، دعه يلعب، يمرح، يتكون في سماء الحرية، هو لن يسيء إليها كما تفعل أنت المجبول بالتنشئة التلقينية العنفية. لا تُسقط عصابك عليه فتطوعه وتشكله كما يحلو لك أو لغيرك، لأنه ليس عجينة أو صلصالاً كما تتوهم، بل يختزن حدسًا باطنيًا كشّافًا يؤهله اكتناه أسرار ملحمة التكوين. دعه يتفتح على ممكناته، ابق بعيدًا عنه، اتح لنوره الساطع أن يبدد سديمك، أن يؤهلك لتصبح مربيًا له، وذاك يلزمك بطقوس وفروض تؤديها.

حين تدنو منه، انحني أمام قداسته، اعتذر لتدخلك الفظ على قلبه، تلطف في مخاطبته، ثم قل ما تشاء لعله يتواضع ويسمع نصيحتك.

إن صلفك المعصوب وتعاليك لا يجدي نفعًا فقد اكتشف، منذ أمد بعيد، نقاط ضعفك الكثيرة، تحسس نفاقك وأقنعتك المزيفة، مخاوفك وخيباتك؛ ولا يخفى عليه حبك المشروط له، ويؤلمه أن تجعل منه معبرًا لتحقق ما أخفقت في إنجازه. إن رهافة مشاعره ورقّتها تتأذى باستخدامك له وسيلة تعويضية لمآرب باهتة لا تعنيه.

مالم تتغير، وتستعد توازنك، وتتفهمه، وتتعلم منه؛ لا سبيل إلى تعليمه.

أنت تستطيع أن تعلمه القراءة والحساب، أما اللطف والتهذيب، وحسن السيرة والسلوك والإبداع، هذه يمكنك أن تتعلمها منه.

حين يشرق عليك بهاء الطفل المسرة، يتكشف لك أن الطفل الفضيلة لا يحتاج أخلاقًا، فتحاشى أن تحجب نور الطفولة المبدع بقواعد المنطق، أن تسممه بتلقين العقائد والمناهج وضجيج المذاهب والأفكار.

إن فسحة تبادل الأدوار هذه - تتعلم منه وتعلمه - تتيح لك أن تتبرعم وتورق أغصانك من جديد، تخضوضر، ترفرف بجنحيك عاليًا في فضاءات خصبة، تتملص من ثقالة الجذب العنيد إلى الأرض. لم تعد كهلاً رثًّا مريرًا، لقد غدوت طفلاً، ولعلك وقعت على السرّ، أو بعض أسرار العودة الميمونة إلى الطفولة.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود