|
أخلاق الأرض[1]
عندما رجع أوديسيوس شبيه الإله من حروبه في طروادة، شنق بحبل واحد دزينة من الفتيات - العبدات خاصته اللواتي ارتاب في سلوكهن السيئ إبّان غيابه. لم يطرح الشنق أي تساؤل حول موافقته لآداب المجتمع. فالفتيات كنّ مملوكات. والتصرف في الملكية كان آنذاك، كما الآن، قضية نفعية وليس قضية حق وباطل. لم يكن أوديسيوس الإغريقي مفتقرًا إلى مفاهيم الحق والباطل: لننظر في إخلاص زوجته طوال تلك السنوات قبل أن تخترق سفنه المكلّلة بالسواد البحار الداكنة الخمرية عائدة إلى الوطن أخيرًا. إن البنية الأخلاقية لتلك الأيام تشمل الزوجات لكنها لم تكن قد توسّعت لتشمل الرقيق البشري. وخلال ثلاث آلاف سنة انقضت منذئذ، امتدت المعايير الأخلاقية إلى مجالات كثيرة من السلوك مع تقلص موازٍ في أولئك الذين يُحكم عليهم من وجهة نظر نفعية وحسب. التسلسل الأخلاقي هذا التوسّع للأخلاق، وقد بحثه حتى الآن الفلاسفة فقط، هو من الناحية الفعلية تقدم في مسار التطور الإيكولوجي. ويمكن وصف النتائج بمصطلحات إيكولوجية إضافة إلى الفلسفية. فالأخلاق، من الناحية الإيكولوجية، هي قيد على حرية الفعل في الصراع من أجل البقاء. أما فلسفيًا فالأخلاق هي مفاضلة بين السلوك الاجتماعي والسلوك المضاد للمجتمع. ثمة، إذن، تعريفان لشيء واحد. ولهذا الشيء جذره في ميل الجماعات والأفراد المتواكلين لتطوير صيغ من التعاون يدعوها الإيكولوجي تكافلات. والسياسة والاقتصاد تكافلات متطورة استبدل فيها، جزئيًا، بالتنافس الحر للجميع في الأصل، آليات تعاونية ذات فحوى أخلاقي. وقد تزايد تعقيد الآليات التعاونية مع الكثافة السكانية وفعالية الأدوات. فمثلاً، كان تحديد الاستعمالات المضادة للمجتمع للعصي والحجارة في أيام الحيوانات أشباه الفيلة أبسط من تحديد ذلك بالنسبة للرصاصات ولوحات الإعلان في عصر المحركات. لقد تعاملت الأخلاق الأولى مع العلاقة بين الأفراد؛ والوصايا العشر الموسوية مثل على ذلك. وتعاملت الإضافات اللاحقة مع العلاقة بين الفرد والمجتمع. فالقاعدة الذهبية تسعى للتكامل بين الفرد والمجتمع؛ والديمقراطية تسعى للتكامل بين التنظيم الاجتماعي والفرد. لكن، ليس ثمة بعدُ أخلاق تتعامل مع علاقة الإنسان بالأرض والحيوانات والنباتات التي تنمو عليها. فالأرض، مثل الفتيات - العبدات لأوديسيوس، لاتزال مِلْكية. ولا تزال العلاقة بالأرض اقتصادية بشكل كامل، تستتبع امتيازات لا إلزامات. إن توسيع الأخلاق لتشمل هذا العنصر الثالث في البيئة البشرية هو، إذا ما كانت قراءاتي للأدلة صحيحة، إمكانية تطورية وضرورة إيكولوجية. إنه الخطوة الثالثة في سلسلة، وقد أنجزنا سابقًا الخطوتين الأولين. لقد أكدّ مفكرون أفراد، منذ أيام حزقيال وإشعيا، أن نهب الأرض ليس غير مستحسن فحسب بل وخاطئ. لكن المجتمع لم يقرّ بعدُ باعتقادهم هذا. إنني أنظر إلى حركة الحفاظ الحالية على أنها جنين لمثل هذا الإقرار. قد تعدّ الأخلاق شكلاً من الإرشاد لمواجهة الأوضاع الإيكولوجية الجديدة كليًا أو المعقدة، أو للتأثير في ردود فعل مؤجَّلة، بما أن سبيل النفعية الاجتماعية غير مُدْرَك من قبل الفرد المتوسط. إن غرائز الحيوان أشكال من الإرشاد للفرد في مواجهة مثل هذه الأوضاع. ومن الممكن أن الأخلاق نوع من الغريزة الاجتماعية قيد النشوء. مفهوم المجتمع تطورت كل الأخلاق حتى الآن استنادًا إلى مقدمة وحيدة مفادها أن الفرد عضو في مجتمع من الأجزاء المتواكلة تحثه غرائزه على التنافس من أجل موقعه في ذلك المجتمع، لكن أخلاقه تحثه على التعاون (ربما لأنه ثمة موقع للتنافس من أجله). توسع أخلاق الأرض ببساطة حدود المجتمع كي يضم التربة والمياه والنباتات والحيوانات، أو إجمالاً: الأرض. ويبدو هذا بسيطًا: أَفَلَمْ نتغنى سابقًا بحبنا، والتزامنا بـ، أرض الحرية ووطن الشجاعة؟ بلى، لكن، وبالضبط، ما الذي، ومن، كنا نحب؟ من المؤكد ليست التربة التي نرسلها شذر مذر إلى سرير النهر. ومن المؤكد ليست المياه التي نفترض أن لا وظيفة لها سوى أن تدير العنفات وتعوم البوارج وتنقل قذارات البلاليع. ومن المؤكد ليست النباتات التي نبيد مجتمعات كاملة منها دون رفة جفن. ومن المؤكد ليست الحيوانات التي استأصلنا سابقًا كثيرًا من أعظم وأجمل أنواعها. بالطبع، لا تستطيع أخلاق الأرض منع تحوير وإدارة واستخدام هذه "الموارد" لكنها تقر بحقها في البقاء المستمر، وعلى الأقل في مواضع معينة، بالبقاء المستمر في حالة طبيعية. باختصار، إن أخلاق الأرض تغير دور الإنسان العاقل من مستعمِر لمجتمع - الأرض إلى عضو عادي ومواطن فيه. إنها تقتضي منه احترام الأعضاء- الزملاء له، وأيضًا احترام المجتمع بحد ذاته. لقد تعلمنا (كما آمل) من التاريخ البشري أن دور المستعمِر يتعرض في النهاية للهزيمة الذاتية. لماذا؟ لأن هذا الدور يفترض ضمنيًا أن المستعمر يعرف بمقتضى سلطته ما الذي بالضبط يجعل المجتمع يتكّ كالساعة، وما، ومن، بالضبط ذو قيمة، وما، ومن، بالضبط بلا قيمة، في حياة المجتمع. ويثبت في النهاية دومًا أنه لا يعرف أيًا من ذلك، وهذا هو السبب في أن فتوحاته تنهزم ذاتيًا في آخر الأمر. توجد في المجتمع الحيوي حالة مماثلة. لقد عرف النبي إبراهيم تمامًا ما كانت لأجله الأرض: ذلك كي تقطر الحليب والعسل في فم إبراهيم. أما في لحظتنا الراهنة، فإن الثقة التي ننظر بها إلى هذا الافتراض تعاكس درجة تعلمنا. يفترض المواطن العادي اليوم أن العلم يعرف ما الذي يجعل المجتمع يتكّ كالساعة؛ في حين أن رجل العلم متيقن بالدرجة ذاتها أنه ليس كذلك. فهو يعرف أن الآلية الحيوية معقدة إلى درجة أن كيفية عملها ربما لا يمكن أبدًا فهمها بالكامل. إن كون الإنسان، في الحقيقة، فقط عضو في جماعة حيوية ليتبدى لنا من خلال التأويل الإيكولوجي للتاريخ. فالكثير من الأحداث التاريخية، مع أنها فسرت حصريًا بلغة المشروع البشري، كانت في الواقع تفاعلات حيوية بين الناس والأرض. لقد حددت خصائصُ الأرض الوقائع بنفس الفعالية تمامًا التي حددت بها سمات البشر الذين عاشوا عليها. لننظر، على سبيل المثال، في مستوطنة وادي المسيسبي. ففي الأعوام التي أعقبت الثورة (الأمريكية)، كانت تتنافس على التحكم بها ثلاث مجموعات: الهنود الأصليون، والتجار الإنكليز والفرنسيون، والمستوطنون الأمريكيون. ويتساءل المؤرخون عما كان سيحدث لو أن الإنكليز في ديترويت ألقوا بثقلهم قليلاً إلى جانب الهنود أثناء تلك التوازنات المتأرجحة التي حسمت حصيلة الهجرة الاستعمارية إلى أراضي أجمات القصب في كونتاكي. إنه الوقت المناسب الآن للتأمل في حقيقة أن أراضي القصب تلك أصبحت مروجًا للكلأ عندما خضعت لمزيج معيّن من القوى مثلته الأبقار والمحاريث والنار ومعاول الرواد الأوائل. ماذا لو أن ذراري النباتات المتأصلة في تلك الأراضي المظلمة الوحشية، وبتأثير هذه القوى، أنبتت شجيرات وأعشابًا لا قيمة لها؟ هل كانت بوون وكينتون لتصمدان؟ هل كان سيحدث أي فائض في أوهايو وإنديانا وإيلينوي وميسوري؟ أو أي صفقات شراء في لويزيانا؟ أو أي اتحاد للولايات الجديدة على امتداد القارة؟ أو أية حرب أهلية؟ كونتاكي كانت جملة واحدة في دراما التاريخ. لقد أُخْبرنا عمومًا ما الذي حاول الممثلون البشريون في هذه الدراما فعله، لكن، نادرًا ما أخبرنا أن نجاحهم أو إخفاقهم توقف إلى حد كبير على رد فعل تربة محددة على تأثير قوى محددة مارسها شاغلوا تلك التربة. ففي حالة كونتاكي، لا نعلم حتى مصدر الكلأ الذي نبت في المروج - هل هو نوع محلي أم جلب من أوروبا. لنقارن أراضي القصب بما يطلعنا عليه الإدراك المتأخر لما حدث في الجنوب الغربي، حيث الرواد الأوائل تحلّوا على قدر مماثل بالشجاعة واتساع الحيلة والمواظبة على العمل. لم يؤد الاحتلال هنا إلى كلأ المروج أو أي نبات ملائم يصمد في وجه الضربات والصدمات الناجمة عن الاستعمال القاسي. فهذه المنطقة، وبعد أن أصبحت المواشي تسرح فيها، تحولت بفعل المزيد من النباتات والأعشاب غير النافعة إلى وضع من التوازن غير المستقر. كان كل انحسار لأصناف من النبات يحدث تعرية للتربة، وكل تعرية كانت تحدث انحسارًا إضافيًا للنباتات. والنتيجة اليوم هي التدهور التصاعدي المتبادل، ليس للتربة والنباتات فحسب، بل لاستمرار مجتمع الحيوان بعد ذلك. لم يتوقع المستوطنون الأوائل هذه النتيجة: بل إن بعضهم في سينيغاس في نيومكسيكو عجَّلوا بذلك عندما شقّوا المجاري والمسيلات المائية. كان تطور تلك المنطقة رهيفًا حتى أن بضعة مقيمين وحسب يدركون ذلك، لكنه يخفى تمامًا عن السائح الذي يجد هذا المنظر الطبيعي المحطمّ ساحرًا ملوَّنًا (كما هو بالفعل، لكنه يحمل شبهًا باهتًا بما كان عليه في عام 1848). وكان منظر طبيعي مماثل قد تمّ "تطويره" مرّة من قبل، ولكن بنتائج مغايرة تمامًا. فقد استوطن هنود أريزونا ونيومكسيكو الجنوب الغربي في حقبة ما قبل كولومبس، لكنْ، صَدَف أنهم لم يمتلكوا مواشي الرعي. حضارتهم بادت، لكن ليس لأن أرضهم بادت[2]. في الهند، ثمة مناطق خالية من أية أعشاب وقد حدث الاستيطان فيها لكن بدون تخريب الأرض على ما يبدو، فقد كانوا يجلبون العشب المناسب إلى الأبقار بدلاً من العكس. (هل كان هذا ناتج عن حكمة عميقة أم مجرد حظ جيد؟ لا أعلم). وصفوة القول، لقد وجّه إرث النبات المتتابع سياق التاريخ؛ ومَثَل الأوائل أثبت ببساطة، خيرًا أم شرًا، ما هي التتابعات التي لازمت الأرض. هل كان التاريخ معلِّمًا بهذه الروحيّة؟ سيكون كذلك ما إن يتغلغل مفهوم الأرض، كمجتمع، حياتنا الفكرية حقًا. الضمير الإيكولوجي الحفاظ conservation حالة من التناغم بين البشر والأرض. وعلى الرغم من حوالي قرن من العمل الدعائي، لا تزال حركة الحفاظ جدًا؛ ولا يزال التقدم متوقفًا إلى حد كبير على الدعوات الفخمة وخطب المؤتمرات. ففي الأربعين سنة التي خلت كنا ننزلق خطوتين إلى الوراء مقابل كل خطوة إلى الأمام. إن الجواب المعتاد على هذه المعضلة هو "المزيد من التعليم الحفاظي." لا أحد سوف يجادل في هذا، ولكن هل من المؤكّد أن مقدار التعليم فحسب هو الذي يحتاج إلى التضاعف؟ ألا نفتقر إلى شيء ما في الفحوى أيضًا؟ يصعب إعطاء خلاصة منصفة لهذا الفحوى في صيغة موجزة، لكن، وفق ما أفهمه، إن هذا الفحوى هو التالي: أَطِعْ القانون، صوِّتْ للصواب، انتسبْ إلى بعض المنظمات، ومارس في أرضك ما هو مفيد للحفاظ؛ ومن ثمّ ستتكفل الحكومة بالباقي. أليست هذه الصيغة رَخيَّة جدًا كي تُنجز أي شيء جدير بالاهتمام؟ فهي لا تعرّف أي صواب أو خطأ، ولا تعزو أي إلزام، ولا تدعو إلى أية تضحية، ولا تتضمن أي تغيير في الفلسفة الراهنة للقيمة. وفيما يتعلق باستعمال الأراضي، تستحث المصلحة الشخصية المتنورة فقط. فإلى أي مدى سوف يصل بنا هذا التعليم؟ لعلّنا نخلص من أحد الأمثلة إلى جواب جزئي. بحلول العام 1930 غدا واضحًا للجميع، ماعدا العميان إيكولوجيًا، أن التربة السطحية في الجنوب الغربي من يسكونسن تنزلق باتجاه البحر. وفي العام 1933 تمّ إخبار المزارعين أنهم إذا تبنّوا ممارسات علاجية معينة لمدة خمس سنوات، سيتبرع الشعب بالعمل المجاني لتجهيزهم ولتأمين الآلات والمواد الضرورية. وقد قُبل العرض على نطاق واسع، لكن الممارسات نُسيت على نطاق واسع بعد انقضاء فترة العقد الممتدة خمس سنوات، وواظب المزارعون فقط على تلك الممارسات التي تدّر عليهم كسبًا اقتصاديًا مباشرًا وملموسًا. وهذا ما قاد إلى فكرة مفادها أن المزارعين ربما يتعلمون بشكل أسرع إذا وضعوا القواعد بأنفسهم. وعليه، فقد أقرّت الهيئة التشريعية في ويسكونسن عام 1937 قانون الحفاظ على تربة المقاطعة. وفي الواقع، ذكر المشروع للمزارعين ما يلي: نحن الشعب، سوف نمدّكم بالخدمة التقنية المجانية ونعيركم الآلات المتخصصة إذا وضعتم قواعدكم الخاصة لاستعمال الأراضي. يمكن لكل مقاطعة أن تضع قواعدها الخاصة، وسيكون لها قوة القانون. تقريبًا، اتحدت كل المقاطعات بحماس في قبول المساعدة المعروضة، لكن بعد عقد من سنوات العمل، لم تضع أية مقاطعة قاعدة واحدة. وكان ثمة تقدم ملموس في ممارسات من قبيل حصاد الأراضي، تجديد المراعي، تكليس الأراضي، لكن لا تقدم في تسييج الأحراج لحمايتها من الرعي، ومنع الأبقار والمحاريث عن المنحدرات العالية. وباختصار، انتقى المزارعون تلك الممارسات العلاجية التي كانت مربحة في كل الأحوال، وتجاهلوا تلك المفيدة للمجتمع لكن غير المفيدة لهم بوضوح. عندما يتساءل المرء لماذا لم توضع أية قواعد، يجيبونه أن المجتمع غير مستعدّ بعد لدعمها؛ فالتعليم يجب أن يسبق القواعد. لكن التعليم الممارس فعليًا لا يأتي على ذكر أية إلزامات إزاء الأرض تعلو على أولئك الذين يأتمرون بالمصلحة الذاتية. والنتيجة النهائية أن لدينا الكثير من التعليم، والقليل من تربة الأحراج المعافاة، والكثير من الفيضانات كما في عام 1937. والجانب المحيِّر في مثل هذه الأوضاع يتمثل في وجود إلزامات تعلو على المصلحة الشخصية ومسلّم بها في مشروعات ريفية من قبيل تحسين الطرقات والمدارس والكنائس وفرق البيسبول. لكن، لا تُعدّ من المسلّم بها، كما أوضحنا سابقًا، مشروعات من قبيل تحسين جريان مياه الأمطار الهاطلة على الأرض أو صون جمال وتنوع المنظر الطبيعي الزراعي. إن أخلاق استعمال الأرض ما تزال محكومة كليًا بالمصلحة الشخصية الاقتصادية تمامًا على غرار ما كانت عليه الأخلاق الاجتماعية منذ قرن خلى. وصفوة القول: لقد طلبنا من المزارع أن يفعل ما يستطيع لإنقاذ تربة أرضه، وقد فعل بالضبط ذلك، وفقط ذلك. إن المزارع الذي يقطع 75 في المائة من أشجار المنحدر ويطلق أبقاره في المساحات الفارغة الناجمة عن ذلك ويُلقي بمياه الأمطار والصخور والتربة في جداول المياه المملوكة للمجتمع ككل، لا يزال عضوًا محترمًا في المجتمع (إذا كان محترمًا من نواحي أخرى). وعندما يكسو حقوله بالكلس ويزرع تخوم أرضه يظلّ مؤهّلاً لتلقي كل امتيازات وتعويضات قانون الحفاظ على تربة المقاطعة. ليس للإلزامات معنى بدون الضمير، والمشكلة التي تواجهنا تتمثل في الامتداد بالضمير الاجتماعي ليشمل الأرض إلى جانب الناس. فلم يُنجز أي تغيير مهمّ في الأخلاق أبدًا دون تغيير داخلي في توكيدنا الفكري وولاءاتنا وعواطفنا وقناعاتنا. والبرهان على أن الحفاظ لم يلامس بعدُ هذه الأسس السلوكية يكمن في حقيقة أن الفلسفة والدين لم يصغيا بعدُ إليه. ففي محاولتنا لجعل الحفاظ يسيرًا، جعلناه مبتذلاً. بدائل أخلاق الأرض عندما يشتهي منطق التاريخ الخبز ونقدم له حجر، ينبغي علينا أن نجهد كي نوضح مدى الشبه بين الحجر والخبز. أصف الآن بعض الحجارة التي تسدّ مسدّ أخلاق الأرض. إن أحد العيوب الأساسية في منظومة حفاظية تستند كليًا على الدوافع الاقتصادية يتمثل في أن معظم أعضاء مجتمع الأرض ليس لهم قيمة اقتصادية. ومن أمثلة ذلك، الزهور البرية والطيور المغرّدة. فمن بين 22000 من النباتات والحيوانات العليا البَلَديّة native في ويسكونسن، ليس ثمة شك إن كان ما يزيد عن 5 بالمائة منها يمكن بيعها أو التغذي عليها أو أكلها أو استعمالها اقتصاديًا في نواحي أخرى. ومع ذلك، فهذه المخلوقات أعضاء في المجتمع الحيوي، وإذا كان استقرارها (كما اعتقد) يعتمد على سلامتها، فهي تستحق البقاء. عندما يتعرض أحد هذه الأصناف غير الاقتصادية للخطر، ويصدف أننا نحبه، فإننا نخترع الذرائع لإضفاء أهمية اقتصادية عليه. ففي مستهلّ القرن العشرين افتُرض أن الطيور المغرّدة ستختفي، فسارع علماء الطيور إلى إنقاذها بتقديم أدلّة واهية على أن الحشرات سوف تلتهمنا إذا ما فشلت الطيور في السيطرة عليها. كان ينبغي للدليل أن يكون اقتصاديًا كي يصبح ساري المفعول. من المؤلم أن نشير إلى هذه المواربات اليوم. ليس لدينا أخلاق للأرض بعدُ، لكننا على الأقل اقتربنا من نقطة الاعتراف بأن بقاء الطيور هو قضية حق حيوي، بغض النظر عن وجود أو غياب منفعة اقتصادية لنا. وتوجد حالة مماثلة تتعلق بالثدييات المفترسة والطيور الجارحة والطيور آكلة السمك. مرّ زمن عندما كان علماء البيولوجيا يجهدون أنفسهم إلى حدّ ما كي يثبتوا أن هذه المخلوقات تصون سلامة الطرائد بقتلها الضعفاء منها، أو أنها تسيطر على القوارض لمصلحة المزارع، أو أنها تفترس فقط الأنواع "غير المفيدة." وهنا من جديد، كان ينبغي للدليل أن يكون اقتصاديًا كي يصبح ساري المفعول. ففي الأعوام الأخيرة فقط بدأنا نسمع الحجة الأكثر براءة وفحواها أن المفترسات أعضاء في المجتمع، وليس ثمة لأصحاب المصلحة الخاصة الحق في إبادتها لأجل منفعتهم أنفسهم، سواء كانت منفعة حقيقية أو متوهَّمة. ومن سوء الطالع أن هذه النظرة المتنورة ما تزال في طور النقاش. ففي الحقل تستمر إبادة المفترسات بابتهاج: فلنشهد على الزوال الوشيك لذئب الغابات بفعل ترخيص قتله من قبل الكونغرس ودوائر الحفاظ والعديد من الهيئات التشريعية في الولايات. بعض الأنواع "طردها من الحفلة" خبراء الغابات ذوي الذهنية الاقتصادية، ذلك أنها تنمو ببطء شديد أو أن قيمة مبيعها منخفضة جدًا كأخشاب: الأرز الأبيض والطمَّراق والسرو والزَّان والشوكران أمثلة عليها. أمّا في أوروبا، حيث علم الغابات أكثر تقدمًا من الناحية الإيكولوجية، فقد عُدّت أنواع الأشجار غير الثمينة تجاريًا أعضاء في مجتمع الغابة المحلي ينبغي صونها بذاتها ولسبب مقنع. زد على ذلك أن بعضها (كالزّان) اكتشف أن لها وظيفة ثمينة في تحسين خصوبة التربة. والتواكل بين الغابة وأنواع الأشجار المكوِّنة لها والحياة الحيوانية والنباتية كان مسلّمًا به. ويكون الافتقار إلى القيمة الاقتصادية في بعض الأحيان صفة لا تخص النوع الحي أو الجماعات فحسب، بل مجتمعات حيوية بأكملها: من الأمثلة على ذلك المستنقعات والسبخات والكثبان و"الصحارى." إن وصفتنا في مثل هذه الحالات تتمثل في إحالة الحفاظ عليها إلى الحكومة باعتبارها ملاذات أو أملاك عامة أو متنزهات. وتكمن المشكلة في أن مثل هذه المجتمعات تتخللها عادة أراضٍ خاصة أكثر قيمة؛ ومن الممكن ألا تستطيع الحكومة تملك أو السيطرة على هذه الأراضي المبعثرة. والنتيجة أننا أَحَلْنا بعضًا منها إلى الانقراض النهائي بمساحات هائلة. فلو أن المالك الخاص ذو ذهنية إيكولوجية، سيفخر في أن يكون أمينًا على حصة معقولة من هذه المساحات بما يضيف التنوع والجمال إلى مزرعته ومجتمعه. وفي بعض الحالات، يثبت أن الافتقار المزعوم للنفع في هذه المساحات "المهملة" خاطئ، ولكن فقط بعد أن يكون قد تمّ التخلّص منها. إن الاندفاع الراهن لإعادة غمر المستنقعات في أمريكا الشمالية مَثَل وثيق الصلة بهذا الموضوع. ثمة ميل واضح لدى حركة الحفاظ الأمريكية كي تحيل إلى الحكومة كل الأعمال الضرورية التي يخفق ملاّك الأراضي الخاصّون في إصلاحها. إن التملك أو الإجراءات أو الإعانات المالية أو التنظيم من قبل الحكومات يتغلغل حاليًا على نطاق واسع في الحِرَاجة forestry وإدارة المراعي وإدارة التربة ومستجمِعات الأمطار والحفاظ على المنتزهات والبراري وإدارة المصايد السمكية وإدارة الطيور المهاجرة، وثمة المزيد مما هو قادم. ومعظم هذا التنامي في الحفاظ الحكومي مميّز ومنطقي، وبعضه لا مناص منه. وأمّا أنني لم اُبدِ اعتراضًا عليه فذلك ناشئ ضمنًا عن حقيقة أنني قضيت معظم حياتي أعمل من أجله. ومع ذلك، ينبثق سؤال: ما المدى الأقصى للمشروع؟ هل ستتحمل القاعدة الضريبية تبعاته النهائية؟ وعند أية نقطة سوف يصبح الحفاظ الحكومي، على غرار أفيال الماستودون الضخمة، معاقًا نتيجة حجمه؟ والجواب، إذا كان ثمة جواب، تقدمه أخلاق الأرض، أو أية قوة أخرى، تعزو إلزامات أكثر إلى ملاّك الأراضي الخاصون. إن الصناعيين من ملاّك الأراضي وأصحاب حق استعمالها، خصوصًا تجار الأخشاب ومربّو الماشية، نزّاعون إلى الشكوى الطويلة والصارخة من توسّع التملك والتنظيم الحكوميين للأرض، لكنهم (مع استثناءات بارزة) يظهرون ميلاً قليلاً نحو تطوير البديل الملموس الوحيد: الممارسة الطوعية للحفاظ في أراضيهم الخاصة. عندما يُطلب من مالك الأرض الخاص إنجاز عمل ما من أجل صالح المجتمع، فإنه اليوم يوافق ببسط يده وحسب. فإذا كان العمل يكلفه نقودًا فهو جيّد ومناسب، إمّا إذا كان يتطلب منه فقط البصيرة أو الذهنية المنفتحة أو الوقت، فالقضية، على الأقل، موضع جدل. إن النمو الغامر في الإعانات المالية المتعلقة باستعمال الأرض في الأعوام الأخيرة ينبغي عزوه، في قسم كبير منه، إلى الوكالات الحكومية العاملة من أجل التعليم الحفاظي: مكاتب الأرض وكليات الزراعة والخدمات المتوسّعة. وبقدر ما يمكنني استبيانه، ليس ثمة إلزام أخلاقي إزاء الأرض يجري تدريسه في هذه المؤسسات. والخلاصة: إن منظومة الحفاظ المستندة حصريًا على المصلحة الشخصية الاقتصادية غير متوازنة بشكل ميئوس منه. فهي تجنح إلى إهمال، وفي المآل حذف، الكثير من العناصر في مجتمع الأرض المفتقرة للقيمة التجارية، لكن (بقدر ما نعرف)، الأساسية من أجل سلامة وظائف هذا المجتمع. وهي تفترض خطأ، كما أظن، أن الأجزاء الاقتصادية من الساعة الحيوية سوف تعمل بدون الأجزاء غير الاقتصادية. كما أنها تجنح نحو الإحالة إلى الحكومة لكثير من الوظائف والأعمال التي هي في آخر الأمر ضخمة جدًا أو معقدة جدًا أو مشتتة على نطاق عريض جدًا، بحيث لا تستطيع الحكومة إنجازها. إن الالتزام الأخلاقي من قبل مالك الأرض الخاص هو العلاج الملموس الوحيد لهذه الحالات. هرم الأرض The Land Pyramid إن أخلاقًا مكمِّلة ومرشدة لعلاقتنا الاقتصادية بالأرض لتفترض مسبقًا وجود صورة ذهنية ما عن الأرض بما هي آلية حيوية. فيمكننا أن نكون أخلاقيين فقط في علاقتنا بشيء ما نستطيع رؤيته أو الشعور به أو فهمه أو حبه، أو من ناحية أخرى، الإيمان به. إن الصورة المستخدمة على نحو شائع في التعليم الحفاظي هي "توازن الطبيعة." ولأسباب لا يمكن التفصيل فيها طويلاً هنا، يخفق هذا الشكل من الحديث في الوصف الدقيق للقليل الذي نعرفه عن آلية الأرض. إن الصورة الأصح هي تلك المستخدمة في الإيكولوجيا: الهرم الحيوي the biotic pyramid. سأصوّر أولاً الهرم بما هو رمز الأرض، ومن ثمّ، أبسط تدريجيًا بعض مضامين هذه الصورة بلغة استعمال الأرض. تمتص النباتات الطاقة من الشمس. وتتدفق هذه الطاقة عبر دائرة تدعى الحياة النباتية والحيوانية يمكن تمثيلها بهرم مؤلف من طبقات. التربة هي الطبقة السفلى. وتقبع طبقة النبات على التربة، وطبقة الحشرات على النباتات، وطبقة الطيور والقوارض على الحشرات، وهكذا صعودًا عبر مجموعات حيوانية متنوعة حتى الطبقة العليا، التي تتألف من اللواحم الأضخم. تتشابه الأنواع الحية في طبقة ما، لكن ليس بتحدّرها، أو بما تبدو عليه هيئتها، بل بما تأكل. فكلّ طبقة تالية تتكل على الطبقات التي تحتها في الغذاء وغالبًا في الخدمات الأخرى، وهي بدورها تمد بالغذاء والخدمات الطبقات التي تعلوها. وبالصعود إلى أعلى، تتناقص الوفرة العددية لكل طبقة تالية. لذلك، من أجل كل حيوان لاحم ثمة مئات من الفرائس، ومن ثم آلاف من الفرائس، وملايين من الحشرات، وعدد لا يحصى من النباتات. يعكس الشكل الهرمي للمنظومة هذا الازدياد العددي من القمة إلى القاعدة. ويتشاطر الإنسان طبقة وسيطة مع الدببة والراكون والسنجاب التي تقتات على كل من اللحم والنبات. ويدعى مخطط الاعتماد على الغذاء والخدمات الأخرى بالسلسلة الغذائية. وهكذا فإن التربة - البلوط - الأيّل - الهندي الأحمر سلسلة تحولّت الآن إلى حد كبير إلى سلسلة التربة - الشعير - البقرة - المزارع. وكل نوع حيّ، بما في ذلك نحن البشر، هو حلقة في سلاسل كثيرة. فالأيّل يقتات على مئات النباتات فضلاً عن البلوط، وتقتات البقرة على مئات النباتات فضلاً عن الشعير. فكلاهما، إذن، حلقتان في مئات السلاسل. إن الهرم كتلة متشابكة من السلاسل شديدة التعقيد حتى لتبدو فوضوية، لكن استقرار المنظومة يثبت أنها بنية عالية التنظيم يستند عملها على التعاون والتنافس بين أجزائها المتنوعة. في البدء، كان هرم الحياة خفيضًا قصيرًا؛ فسلاسل الغذاء قصيرة وبسيطة. وقد أضاف التطور طبقة تلو طبقة وحلقة تلو حلقة. والإنسان واحدة من بين آلاف الإضافات إلى ارتفاع وتعقيد الهرم. لقد زودنا العلم بكثير من الشكوك، لكنه زودنا، على الأقل، بيقين واحد: إن اتجاه التطور هو لتوسيع وتنويع الحياة النباتية والحيوانية. إذن، الأرض ليست مجرّد التربة؛ إنها ينبوع للطاقة المتدفقة عبر دائرة التربة والنبات والحيوان. وسلاسل الغذاء هي القنوات الحية التي تنقل الطاقة صعودًا؛ والموت والتحلّل يعيدهما إلى التربة. وليست الدائرة مغلقة؛ فبعض الطاقة يتبدد عند التحلل، وبعضها يضاف عن طريق الامتصاص من الهواء، وبعضها يخزّن في التربة والخُثّ والغابات المعمِّرة؛ لكنها دائرة مستدامة، مثل ذخيرة الحياة المتعاقبة المتنامية ببطء. وثمة على الدوام خسارة أخيرة بفعل الانجراف، لكن هذا يكون ضئيلاً عادة، ويعوّضه تفتت الصخور التي ترسب إلى قيعان المحيطات وما تلبث حتى تصعد في سياق الزمن الجيولوجي كي تشكل أراضٍ جديدة وأهرام جديدة. إن سرعة وخصائص التدفق الصاعد للطاقة يعتمد على البنية المعقدة لمجتمع النبات والحيوان، على غرار ما يعتمد التدفق الصاعد للنسغ في شجرة على تنظيمها الخلوي المعقّد. فبدون هذا التعقيد، من المحتمل ألاّ يحدث الدوران الطبيعي. وتشمل البنية الأعداد المميزة وكذلك الأصناف والوظائف المميزة للأنواع الحية المكوِّنة لها. هذا التواكل بين البنية المعقدة للأرض وأدائها السلس كوحدة طاقية هو أحد خاصياتها الأساسية. عندما يحدث تغير في أحد أجزاء الدائرة يجب أن يتكيف العديد من الأجزاء الأخرى معه. وليس بالضرورة أن تعيق التغيرات أو تحرف تدفق الطاقة؛ فالتطور سلسلة طويلة من التغيرات المحرَّضة - ذاتيًا نتيجتها النهائية تعقّد آلية التدفق وزيادة طول الدائرة. لكن التغيرات التطورية تكون عادة بطيئة وموضعية. وقد مكّن اختراع الأدوات الإنسان من إحداث تغيرات غير مسبوقة في عنفها وسرعتها ومداها. يتمثل أحد هذه التغيرات في التدخل في المجموع النباتي والمجموع الحيواني. هكذا، تُبتر المفترسات الضخمة من ذروة الهرم؛ وسلاسل الغذاء، للمرّة الأولى في التاريخ، تصبح أقصر وليس أطول. كما يستبدل بالأنواع الحية البرية أنواع مدجنة مجلوبة من أراضٍ أخرى، في حين تُنقل الأنواع البرية إلى موائل جديدة. وفي هذا التلاعب العالمي النطاق في مواطن الحياة النباتية والحياة الحيوانية، تُطرد بعض الأنواع الحية من موائلها وكأنها أوبئة أو أمراض، في حين يُقضى على أنواع أخرى. ونادرًا ما تكون مثل هذه النتائج مطلوبة أو متنبَّأ بها؛ فهي تمثل تعديلات مستجدة في البنية غير متوقعة وغير ممكن تقفي أثرها. وأصبح علم الزراعة، على نطاق واسع، في سباق بين ظهور أوبئة جديدة واختراع تقنيات جديدة للسيطرة عليها. ويمسّ تغيّر آخر تدفق الطاقة عبر النباتات والحيوانات ورجوعها إلى التربة. تعني الخصوبة قدرة التربة على تلقي وتخزين وتحرير الطاقة. وقد تتسبب الزراعة، من خلال الاستجرار الزائد للتربة، أو الإحلال المفرط جدًا للأنواع المدجنة بدلاً من البلديّة على سطح التربة، بإفساد قنوات تدفق الطاقة أو استنفاد المخزون. ويكون استنفاد مخزون التربة أو المادة العضوية المخصِّبة لها أسرع من تشكلها وهذا هو الحتّ. والمياه، كالتربة، جزء من دورة الطاقة. وإذ تلوث الصناعة هذه المياه أو تعيقها بواسطة السدود قد تؤدي إلى إزالة النباتات والحيوانات اللازمة للحفاظ على دوران الطاقة. ويُحدث النقل transportation تغيرًا أساسيًا آخر: فالنباتات أو الحيوانات التي تنمو في أحد الأقاليم تُستهلك وتعود إلى التربة في إقليم آخر. فالنقل يَبْزُل الطاقة المخزنة في الصخور والهواء ويستعملها في مكان آخر؛ هكذا تُسمَّد الحديقة العامة بالآزوت الذي تلتقطه الطيور البحرية من أسماك البحار في الجانب الآخر من خط الاستواء. وبالتالي فإن الدوائر المتمركزة محليًا والمكتفية ذاتيًا السابقة، تنتقل على نطاق عالمي الانتشار. إن سيرورة تغيير الهرم بفعل الأشغال البشرية يطلق الطاقة المختزنة، ويؤدي غالبًا خلال الفترة الأولى إلى وفرة خادعة في الحياة النباتية والحيوانية. وينزع هذا الإطلاق للرأسمال الحيوي باتجاه حجب أو إرجاء ردود الفعل العنيفة. يوحي هذا المخطط الموجز للأرض كدورة طاقية بثلاث أفكار أساسية: 1. إن الأرض ليست مجرّد التربة. 2. إن النباتات والحيوانات البلدّية تُبقي دورة الطاقة مفتوحة؛ في حين أن غيرها قد يبقيها مفتوحة أو لا. 3. إن التغيرات المُحدَثة بشريًا ذات نظام مختلف عن التغيرات التطورية ونتائجها أكثر شمولاً مما يُطلَب أو يُتوقع. تطرح هذه الأفكار، بإجماليتها، قضيتين أساسيتين: هل تستطيع الأرض التكيف مع النظام الجديد؟ هل يمكن إنجاز التغيرات المرغوبة بعنف أقلّ؟ تبدو الآهلات النباتية والحيوانية biotas متباينة في قدرتها على تحمل التحوّل العنيف. فأوروبا الغربية، مثلاً، تتسم بهرم مختلف جدًا عمّا رآه قيصر هناك. بعض الحيوانات الضخمة اختفت؛ والغابات المستنقعية أضحت مروجًا أو أراضٍ محروثة؛ واستُقدم الكثير من الحيوانات والنباتات الجديدة التي نجا بعضها من الأوبئة؛ أما الأنواع البلدية المتبقية فتغيّر كثيرًا توزيعها ووفرتها. ومع ذلك، ظلّت التربة هناك، وبفضل المغذِّيات المستقدمة بقيت خصبة؛ والمياه تجري على نحو طبيعي؛ وبدا أن البنية الجديدة تعمل وتتواصل. فليس ثمة توقف ملموس أو تعطيل للدورة. وبالتالي فالآهلة النباتية الحيوانية في أوروبا الغربية مقاومة. إن سيروراتها متينة ومرنة ومقاومة للإجهاد. ولا يهمّ مدى عنف التغيرات، فالهرم قد طوّر إلى حد بعيد طرقًا للعيش تصون صلاحيته لسكنى البشر وأغلب الأنواع البلدية الأخرى. وتقدم اليابان مثلاً آخر عن التحول الحاد دون التعرض للاختلال. إن معظم الأقاليم الحضرية الأخرى، وبعضها بالكاد مسّته الحضارة حتى الآن، تُبدي درجات متنوعة من الخلل تتراوح بين الأعراض الأولية والخسارة الفادحة. ففي آسيا الصغرى وشمال أفريقيا يختلط التشخيص بالتغيرات المناخية التي قد تكون إما سبب أو نتيجة الخسارة الفادحة. وفي الولايات المتحدة تتفاوت درجة الخلل محليًا؛ فهي الأسوأ في الجنوب الغربي وأوزاركس وأجزاء من الجنوب، وأقلّ من ذلك في نيوإنكلاند والشمال الغربي. ومن المحتمل أن الاستعمال المحسَّن للأرض لا يزال يكبح الخسارة في الأقاليم الأقل تقدمًا. ففي أجزاء من المكسيك وأمريكا الجنوبية وأفريقيا الجنوبية واستراليا تحدث خسارة سريعة وعنيفة، لكنني لا أستطيع تخمين التوقعات. إن هذا الخلل في الأرض في معظم أنحاء العالم ليبدو شبيهًا بالمرض الذي يصيب حيوانًا ما باستثناء أنه لا يبلغ الذروة تمامًا أو الموت. فالأرض تتعافى، لكن إلى حدٍّ منخفض من التعقيد، وبقدرة منخفضة على تحمّل البشر والنباتات والحيوانات. فالكثير من الآهلات النباتية الحيوانية التي تعدّ حاليًا "أراضي الفرص" هي في الواقع تعيش الآن على الزراعة الاستثمارية، وهذا يعني أنها تجاوزت قدرة تحملها المستدامة. وبهذا المعنى، تعدّ أمريكا الجنوبية في معظمها مكتظة بالسكان. نحاول في المناطق القاحلة تعويض سيرورة الخسارة عن طريق الاستصلاح. لكن الأمر الوحيد المُثبت تمامًا هو أن العمر المتوقع لمشاريع الاستصلاح قصير غالبًا. ففي الغرب بالتحديد، قد لا يدوم معظمها قرنًا من السنين. إن الأدلة المركبَّة من التاريخ والإيكولوجيا تبدو معزِّزة لنتيجة عامة واحدة فحواها: كلما كانت التغيرات المُحدَثة بشريًا أقل عنفًا، ازداد احتمال نجاح التعديل في الهرم. وبدوره، يتفاوت العنف تبعًا للكثافة السكانية البشرية؛ فالعدد الكثيف من السكان يفضي إلى تحوّل أكثر عنفًا. وبهذا الصدد، تحظى أمريكا الشمالية بفرصة أفضل من أوربا للبقاء، هذا إذا أفلحت في ضبط كثافة السكان. تعاكس هذه النتيجة فلسفتنا الراهنة التي تزعم أنه نظرًا لكون الزيادة الصغيرة في الكثافة قد أغنت الحياة البشرية، فإن زيادة غير محدودة سوف تغنيها على نحو غير محدود. ولا تعلم الإيكولوجيا عن كثافة تستمر إلى تخوم واسعة بلا حدود. فكل المكاسب من الكثافة تخضع لقانون تناقص العائدات. ومهما تكن المعادلة بين البشر والأرض فمن غير المحتمل أننا حتى الآن نعرف كلّ حدودها. ثمة اكتشافات حديثة في المغذيات المعدنية والفيتامينات تُظهر تواكلات غير متوقعة في أعلى الدائرة: إن مقادير ضئيلة جدًا من مواد معينة تحدِّد قيمة التربة للنباتات، وقيمة النباتات للحيوانات. فماذا عن أسفل الدائرة؟ ماذا عن الأنواع الحية المتلاشية، التي ننظر الآن إلى صونها كترف جمالي؟ لقد أعانت على بناء التربة؛ فبأية طرق غير متوقعة قد تكون ضرورية لدوامها؟ يقترح الأستاذ ويفر استخدام زهور المروج لإعادة التماسك إلى التربة المبددة في مناطق العواصف الغبارية؛ فمن يعلم لأي غرض قد نستعمل ذات يوم الكراكي والنسر وثعلب الماء والدبّ الرمادي؟ عافية الأرض والانقسام A-B إذن، تعكس أخلاق الأرض وجود ضمير إيكولوجي، وهذا بدوره يعكس الاقتناع بالمسؤولية الفردية عن عافية الأرض. تعني العافية قدرة الأرض على التجدد الذاتي. وإن الحفاظ هو السعي في سبيل فهم وصون هذه القدرة. إن صيت الحفاظيين سيء نظرًا للشقاقات فيما بينهم. وهذا يبدو وكأنه يزيد في التشويش، أمّا إنعام النظر بحذر فيكشف مستوى واحدًا من الانقسام تشترك فيه الكثير من الحقول المتخصصة. في كل حقل، توجد جماعة (A) تعتبر أن الأرض هي التربة وأن وظيفتها إنتاج السلع؛ والجماعة الأخرى (B) تعتبر أن الأرض آهلة نباتية حيوانية ووظيفتها أوسع من ذلك. أمّا إلى أي مدى هي أوسع فلا يمكن إنكار أن ذلك موضع شك وخلط. في علم الغابات، وهو حقل اهتمامي الشخصي، المجموعة A مقتنعة تمامًا بتنمية الأشجار كأوراق البنكنوت على اعتبار أن السيللوز هو السلعة الحراجية الأساسية. وهي لا ترى منع العنف؛ فإيديولوجيتها زراعوية. ومن جهة أخرى، ترى المجموعة B أن علم الغابات مختلف أساسيًا عن علم الزراعة لأنه يستخدم الأنواع الحية الطبيعية ويُعنى بإدارة بيئة طبيعية بدلاً من خلق بيئة مصطنعة. وتفضل المجموعة B مبدئيًا التكاثر الطبيعي. فهي تقلق، على أسس حيوية إضافة إلى الاقتصادية، إزاء خسارة الأنواع الحية من قبيل الكستناء، والفقدان الخطر للأناناس الأبيض. كما تقلق إزاء سلسلة كاملة من الوظائف الثانوية للغابة: الحياة البرية والاستجمام والمستجمعات المائية والمناطق البرية. وباعتقادي أن المجموعة B تشعر بمثيرات الضمير الإيكولوجي. ويوجد في حقل الحياة البرية انقسام مماثل. فالمجموعة A تعدّ أن السلع الأساسية هي الرياضة واللحم؛ ولا معايير معتمدة في صيد التَّدْرج والسلمون. والتوالد الصنعي مقبول كوسيلة دائمة ومؤقتة - إذا كانت كلفة الوحدة تسمح بذلك. من جهة أخرى، تقلق المجموعة B إزاء سلسلة كاملة من القضايا الجانبية الحيوية. فما هو الثمن من حياة المفترسات بعد غلّة صيد؟ هل ينبغي لنا التماس عون إضافي من الأنواع المجلوبة؟ هل باستطاعة الإدارة تعويض الأنواع الحية المتقلصة، من قبيل طَيْهوج المروج، الميئوس منها وكأنها طريدة جريحة؟ هل تستطيع الإدارة تعويض القلّة المهدَّدة من قبيل الإوز البواق والكراكي الصاخب؟ وهل يمكن توسيع مبادئ الإدارة لتشمل الأزهار البرية؟ هنا، من جديد، يتضح لي أننا أمام الانقسام نفسه A-B كما في علم الغابات. إنني أقل اقتدارًا على التحدث في الحقل الأوسع للزراعة، لكن يبدو أن هناك انقسامات مماثلة إلى حد ما. فقد تطورت الزراعة العلمية على نحو فعّال قبل ولادة الإيكولوجيا، وبالتالي من المتوقع أن تتخللها المفاهيم الإيكولوجية ببطء. زد على ذلك أن المزارع، عبر طبيعة تقنياته، لابد له أن يعدّل الآهلة النباتية الحيوانية بحدّة أكثر من خبير الحراج أو مدير الحياة البرية. مع ذلك، ثمة الكثير من الاستياء في حقل الزراعة مما يقوي الرؤية الجديدة حول "الزراعة الحيوية biotic farming". لعلّ الأكثر أهمية من كل ذلك الأدلةُ الجديدة على أن الرسوم والضرائب على الغلال ليست مقياسًا للقيمة الغذائية لمحاصيل المزرعة؛ فربما تكون منتجات التربة الخصبة أعظم شأنًا من الناحية الكيفية والكمية. فنستطيع دعم الضرائب على التربة المستنفذة بالإغداق على الخصوبة المستوردة، لكننا لا نستطيع بالضرورة دعم القيمة الغذائية. إن النتائج القصوى المحتملة لهذه الفكرة هائلة جدًا ولذلك ينبغي أن أترك عرضها للأقلام الأكثر اقتدارًا. إن الاستياء الذي يضع نفسه تحت عنوان "الزراعة العضوية organic farming" وإن كان يحمل بعض علامات الإعجاب، هو مع ذلك حيوي في توجهه وعلى الأخص في إلحاحه على أهمية التربة في المجموع النباتي والمجموع الحيواني. إن الأساسيات الإيكولوجية للزراعة معروفة على نحو هزيل للجمهور كما هو الحال في الحقول الأخرى لاستعمال الأرض. فمثلاً، تدرك قلّة متعلمة وحسب أن التطورات المدهشة في التقنية التي حصلت في العقود الأخيرة هي تحسينات في المضخة وليس في البئر. فهي بالكاد قد أسهمت في تعويض المستوى المتدني للخصوبة. في جميع هذه الانقسامات، نشهد تكرارًا المفارقات الأساسية عينها: الإنسان المستعمِر إزاء الإنسان المواطن الحيوي؛ العلم الذي يشحذ سيفه إزاء العلم الذي ينير عالمه؛ الأرض الأَمَة الخادمة إزاء الأرض ككائن عضوي جماعي. لعلّ نصيحة روبنسون إلى تريسترام تنطبق جيدًا، في هذه العطفة من التاريخ، على الإنسان العاقل بما هو نوع حيّ في سياق الزمن الجيولوجي:
أردت أم لا النظرة العامة لا أستطيع تذهّن إمكانية وجود علاقة أخلاقية بالأرض بعيدًا عن الحب والاحترام والإعجاب إزاء الأرض والتقدير البالغ لقيمتها. وبالطبع، أعني بالقيمة شيئًا أكثر رحابة من مجرد القيمة الاقتصادية؛ أعني القيمة بالمعنى الفلسفي. لعلّ العقبة الأكثر أهمية التي تعترض سبيل تطور أخلاق الأرض تكمن في حقيقة أن منظومتنا التعليمية والاقتصادية موجهة بعيدًا عن، وليس نحو، الوعي العاطفي بالأرض. فالإنسان الحديث مفصول عن الأرض من قبل كثير من الوسطاء وعدد لا يحصى من الأدوات المادية. ليس له علاقة حيوية بها؛ إنها بالنسبة إليه المساحة الواقعة بين المدن حيث تنمو المحاصيل. دَعْه طليقًا لمدة يوم في الأرض فإذا لم يصبح المكان ملعب غولف أو بقعة "منظرية" فإنه سيغدو ضَجِرًا. ولو أن المحاصيل تنمو في أحواضٍ بدلاً من زراعتها، فذلك سوف يناسبه تمامًا. إن البدائل الصنعية للخشب والجلد المدبوغ والصوف والمنتجات الطبيعية الأخرى للأرض تناسبه أكثر من الأصلية. باختصار، الأرض شيء قد "استغنى عنه". ثمة عقبة أمام أخلاق الأرض معادلة تقريبًا في أهميتها وتتمثل في موقف المزارع الذي لا يزال يرى الأرض عدوًا أو ناظرًا عليه يستبعده. ومن الناحية النظرية، ينبغي لمكننة الزراعة أن تحطم أغلال المزارع، أمّا إن كانت قد فعلت ذلك حقًا فهو موضع نقاش. إن أحد مستلزمات الإدراك الإيكولوجي للأرض هو فهم الإيكولوجيا، وهذا على أية حال يُرافق "التعليم"؛ وفي الواقع، يبدو أن الكثير من التعليم العالي يتجنب عمدًا المفاهيم الإيكولوجية. إن فهم الإيكولوجيا لا ينشأ بالضرورة في الحلقات الدراسية ذات العناوين الإيكولوجية؛ فمن المحتمل تمامًا لهذا الفهم أن يحمل عناوين الجغرافيا أو علم النبات أو علم الزراعة أو التاريخ أو علم الاقتصاد. هذا ما ينبغي أن يكون، ولكن مهما يكن العنوان فإن التدريب الإيكولوجي نادر. إن قضية أخلاق الأرض ستبدو خاسرة ولكن فقط بالنسبة للأقلية التي تثور بوضوح ضدّ هذه الاتجاهات "الحديثة." إن العقبة التي يجب إزالتها من أجل إطلاق السيرورة التطورية للأخلاق هي ببساطة: التخلي عن التفكير في الاستخدام اللائق للأرض وكأنه مشكلة اقتصادية حصرًا، واختبار كل مسألة بواسطة ما هو صائب أخلاقيًا وجماليًا، إضافة إلى ما هو مفيد اقتصاديًا. يكون الشيء صائبًا عندما يميل إلى صون تكامل واستقرار وجمال المجتمع الحيوي، ويكون خاطئًا عندما يميل إلى عكس ذلك. ومن البديهي طبعًا أن الملاءمة الاقتصادية تقيِّد نطاق ما يمكن أو لا يمكن القيام به إزاء الأرض. فهذا يحدث دومًا وسوف يحدث دومًا. لكن الوهم الذي ربطه الحتميون الاقتصاديون حول أعناقنا، ونحتاج اليوم إلى التخلص منه، هو الاعتقاد بأن الاقتصاد يحدد كل ما يخص استعمال الأرض. ببساطة، هذا ليس صحيحًا. فثمة مجموعة لا تحصى من الأفعال والمواقف، ربما تشمل مجمل علاقات الأرض، تتحدد بأذواق وميول مستخدم الأرض وليس بمحفظة نقوده. إن مجمل علاقات الأرض لتتوقف على الاستثمارات في الزمن، والبصيرة النافذة، والمهارة أو الثقة، بأكثر مما تتحدث بالاستثمارات المالية. لقد طرحتُ عامدًا أخلاق الأرض كنتاج للتطور الاجتماعي لأن لا شيء أكثر أهمية من الأخلاق قد "كُتب" أبدًا. وفقط الطالب الأكثر سطحية في التاريخ يفترض أن موسى "كتب" الوصايا العشر؛ فلقد تطورت في أذهان مجتمع مفكر ثم كتب موسى خلاصة مؤقتة عنها من أجل "مناقشتها." قلت مؤقتة لأن التطور لا يتوقف أبدًا. إن تطور أخلاق الأرض سيرورة عقلية إضافة إلى كونها عاطفية. وإن حركة الحفاظ معبَّدة بالنوايا الطيبة التي يثبت أن لا طائل من ورائها، أو حتى أنها خطرة، ذلك أنها تخلو من الفهم النقدي للأرض أو للاستعمال الاقتصادي للأرض. وأعتقد أن من الحقائق البديهية القول أنه مع تقدم الحقل الأخلاقي من الفرد إلى المجتمع فإن فحواه العقلي يتزايد. إن آلية العمل هي ذاتها بالنسبة لأية أخلاق: الاستحسان الاجتماعي للأفعال الصائبة والاستهجان الاجتماعي للأفعال الخاطئة. إجمالاً، مشكلتنا الراهنة تكمن في المواقف والوسائل. فنحن نعيد بناء قصر الحمراء بجرافة بخارية، وفخورون بمقاييسنا. وبالكاد سوف نتخلى عن الجرافة، ففي النهاية إن لها كثيرًا من المزايا، لكننا بحاجة إلى معايير ألطف وأكثر موضوعية من أجل استخدامها بنجاح. ترجمة: معين رومية *** *** *** [1] المقالة مقتبسة من كتاب الفلسفة البيئية: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذرية، ترجمة معين شفيق رومية، ج1، سلسلة عالم المعرفة، نوفمبر 2006. [2] المقصود أن حضارتهم بادت بفعل المذابح التي تعرضوا لها لاحقًا. (المترجم)
|
|
|